بُسْتَانُ العَارِفِينَ
للفقيه الزاهد العالم العامل والأستاذ المحدث المتقن الكامل
مولانا الشيخ نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رضي الله عنه آمين
{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (قرآن كريم)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد له رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السموات والأرضين. (قال الفقيه) أبو الليث الزاهد نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة الله تعالى عليه: إني قد جمعت في كتابي هذا من فنون العلم ما لا يسع جهله ولا التخلف عنه للخاص والعام واستخرجت ذلك من كتب كثيرة وأوردت فيه ما هو الأوضح للناظر فيه والراغب إليه، وبينت الحجج فيما يحتاج إليه من الحجة بالكتاب والأخبار والنظر والآثار، وتركت الغوامض من الكلام، وحذفت أسانيد الأحاديث تخفيفاً للراغبين فيه وتسهيلاً للمجتهدين والتماساً لمنفعة الناس، وأنا أرجو الثواب من الله تعالى [وسميته: بستان العارفين] وأسأل الله التوفيق فإنه عليه يسير وهو على ما يشاء قدير نعم المولى ونعم النصير.
الباب الأول: في طلب العلم
(قال الفقيه) رحمه الله: اعلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة على قدر ما يحتاج إليه لأمر دينه مما لا بدّ له من أحكام الوضوء والصلاة وسائر الشرائع ولأمور معاشه، وما وراء ذلك ليس بفرض خاص فإن تعلم الزيادة فهو أفضل وإن تركه فلا إثم عليه. وإنما قلنا إن تعلم مقدار ما يحتاج إليه فريضة لأن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقال في آية أخرى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فأخبر الله تعالى أنهم صاروا من أهل النار لجهلهم. وروى مكحول عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وفي خبر آخر ((اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أصحابه، وعليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه. ثم تكلم الناس في طلب الزيادة قال بعضهم: إذا تعلم من العلم مقدار ما يحتاج إليه ينبغي أن يشتغل بالعمل به ويترك التعلم، وقال بعض الناس: إذا اشتغل بزيادة العلم فهو أفضل بعد أن لا يدخل النقصان في فرائضه وهذا القول أصح. فأما حجة الطائفة الأولى فيما روى جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن أبي الدرداء قال: ويل للذي لا يعلم مرة وويل للذي يعلم ولا يعمل به سبع مرات. وروي عن فضيل بن عياض أنه قال: من عمل بما يعلم شغله الله تعالى عما لا يعلم. وقال: لأن العمل لنفسه وطلب الزيادة لغيره، فالاشتغال بأمر نفسه بما هو لنفسه أولى لأن فكاك رقبة نفسه أهم إليه: وأما حجة الطائفة الأخرى فقول الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} الآية، وقال في آية أخرى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال في آية أخرى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب} الآية. قال أهل التفسير: يعني كونوا فقهاء علماء. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فضل العلم خير من العمل وملاك دينكم الورع)). وعن الحسن البصري رحمه الله قال: من العمل أن يتعلم الرجل العلم فيعلمه الناس. وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تذاكر العلم ساعة من الليلة أحب إلى الله من إحيائها. وعن عوف بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي ذر الغفاري فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه ولا أعمل به، فقال: إنك إن تتوسد بالعلم خير لك من أن تتوسد بالجهل، ثم ذهب إلى أبي الدرداء فسأله فقال أبو الدرداء: إن الناس يبعثون من قبورهم على ما ماتوا عليه: العالم عالماً والجاهل جاهلاً، ثم ذهب إلى أبي هريرة فسأله عن ذلك فقال له أبو هريرة: كفى بتركه ضياعاً. وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: الناس رجلان عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وسائرهم همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، والعلماء باقون ما بقي الدهر وأعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، ولأن منفعة العمل لنفسه خاصة ومنفعة العلم ترجع إلى نفسه وإلى الناس عامة فصار هذا أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس من ينفع الناس)) وروي ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: العلم، فسأله ثانياً وثالثاً فأجابه مثل جوابه الأول، فقال: يا رسول الله عليك السلام إني أسالك عن العمل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل يقبل الله الأعمال إلا بالعلم)) وروي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أفضل ما يتصدق به العبد أن يتعلم العلم ثم يعلمه غيره)) والأخبار في هذا كثيرة.
الباب الثاني: في كتابة العلم
(قال الفقيه) رضي الله تعالى عنه: كره بعض الناس كتابة العلم وأباح ذلك عامة أهل العلم، فأما حجة من كره ذلك فما روى الحسن البصري ((أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله إن ناساً من اليهود والنصارى يحدثون بأحاديث أفلا نكتب بعضها؟ فنظر إليه نظرة عرف بها الغضب في وجهه قال: ((أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم ببيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) فقيل للحسن ما المتهوكون؟ قال: المتحيرون. وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ((أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة العلم الحسن فلم يأذن له)) وعن ابن مسلم قال: كان ابن عباس ينهى عن الكتابة ويقول إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة. وروى ابن أبي داود عن أبيه قال: جاء أصحاب عبد الله بن مسعود إلى عبد الله فقالوا إنا قد كتبنا عنك علماً أفنعرضه عليك فتبينه لنا؟ قال: نعم، فأتوه بذلك فأخذ الكتاب فغسله بالماء ثم رده عليهم. قال الفقيه: وذلك أنهم إذا كتبوا الكتاب اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض على الكتابة عارض فيفوت علمهم، ولأن الكتاب مما يزاد فيه وينقص، ولأن الكتاب يمكن أن يزاد فيه ويغير والذي حفظ لا يمكن التغيير فيه، ولأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي أخبر عن الكتاب أخبر بالظن من غير حفظ، وأما حجة من قال بأنه يجوز فما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب أنا، وعن ابن جريج بن معرور أنه قال: قال عبد الله بن عمر ((يا رسول الله إنا لنسمع منك الحديث أفنكتبه عنك؟ قال: نعم قلت في الرضا والسخط؟ قال: نعم، فإني لا أقول فيهما إلا حقاً)) وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب علماً فلا يعد علمه علماً. وقال الله تعالى خبراً عن موسى عليه الصلاة والسلام حين سألوه عن القرون الأولى قال موسى عليه السلام: {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}. وعن ربيع بن أبي أنيس عن جديه زيد وزياد أنهما قدما على سليمان بن عبد الملك ليلاً فلم يزل يحدثهما ويكتبان حتى أصبحا. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يعجزن أحدكم أن يكون عنده كتاب من هذا العلم، ولأن فيه بلوى فلو لم يكتب لذهب عنه العلم ولو كتب لرجع إليه فيما ينسى أو يشكل عليه مسروراً. وهذا كما حكي أن أبا يوسف عاب محمداً في كتابة العلم، فقال محمد: إني خفت ذهاب العلم لأن النساء لا يلدن مثل أبي يوسف ولأن الأمة قد توارثت كتابة العلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)) وما رآه المسلمون شيناً فهو عند الله شين)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) ولأنهم لما توارثوا ذلك صار ذلك سبيل المؤمنين حقاً بدليل الخبر، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أصحابي كالنجوم الزاهرة بأيهم اقتديتم اهتديتم)) وعن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اكتبوا هذا العلم من كل غني وفقير ومن كل صغير وكبير، ومن ترك العلم من أجل أن صاحب العلم فقير أو أصغر منه سناً فليتبوأ مقعده في النار)).
الباب الثالث: في الفتوى
(قال الفقيه) الزاهد أبو الليث رحمه الله: كره بعض الناس الفتوى وأجازها عامة أهل العلم إذ كان الرجل ممن يصلح لذلك. فأما حجة الطائفة الأولى فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى)) وروي عن سلمان أن أناساً كانوا يستفتونه فقال: هذا خير لكم وشر. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى. وعن ابن سيرين أنه قال: قال حذيفة بن اليمان: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً من ذلك، أو أحمق متكلف وكان ابن سيرين إذا سئل عن شيء يقول: لست بأحد هذين وأكره أن أكون الثالث. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل بن معبد قالوا: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله اقض بيننا بكتاب الله تعالى، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي فأقول، فأذن له عليه الصلاة والسلام فقال: إن ابني هذا كان عسيفاً على هذا الرجل وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم)) ففي هذا الحديث دليل على جواز الفتوى لأنه قال سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني فلم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواهم، وفي الخبر أيضاً دليل على أن الفتوى تجوز وإن كان غيره أعلم منه ألا ترى أنهم كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ((أنه سئل عن محرم كسر بيض نعامة، فأمره علي بكل بيضة أن ينحر ولد ناقة، فجاء السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له رسول الله قد قال لك علي ما سمعت ولكن هلم إلى الرخصة فعليك بكل بيضة إطعام مسكين)) وروي عن أبي هريرة أنه سئل بالبحرين عن حلال إذا ذبح صيداً فأكله محرم فقال يجوز، فلما رجع أبو هريرة إلى عمر أخبره بذلك، فقال عمر لو قلت غير هذا لفعلت بك كذا وكذا، ولأن الصحابة كانوا يفتون في الحوادث)) وهكذا توارث المسلمون ولأن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فلما أمر الله تبارك وتعالى الجهال بأن يسألوا العلماء فقد أخبر العلماء بأن يخبروهم إذا سألوهم عن ذلك. وحكي أن جماعة اختاروا من العقلاء ثلاثة ليذكروا: من أعقل؟ فاجتمع رأيهم أعقل الناس من يقول ما يعلم.
الباب الرابع: فيمن يجوز له الفتوى
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء يعني أبا حنيفة وصاحبيه، ويعلم من أين قالوا ويعرف معاملات الناس، فإن من عرف أقاويل العلماء ولم يعرف معاملات الناس ومذاهبهم فإن سئل عن مسألة يعلم أن العلماء الذين ينتحل مذهبهم قد اتفقوا عليها فلا بأس بأن يقول هذا جائز وهذا لا يجوز ويكون قوله على سبيل الحكاية، وإن كانت مسألة قد اختلفوا فيها فلا بأس بأن يقول هذا جائز في قول فلان؛ ولا يجوز له أن يختار قولاً فيجيب بقول بعضهم ما لم يعرف حجته. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة منهم زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعاقبة بن يزيد وآخر وهو الحسن بن زياد، فكلهم أجمعوا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا. وروى إبراهيم بن يوسف عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا. وروي عن عصام بن يوسف أنه قيل له إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة قد أوتي من الفهم ما لم نؤت فأدرك بفهمه ما لم ندركه، ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. (قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي لمن جعل نفسه مفتياً أو تولى شيئاً من أمور المسلمين وجعل وجه الناس إليه أن لا يردهم قبل أن يقضي حوائجهم إلا من عذر، ويستعمل الرفق والحلم وروى القاسم بن محمد عن ابن أبي مريم وكانت له صحبة مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولي من أمور المسلمين شيئاً واحتجب دون خلتهم يوم حاجتهم وفاقتهم احتجب الله تعالى يوم القيامة دون خلته وفاقته وحاجته)) وينبغي للمفتي أن يكون متواضعاً ليناً ولا يكون جباراً عنيداً ولا فظاً غليظاً لأن الله تعالى قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)).
الباب الخامس: من الاختلاف
(قال الفقيه) أبو الليث رضي الله تعالى عنه: تكلم الناس في مسألة اختلف العلماء فيها، قال بعضهم: كلاهما صواب وهو قول المعتزلة، وقال بعضهم: أحدهما صواب والآخر خطأ إلا إنه رفع عنه الإثم وهذا القول أصح. فأما حجة الطائفة الأولى فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع نخيل بني النضير فكان أبو ليلى المازني يقطع النخل العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللوز، فقيل لأبي ليلى لم تقطع العجوة؟ قال: لأن فيه كبتاً للعدو فقيل لعبد الله بن سلام لم تقطع اللوز؟ فقال لأني أعلم أن النخيل تصير للنبي صلى الله عليه وسلم فأريد أن تبقى له العجوة، فنزل قوله تعالى {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} فقد رضي الله تعالى بما فعل الفريقان جميعاً. وأما حجة الطائفة الأخرى فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه لقال لعمرو بن العاص: إقض بين هذين، فقال أقضي وأنت حاضر؟ فقال: نعم، قال: على ماذا أقضي؟ قال: على أنك إن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك أجر واحد)). فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتهد في اجتهاده قد يخطئ وقد يصيب، ولأن الله تعالى قال: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} إلى قوله تعالى {ففهمناها سليمان} فمدح الله تعالى سليمان بأنه أدرك بفهمه ما لم يدرك به داود عليهما السلام، ولو كان كلا الحكمين صواباً في اجتهاد الرائي لكان لا يستوجب المدح بفهمه، ولو كان أحد القولين خطأ فقد رفع الإثم عنه لأنه كان مأذوناً له الاجتهاد. وروى موسى الجهني عن طلحة بن مطرف أنه كان إذا ذكر عنده الاختلاف فقال: لا تقولوا الاختلاف ولكن قولوا السعة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما أحب أن يكون لي باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمر النعم: يعني أن اختلافهم أحب إلي من حمر النعم لأنهم لو لم يختلفوا لكان لا يجوز لأحد بعدهم الاختلاف وإذا لم يجز الاختلاف لضاق الأمر على الناس. وروي عن القاسم بن محمد قال: اختلاف الصحابة كان رحمة للمسلمين.
الباب السادس: في رواية الحديث بالمعنى
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في رواية الحديث بالمعنى. قال بعضهم: لا يجوز إلا بلفظه، وقال بعضهم: يجوز وهو الأصح. أما حجة الطائفة الأولى فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رحم الله امرأ سمع مني حديثاً فبلغه كما سمع)) وروى البراء بن عازب ((أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلاً دعاء وكان في آخر دعائه ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) فقال الرجل وبرسولك الذي أرسلت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل ونبيك الذي أرسلت فنهاه عن تغيير اللفظ)) وأما حجة من قال إنه يجوز بالمعنى فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)) فقد أمرنا بالتبليغ عاماً. وروي عن واثلة بن الأسقع وكان من الصحابة قال: إذا حدثناكم حديثاً بالمعنى فحسبكم. وقال ابن عوف: كان إبراهيم النخعي والشعبي والحسن البصري يؤدون الحديث بالمعنى. وقال وكيع: لو لم يكن بالمعنى واسعاً لهلك الناس وقال سفيان الثوري: إني لو قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، ولأن الله تعالى قال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} بلفظ العربية، ولو كان قومهم لا يفقهون بلفظ العربية فلا بدّ له من البيان والتفسير، فثبت أن العبرة للمعنى لا للفظ.
الباب السابع: في رواية الحديث والإجازة
(قال الفقيه) أبو الليث رضي الله تعالى عنه: اختلف الناس في رواية الحديث لو قال مكان حدثنا أخبرنا أو قال مكان أخبرنا حدثنا يجوز أم لا؟ قال بعض أهل الحديث: إذا قرأت الحديث على محدث فأردت أن تروي عنه ينبغي لك أن تقول أخبرنا فلان، وإن كان لمحدث قرأ عليك فقل حدثنا فلان. وقال أكثر أهل العلم: كلاهما سواء وبه نأخذ. وقد روي عن أبي يوسف القاضي رحمه الله أنه قال: إذا قرأت الحديث على فقيه أو قرأ عليك فإن شئت قلت حدثنا، وإن شئت قلت أخبرنا، وإن شئت قلت سمعت من فلان: وروي عن أبي مطيع أنه قال: سألت أبا حنيفة فقلت له أقول: حدثنا أو أقول أخبرنا قال: إن شئت قلت حدثنا وإن شئت قلت أخبرنا. وروي عن شعبة بن الحجاج أنه قال: إن شئتم قلتم حدثنا وإن شئتم قلتم أنبأنا وإن شئتم قلتم أخبرنا، وإن قال المحدث أجزت لك أن تحدث عني فلا يجوز لك أن تقول حدثنا ولا أخبرنا، وجاز أن تقول أجازني فلان. (قال الفقيه) رحمه الله: سمعت الخليل بن أحمد القاضي رحمه الله قال: سمعت أبا طاهر أحمد ابن سفين الديامي قال: إذا قال المحدث أجزت لك فكأنه قال أجزت لك بأن لا تكذب علي. (وقال الفقيه) رحمه الله: ولو كتب إليك المحدث بحديث أو دفع إليك كتابه وقال حدثني فلان بجميع ما فيه جاز لك أن تقول، أخبرنا فلان ولا يجوز أن تقول حدثنا فلان لأن الكتابة خبر والحديث لا يكون إلا بالمخاطبة، ألا ترى لو أن رجلاً حلف أن لا يخبر فلاناً بكذا، فكتب إليه بذلك فإنه يحنث، ولو حلف بأن لا يحدثه فكتب إليه فإنه لا يحنث ما لم يخاطبه. وروى أبو ضمرة عن عبد الله بن عمر قال: رأيت عبد الله بن شهاب يؤتى بالكتاب فيقال له هذا كتابك عرفته؟ فيقول: نعم، فيرضون بما قرأه عليهم وما قرؤوه عليه فينسخون ويخبرون به. وروى عبد العزيز بن أبان عن شعبة قال: كتب إلي منصور بن المنعم بحديث فلقيته فسألته عن ذلك فقال أليس قد كتبت إليك كتاباً؟ فقلت له إذا كتبت إلي فقد حدثتني به؟ قال نعم، فذكرت ذلك لأيوب السختياني فقال صدق إذا كتب إليك فقد حدثك. وروي عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال: كتابة العلم إليك وسماعك منه بمنزلة واحدة يجوز الرواية عنه إذا كتب إليك كما يجوز لو سمعت منه، ولكن يختلفان في لفظ الرواية.
الباب الثامن: في أخذ العلم من الثقات
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: ينبغي أن لا يؤخذ العلم إلا من أمين ثقة لأن قوام الدين بالعلم، فينبغي للرجل أن لا يأتمن على دينه إلا من يجوز أن يؤتمن على نفسه. وروى عباد بن كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تحدثوا ممن لا تقبلون شهادته)) وعن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وعن المحسن أنه قال: من قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً فلا تأخذوا عنه علماً ولا تعتمدوا عليه، فإن قيل أليس قد روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العلم ضالة المؤمن حيثما وجده أخذه)) قيل له حيثما وجده أخذه إذا كان الذي أخبره به ثقة وكلامه ينجع، وأما إذا كان الذي أخبره به غير ثقة فلا يأخذه منه، ولو أن رجلاً سمع حديثا أو سمع مسألة فإن لم يكن القائل ثقة فلا يسع أن يقبل منه إلا أن يكون قولاً يوافق الأصول فيجوز العمل به ولا يقع به العلم، وكذلك لو وجد حديثاً مكتوباً أو مسألة فإن كان موافقاً للأصول جاز له أن يعمل به وإلا فلا. وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حديث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)).
الباب التاسع: في إباحة مجلس العظة
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس الجلوس للعظة، وقال بعضهم لا بأس به إذا أراد به وجه الله تعالى، وهذا القول أصح لأنه تعلم الشرائع. فأما من كره ذلك فقد احتج بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء)). وعن تميم الداري أنه استأذن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يقص على الناس في كل سبت يوماً قال: وما تصنع بذلك؟ قال تذكراً للناس. قال ذكر إن شئت واعلم أنه الذبح وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استقصى فد ذبح بغير سكين)) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((القاص ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة)) وعن أبي قلابة أنه انصرف عن الصلاة فجاء رجل يقص ويصيح، فقال له أبو قلابة إنما أنت حمار ناهق وإن عدت إلينا لنؤدبنك. وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: أكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} الآية، وقوله تعالى {لم تقولون ما لا تفعلون} الآية، وقوله تعالى {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} وفي الحديث ((إن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستح مني)) وأما حجة من قال أنه لا بأس به فقول الله تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال تعالى في آية أخرى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا معشر القصاص لا تقصوا فقد فقه الناس. ففي هذا الخبر دليل على أن القوم إذا لم يعلموا فلا بأس به. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان يذكر الناس كل عشية خميس وهو قائم على رجليه يدعو بدعوات. وروي عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: من كتم على الناس علماً يعلمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وعن أبي هريرة أنه قال: لولا آية لما جلست للناس وهي قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل فإن فيهم الأعاجيب ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس كلهم مثل البهائم.
الباب العاشر: في آداب المذكر
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: أول ما يحتاج إليه المذكر يجب أن يكون صالحاً في نفسه لأنه لو لم يكن صالحاً يهرب منه العقلاء ويقتدي به السفهاء فيكون في ذلك فساد العالم وكلامه لا ينجع في قلوب الناس، وينبغي للمذكر أن يكون ورعاً فلا يحدث الناس بحديث لم يصح عنده لأنه روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) وينبغي أن لا يطول المجلس فيمل الناس لأنه يذهب بركة العلم. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للقلوب نشاطاً وإقبالاً وإن لها تولية وإدباراً فحدث القوم ما أقبلوا عليك. وروي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((روحوا القلوب ساعة فساعة)) وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان قاض في بني إسرائيل يطول عليهم فأملهم فلعن ولعنوا. وينبغي للمذكر أن يكون متواضعاً ليناً ولا يكون متكبراً ولا فظاً غليظاً لأن التواضع واللين من أخلاق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وإذا أراد أن يخبر الناس بشيء من فضائل الصلاة والصيام والصدقة، فينبغي أن يعمل به أولاً حتى لا يكون من أهل هذه الآية {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقال إبراهيم النخعي: إني أكره القصص لثلاث آيات وقد ذكرناها، وينبغي للمذكر أن يكون عالماً بتفسير القرآن والأخبار وأقاويل الفقهاء. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلاً يقص للناس فقال له أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال لا، فقال له علي: هلكت وأهلكت. وينبغي للمذكر إذا حدث الناس أن لا يقبل بوجهه إلى واحد بل يعمهم. وقد روي عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: من السنة أن لا يقبل بوجهه على رجل واحد ولكن يعمهم، ولا ينبغي للمذكر أن يكون طماعاً لأن الطمع يذل الإنسان ويذهب بهاء الوجه والعلم، ولو أهدى إليه إنسان من غير مسألة فلا بأس أن يقبل هديته، وينبغي أن يكون في مجلسه الخوف والرجاء، ولا يجعل كله خوفاً ولا كله رجاء لأنه نهى عن ذلك فإن كان المذكر يحتاج إلى تطويل المجلس فيستحب له أن يجعل في خلال مجلسه كلاماً يستظرفونه ويتبسمون بذلك فإن ذلك يزيد نشاطاً وإقبالاً على السماع. وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا جلس رغب الناس في الآخرة وزهدهم في الدنيا، فإذا رآهم قد كسلوا أخذ في ذكر الغرس والبناء والحيطان، فإذا رآهم قد نشطوا أقبل في ذكر الآخرة.
الباب الحادي عشر: في آداب المستمعين
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: ينبغي أن يقبل المستمع إلى وجه المذكر ويستمع منه بصحيح القلب ولا يشتغل بشيء غيره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من سمع مسألة وحديثاً فعمل بذلك فإنه حي ومنجي، ومن سمع حديثاً فلم يعمل به فإنه يهلك)) ويستحب للمستمعين عند فصل كل حديث أن يقولوا صدقت أو أحسنت حتى يكون المذكر راغباً في الحديث، ويصلي عند كل سماع اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينزع وسواس الشيطان عن قلبهم، ولا ينام في حال المجلس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من نام عند المجلس فقد خاب من رحمة الله تعالى وكان حبيب الشياطين)).
الباب الثاني عشر: في الحث على طلب العلم وتفضيل الفقه على غيره
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: ينبغي للإنسان أن يتعلم العلم ولا يقنع بالجهل لأن الله تعالى قال {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ففضل أهل العلم على غيرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا خير فيمن لم يكن عالماً أو متعلماً)) وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما لي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم بذهاب العلماء، وقال عروة بن الزبير لبنيه: يا بني تعلموا فإن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين، وما أقبح علي من شيخ لم يكن عنده علم. وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره رأيت أن سفره لم يضع. ثم اعلم أن العلم على أنواع، وكل ذلك عند الله حسن وليس كالفقه، فينبغي للرجل أن يكون تعلم الفقه أهم إليه من غيره لأن من تعلم الفقه تيسر عليه سائر العلوم، والفقه هو قوام الدين. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين)) وقال ((لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد جاهل)) وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لأن أجلس فأتفقه ساعة أحب إلى الله من إحياء ليلة بلا فقه. وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا، وإذا أخذ الإنسان حظاً وافراً من الفقه ينبغي أن لا يقتصر على الفقه ولكن ينظر في علم الزهد والحكمة وفي كلام الآخرة وفي شمائل الصالحين فإن الإنسان إذا تعلم الفقه ولم ينظر في علم الزهد والحكمة قسا قلبه والقلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولو تعلم من علم النجوم والحكمة قسا قلبه والقلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولو تعلم من علم النجوم والحكمة مقدار ما يعرف به الحساب فلا بأس به ولا يزيد عليه إذا تعلم مقدار ما يهتدي به إلى أمر القبلة وأمر الحساب قال الله تعالى {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وقال في آية أخرى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} الآية، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا من النجوم مقدار ما تعرفون به أمر قبلتكم، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المناظرة في النجوم، وقال عبد الله بن عباس لميمون بن مهران: لا تتبع علم النجوم فإنه يؤدي إلى السحر والكهانة.
الباب الثالث عشر: في مناظرة العلم
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: كره بعض الناس المناظرة والجدال في العلم واحتجوا بقول الله تعالى {ما ضربوه لك إلا جدلاً} وقال في موضع آخر {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} فلامهم على المجادلة وذمهم عليها. وروت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أبغض الناس إلى الله تعالى الألد الخصم)) وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((دع المراء ولو كنت محقاً)) وروي بلفظ آخر أنه قال: ((لا يجد أحدكم حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق)) ولأن المراء يؤدي إلى العداوة والعداوة بين المسلمين حرام قال عامة أهل العلم لا بأس بها إذا قصد بها ظهور الحق لقوله تعالى {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقال أيضاً {فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً} وقال {ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} إلى قوله {فبهت الذي كفر}. وروي عن طلحة بن عبيد الله أنه قال ((تذاكرنا في لحم صيد يأكله المحرم وقد ذبحه حلال والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فارتفعت أصواتنا فاستيقظ من ذلك قال: فماذا تتنازعون؟ فأخبرناه فأمرنا بأكله)) ولم ينكر عليهم جدالهم في المسألة ولأن في المناظرة ظهور الحق من الباطل والنظر في طلب الحق مباح، والآثار التي وردت في النهي معناها إذا جادل بغير حق وأراد به المباهاة فهو مكروه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. من تعلم العلم لثلاث فهو في النار: أن يباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الخلق إلى نفسه)).
الباب الرابع عشر: في آداب المتعلم
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: فأول ما يحتاج إليه المتعلم أن يصحح نيته لينتفع بما يتعلم وينتفع به من يأخذ منه، فإذا أراد أن يصحح نيته يحتاج إلى أن ينوي أربعة أشياء: أولها أن ينوي بتعلمه الخروج من الجهل لأن الله تعالى قال {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} والثاني أن ينوي به منفعة الخلق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس من ينفع الناس)) والثالث: أن ينوي به إحياء العلم، لأن الناس لو تركوا التعلم لذهب العلم كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعلموا العلم قبل أن يرفع العلم)) ورفعه ذهاب العلماء، والرابع أن ينوي به أن يعمل به لا بخلافه لأن العلم آلة للعمل وطلب الآلة لا للعمل لغو كما إذا عمل لا بالعلم فهو لغو. وقيل العلم بلا عمل وبال، والعمل بلا علم ضلال: وينبغي للمتعلم أن يطلب به وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا ينوي به طلب الدنيا، لأنه إذا طلب به وجه الله تعالى والدار الآخرة فإنه ينال الأمرين جميعاً كما قال الله تعالى {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}. وروى زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ذليلة)) وإذا لم يقدر على تصحيح النية فالتعلم أفضل من تركه لأنه إذا تعلم العلم فإنه يرجى أن يصحح العلم نيته لأنه روي في الخبر أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من طلب العلم لغير وجه الله تعالى لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله تعالى والدار الآخرة)) وقال مجاهد: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كثير من النية ثم رزقنا الله فيه النية. وإذا أراد الخروج إلى الغربة فالأفضل له أن يخرج بإذن أبويه فإن لم يأذنا له فلا بأس بالخروج إذا كانا مستغنيين عن خدمته، ولا ينبغي للمتعلم أن يترك شيئاً من الفرائض أو يؤخرها عن وقتها، ولا ينبغي أن يؤذي أحداً لأجل التعلم فتذهب بركة العلم، ولا ينبغي للمتعلم أن يكون بخيلاً بعلمه إذا استعار منه إنسان كتاباً أو استعان به لتفهيم مسألة أو نحو ذلك، فلا ينبغي له أن يبخل به لأنه يقصد بتعلمه أولاً منفعة الخلق في المآل، فلا ينبغي له أن يمنع منفعته في الحال. وقال عبد الله بن المبارك: من بخل بعلمه ابتلي بإحدى ثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه، أو يبتلى بسلطان جائر، أو ينسى العلم الذي حفظه. وينبغي للمتعلم أن يوقر العلم ولا ينبغي له أن يضع الكتاب على التراب فإذا خرج من الخلاء وأراد أن يمس الكتاب يستحب له أن يتوضأ أو يغسل يديه ثم يأخذ الكتاب، وينبغي للمتعلم أن يرضى بالدون من العيش من غير أن يترك حظ نفسه من الأكل والشرب والنوم، وينبغي للمتعلم أن يقلل معاشرة الناس ومخالطتهم ومباشرة النساء ومخالطتهن ولا يشتغل بما لا يعنيه. ويقال في المثل من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه. وقيل للقمان الحكيم بم نلت ما نلت؟ فقال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني. وينبغي للمتعلم أن يتدارس على الدوام ويتذاكر المسائل مع أصحابه أو وحده، فقد روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بالحديث ثم يدخل بيته فنتذاكر بيننا فكأنما زرع في قلوبنا، وذكر في قوله تعالى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} يعني بالدرس بجد ومواظبة. ويقال في المثل: عليك بالدرس فإن الدرس هو الغرس، وقيل لعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بم أدركت هذا العلم؟ قال بلسان سؤول وقلب عقول وفؤاد غير ملول وكف بذول. وروي عن بعض الأخبار زيادة: وبدن في الضراء والسراء صبور. وقال الشعبي: من رق وجهه رق علمه، وقيل لبزرجمهر بم نلت ما نلت؟ قال ببكور كبكور الغراب وتملق كتملق الكلب وتضرع كتضرع السنور وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار. وينبغي للمتعلم إذا وقعت بينه وبين إنسان منازعة أو خصومة أن يستعمل الرفق والإنصاف ليكون فرقاً بينه وبين الجاهل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه)) وينبغي للمتعلم أن يعظم أستاذه فإن تعظيمه يظهر فيه بركة العلم، وإذا استخف به ذهبت عنه بركة العلم: وينبغي للمتعلم أن يداري الناس لأنه يقال خير الناس من يداري وشر الناس من يماري. ويقال إنما ينتفع المتعلم بكلام العالم إذا كان في المتعلم ثلاث خصال: التواضع في نفسه، والحرص على التعلم، والتعظيم بالعالم. فبتواضعه ينجع فيه العلم، وبحرصه يستخرج العلم، وبتعظيمه يستعطف العلماء.
الباب الخامس عشر: في قبول القضاء وعدم قبوله
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: اختلف الناس في قبول القضاء: قال بعضهم: لا ينبغي أن يقبل القضاء، وقال بعضهم: إذا ولي بغير طلب منه فلا بأس بأن يقبل إذا كان يصلح لذلك الأمر، وهذا قول أصحابنا: أما من كره ذلك فاحتج بما روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يجاء بقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أن لم يكن قضى بين اثنين)) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من جعل قاضياً فكأنما ذبح بغير سكين)) وروى شريك عن الحسن البصري قال: كانت بنو إسرائيل إذا استقضى الرجل منهم أيس له به من النبوة. وروى أبو أيوب قال: دعي أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشام فوافق ذلك عزل قاضيها، فهرب واختفى حتى أتى اليمامة فلقيته بعد ذلك فقال: ما وجدت مثل القضاء إلا كمثل سابح في البحر فلم يحسن أن يسبح حتى غرق. وروي عن سفيان الثوري أنه دعي إلى القضاء فهرب إلى البصرة واختفى، فبعث أمير المؤمنين في طلبه فلم يقدروا عليه فمات وهو متوار، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ابتلي بالضرب والحبس فلم يقبل حتى مات: وأما حجة من قال بأنه لا بأس به فما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد القضاء وسأل عليه الشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه نزل عليه ملك يسدده)) وعن الحسن أنه قال: كان يقال لأجر حكم عدل يوماً واحداً أفضل من أجر رجل يصلي في بيته سبعين سنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة ((لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) وروي عن أبي موسى الأشعري أن رجلين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه فقالا استعملنا على بعض أعمالك فإن عندنا خيراً وأمانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعمل على عملنا من أراده وطلبه)).
الباب السادس عشر: في آداب القاضي
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس والنظر وفي غيره كما جاء في الأثر. روت أم سلمة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بين الخصمين في المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر مما على الآخر، وينبغي للقاضي أن يكون في قضائه فارغ القلب)) وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقض القاضي إلا وهو شبعان ريان)) وروي عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه كتب إلى ابنه وكان قاضياً بسجستان: أن لا تقض بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((لا يقضِ القاضي بين اثنين وهو غضبان)) وقال الحسن البصري رحمه الله: أخذ الله تعالى على الحكام بثلاثة أشياء: أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوا الله تعالى ولا يخشوا الناس ولا يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ثم تلا قوله تعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقرأ قوله تعالى {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} وقرأ أيضاً {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} إلى قوله {ففهمناها سليمان} ثم قال الحسن: لولا ما ذكر الله تعالى من أمر هذين لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكن الله أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده.
الباب السابع عشر: في فضل تعلم القرآن وتعليمه
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: لا ينبغي للقارئ أن يترك حظه من قراءة القرآن في بعض الأوقات فكلما كان أكثر فهو أفضل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أفضل الناس الحال المرتحل قيل وما الحال المرتحل؟ قال الخاتم المفتتح صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره كلما حل ارتحل وينبغي للقارئ أن يختم القرآن في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة)) وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: من قرأ القرآن في السنة مرتين فقد أدى حقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على جبريل في السنة التي توفي فيها مرتين. وروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الإنسان من المسجد فلم أر خيراً أعظم من قراءة القرآن، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من آية أو سورة أوتيها الرجل فنسيها)) وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه غيره)) وقال أبو عبد الرحمن: فذلك الذي أقعدني هذا المقعد: يعني به جلوسه لتعليم الناس وكان معلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما: قال ذو النون: دخلت مسجداً فرأيت رجلاً يقرأ {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} يرددها ويمص فاه كأنه يشرب شيئاً، فقلت له يا هذا أتشرب أم تقرأ؟ فقال لي يا بطال إني لأجد من قراءته لذة وحلاوة مثل ما أجد لشرب ما قرأته. وفي الخبر إن لإسرافيل عليه الصلاة والسلام نغمة طيبة فهو إذا أراد قراءة القرآن قطع صلاة الملائكة لاستماعهم إليه، وكان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت أعطي من حسن الصوت ما لو تلا الزبور جمد الماء واحتبس الطير في الهواء والبهائم والوحوش في الأرض وتخللت السباع بين الأغنام، فلما ظهرت منه تلك الزلة سلبت الحلاوة من نغمته، فقال يا رب ما فعلت بنغمتي؟ فأوحى الله عز وجل إليه أطعتنا فأطعناك وعصيتنا فأمهلناك ولو كنت غدوت كما كنت قبلناك قال: فإذا كان يوم القيامة أمر إسرافيل عليه السلام بالقراءة، وأمر داود عليه الصلاة والسلام بالقراءة فيقول يا رب نغمتي؟ فيقال: ترد عليك نغمتك فترد عليه فيرفع الحور أصواتهن من الغرف فترفع أصوات لم يسمع الخلائق مثلها، فيقول الله عز وجل هل سمعتم نغمات طيبة؟ فيرفع الحجاب فيقول لهم ربهم سلام عليكم وذلك قوله تعالى {تحيتهم يوم يلقونه سلام}. (قال الفقيه) رحمه الله: التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها أن يعلم للحسبة ولا يأخذ له عوضاً، والثاني أن يعلم بالأجرة، والثالث أن يعلم بغير شرط فإذا أهدي إليه قبل. فأما إذا علم للحسبة فهو مأجور فيه وعمله عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأما إذا علم بالأجرة فقد اختلف الناس فيه، قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز له أخذ الأجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بلغوا عني ولو آية)) فأوجب على أمته التبليغ كما أوجب الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم التبليغ، فكما لم يجز للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الأجرة فكذلك لا يجوز لأمته، وقال جماعة من العلماء المتأخرين: إنه يجوز، مثل عصام بن يوسف ونصير بن يحيى وأبي نصر بن سلام وغيرهم، فالأفضل للمتعلم أن يشارط على الأجرة للحفظ وتعليم الهجاء والكتابة فلو شارط لتعليم القرآن أرجو أن لا بأس به لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه والوجه الثالث: أنه إن علم بغير شرط وأهدي إليه به قبل الهدية فإنه يجوز في قولهم جميعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معلماً وكان يقبل الهدية. وروى أبو المتوكل الباجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ((أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزوة فمروا بحي من أحياء العرب فقال هل فيكم من راق فإن سيد الحي قد لدغ؟ فرقاه رجل بفاتحة الكتاب فبرئ فأعطي قطيعاً من الغنم فأبى أن يأخذ، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بم رقيته؟ قال بفاتحة الكتاب، قال فما يدريك أنها رقية خذها واضربوا لي معكم فيها بسهم)) يعني إن أخذه مباح، وكره بعض الناس النقط والتعشير في المصاحف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وحجته ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: جردوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئاً مع كلام الله تعالى ولا تعشروه وزينوه بأحسن الأصوات واعربوه فإنه عربي، ولكن نقول النقط والتعشير لو فعل فلا بأس لأن المسلمين توارثوا ذلك فاحتاجوا إليه وخاصة للعجم لا بدّ من النقط والعلامات لأنهم متكلفون روي أنه قال: القرآن ماحل مصدق وشافع مشفع. والماحل الساعي. ولا يجوز للجنب ولا للحائض أن يقرأ القرآن ولا يمس المصحف إلا أن يكون في غلاف ولو كان محدثاً فلا بأس بأن يقرأ القرآن، ولا ينبغي له أن يمس المصحف إلا في غلافه لقوله تعالى في محكم تنزيله {لا يمسه إلا المطهرون} وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يمس القرآن إلا طاهر)) وأما القراءة فلا بأس بها إذا كان على غير وضوء لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن بعد ما خرج من الخلاء وكان لا يحجزه ولا يحجبه لشيء سوى الجنازة. والمستحب أن يكون متوضئاً ولا بأس بأن يقرأ الجنب والحائض أقل من آية واحدة، ولو كانت المرأة معلمة فحاضت فأرادت أن تعلم الصبيان ينبغي لها أن تلقن نصف آية ثم تسكت ثم تعلم نصف آية ولا تعلم آية تامة دفعة واحدة، ولا يجوز للجنب والحائض أن يدخلا المسجد ولا بأس للمحدث بدخول المسجد ولا بأس للجنب والحائض بالتسبيح والتهليل والدعوات، وإنما لا يجوز قراءة القرآن خاصة.
الباب الثامن عشر: في تفسير السبع المثاني
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في قول الله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. قال الراوي: ونسيت السابع، وإنما سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وذخرها لهم وهو قول التابعين. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أخرى أنه قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وقال ابن مسعود: السبع المثاني: فاتحة الكتاب. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى {سبعاً من المثاني} قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب، فقيل له إنهم يقولون هي السبع الطوال؟ فقال لقد أنزلت هذه الآية وما نزل شيء من الطوال. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هي فاتحة الكتاب)) وفي رواية أخرى أنه أراد به جميع القرآن، ويقال إنما سميت فاتحة الكتاب بالسبع المثاني فإنها سبع آيات، وتثنى بالقراءة في كل صلاة. وقيل إنما سميت بالسبع المثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة تعظيماً لها، والله أعلم.
الباب التاسع عشر: فيما نزل من القرآن بمكة والمدينة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: نزل من القرآن بالمدينة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأنفال، والتوبة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والقتال، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم، ولم يكن الذين كفروا، وإذا جاء نصر الله، وقل هو الله أحد، والمعوذتان، ونزل سائر السور بمكة. وقال بعضهم: ست آيات من سورة الأنعام، وبعض آيات من النحل، وبعض من بني إسرائيل، وبعض آيات من سورة القصص، وبعض آيات من سورة هل أتى على الإنسان، وآخر سورة الشعراء، وسورة والعاديات مدنية. وقال مجاهد: فاتحة الكتاب نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت بمكة.
الباب العشرون: في الكلام في سورة براءة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: اختلفوا في حذف بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة براءة. وقال بعضهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن أملاه على كاتب يكتبه، فلما أملى عليه سورة براءة نسي الكاتب كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فبقيت هذه بغير بسملة، وقال بعضهم: براءة نزلت لنقض العهد الذي كان بين المسلمين وبين الكفار، فلم تكتب بسم الله الرحمن الرحيم لأن في كتابة بسم الله أماناً لهم فتركت كتابتها لكي لا تكون أمانا. وأصح الأقاويل عندي ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن ذلك فقال: سورة الأنفال نزلت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وسورة التوبة نزلت آخر القرآن، وقصتها يشبه بعضها بعضاً، ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتبه علينا أمرهما أنهما سورتان أم لا؟ ففصلنا بينهما وتركنا كتابة بسم الله الرحمن الرحيم. وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: لأنها نزلت بالسيف: يعني لنقض العهد.
الباب الحادي والعشرون: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على أبي بن كعب
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ القرآن على أبي بن كعب فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم: إنما قرأ عليه القرآن ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة، وقال بعضهم: إنما قرأ عليه لأن أبي بن كعب كان أسرع أخذاً لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته عليه أن يأخذ أبي بن كعب ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأ كما سمع منه ويعلم غيره. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: ((إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني؟ قال: نعم، فبكى)) ويروى ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه {لم يكن الذين كفروا} وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} الحديث. أما بكاؤه فبكاء سرور واستصغار لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة وإعطائه هذه المنزلة والنعمة فيها من وجهين. أحدهما: لكونه منصوصاً عليه بعينه ولهذا قال وسماني معناه نص على تعييني، أو قال اقرأ على واحد من أصحابك قال بل سماك فتزايدت النعماء. والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فإنها منقبة عظيمة له لم يشاركه فيها أحد من الناس، وقيل إنما بكى خوفاً من تقصيره في شكر هذه النعمة. وأما تخصيصه بهذه السورة بالقراءة فلأنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات، وكان الحال يقتضي الاختصار. وأما الحكمة في أمره تعالى بالقراءة على أبي فهو أن يتعلم: أي ألفاظه وصيغة أدائه ومواضع الوقوف وضبط النغم، فإن نغمات القرآن على أسلوب ألفه الشرع وقدره بخلاف ما سواه من النغم المستعملة في غيره، ولكل ضرب من النغم أثر مخصوص في النفوس، فكانت القراءة عليه ليعلمه لا ليتعلم منه. وقيل: قرأ عليه ليبين عرض القرآن على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، وليبين التواضع في أخذ الإنسان القرآن وغيره من العلوم الشرعية من أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك، ولينبه الناس على فضيلة أبي في ذلك ويحثهم على الأخذ عنه وتقديمه في ذلك، وكان بعد النبي صلى الله عليه وسلم رأساً وإماماً مقصوداً في ذلك مشهوراً.
الباب الثاني والعشرون: في الشعر وإنشاده
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: قد تكلم الناس في إنشاد الشعر فكرهه بعض الناس، ورخص فيه آخرون. فأما من كرهه فاحتج بما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لأن يملتئ جوف أحدكم قيحاً ودماً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً)) ولأن الله تعالى قال {والشعراء يتبعهم الغاوون} يعني الضالون. وروي عن الشعبي أنه قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن مسروق أنه كان يتمثل ببيت من شعر فقطعه فقيل له لو أتممت البيت؟ فقال إني لأكره أن أجد في كتابي بيتاً من الشعر. وروي عن إبراهيم بن يوسف عن كثير بن هشام قال: سئل عبد الكريم عن قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء والشعر. وروي عن عطاء أن إبليس قال يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فأين بيتي؟ قال الحمام قال فأين مجلسي؟ قال: السوق قال فما قراءتي؟ قال الشعر قال فما حبالي؟ قال النساء قال فما حديثي؟ قال الغيبة والكذب قال فأين كتابي؟ قال الوشم. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن هشام بن عروة عن أبيه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشعر لحكمة)) وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما رأيت امرأة أعلم بشعر ولا بطب ولا بلغة ولا بفقه من عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. وروى سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم جالس يتبسم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قرأ أحدكم شيئاً من القرآن فلم يدر ما تفسيره فليلتمسه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب. قيل لأبي الدرداء كل الأنصار يقولون الشعر غيرك؟ قال: وأنا أقول أيضاً الشعر، ثم قال عند ذلك:
يريد المرء أن يعطى مناه # ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي # وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك يا ابن آدم في غرور # فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا # لهذا الموت راحلة وزادا
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ((أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما بلغها خبر أبي هريرة قالت: رحم الله أبا هريرة إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً يريد به من الشعر الذي هجت به: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل أيضاً إن معنى النهي في الشعر إذا اشتغل به فيشغله عن قراءة القرآن والذكر، وأما إذا لم يشغله ذلك عن ذلك فلا بأس به.
الباب الثالث والعشرون: فيما قيل في أشعار النبي صلى الله عليه وسلم
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: قد تكلم الناس في رواية الشعر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: لم يثبت عنه شعر، واحتجوا بما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أنه قيل لها هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بالشعر؟ قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه تمثل مرة ببيت أخي ابن قيس بن طرفة فجعل آخره أوله وهو قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً # ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود بالأخبار. فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا بشاعر وما ينبغي لي. ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} وقال بعضهم يجوز عليه الشعر كما جاء في الأخبار وهو ما روى ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق:
((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة # فارحم الأنصار والمهاجرة))
فأجابت الأنصار هذا الشعر:
نحن الذين بايعوا محمدا # على الوفاء ما بقينا أبدا
روى أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق المعول وقال:
بسم الإله وبه بدينا # ولو عبدنا غيره شقينا #فحبذا رباً وحب دينا))
وروى البراء بن عازب ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أنا النبي لا كذب # أنا ابن عبد المطلب))
وروى الأسود بن قيس عن جندب رضي الله تعالى عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الطريق فعثر فأصاب أصبعه حجر فدميت فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت # وفي سبيل الله ما لقيت))
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: هذه الأخبار صحيحة ولكنه يحتمل أنه لم يقصد بهذه الأخبار الشعر، ولكنه كلام خرج موافقاً للشعر من غير أن يقصد به شعراً، ولأن هذه الأبيات التي رويت عنه إنما هي رجز والرجز لا يكون شعراً، وإنما هي مثل السجع من الكلام.
الباب الرابع والعشرون: في عبارة الرؤيا
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: من تعلم علم الرؤيا فلا بأس به بعد ما تفقه في الدين وهو علم حسن، وقد من الله تبارك وتعالى على يوسف عليه الصلاة والسلام بعلم تعبير الرؤيا، وهو قوله تعالى {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث} يعني علم الرؤيا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: عليكم بالتفقه في الدين، والتفهم في العربية، وحسن العبارة: يعني عبارة الرؤيا، ولو كان ذلك يشغله عن علم الفقه فالكف عنه والاشتغال بعلم الفقه أفضل، لأن في علم الفقه معرفة أحكام الله تعالى وعلم الرؤيا بمنزلة فأل يتفاءل به. وروي عن أبي يوسف أنه سئل عن مسألة الرؤيا فقال أبو يوسف: حتى نفرغ من أمر اليقظة ثم نشتغل بأمر النوم, وروي عن محمد بن سيرين أنه كان ربما تقص عليه الرؤيا فيقول: اتق الله في اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم. وروى إسماعيل بن علية عن أيوب قال: بلغني عن محمد بن سيرين أن الناس يقولون إنه يقول في الرؤيا ولا يقول في الفتوى، فأمسك عن القول في الرؤيا، ثم قال فيها وقال: إنما هو ظن أظنه فما ظننت له في رؤياه خيراً حدثته إياه. وروى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً)) ففي هذه الأحاديث دليل على أن تركه لا يضره وإنما هو بمنزلة الفأل.
الباب الخامس والعشرون: في الرؤيا الصالحة وحسن العبارة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها من أحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره)) وروى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الرؤيا الصالحة من الله تعالى والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثة وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإنها لا تضره)) وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رأيت ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي فقصصتها على أبي بكر، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في بيتها قال لها أبو بكر هذا أحد أقمارك وهو خيرها، فلما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه ودفن قيل لها هو القمر الثاني، فلما مات عمر رضي الله تعالى عنه ودفن فيه قيل لها هو القمر الثالث. وروي عن محمد بن سيرين أنه كان يكره الغل في النوم، وكان يعجبه القيد وقال: القيد ثبات في الدين. وروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وكان محمد بن سيرين يقول: الرؤيا ثلاثة: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الرحمن، فمن رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم وليصل. وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء قال ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجها غائب فقالت كأني رأيت جائزة بيتي انكسرت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خيراً يكون إن شاء الله تعالى يرد الله عليك غائبك فرجع زوجها، ثم غاب فرأت مثل ذلك فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم تجده ووجدت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأخبرتهما بذلك فقالا لها يموت زوجك، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل عرضتيها على أحد؟ قالت نعم، فقال هو كما قيل لك، فما مضى زمان حتى نعي لها زوجها)) وقال عطاء كان يقال الرؤيا على ما أولت، وكان يقال لا تقص الرؤيا إلا على حكيم أو واد أو ذي رأفة، وقيل لا تقص الرؤيا إلا على لبيب أو حبيب. وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث أن الرؤيا على ما أولت. وقال أهل التحقيق: إن حكم الرؤيا لا يتغير بتغيير جاهل عبرها، كما أن مسألة من الفقه إذا أجاب بها جاهل لا يكون لذلك الجواب حكم فكذلك مسألة الرؤيا، وإنما كان قد تغير ذلك بتأويل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى صدق قوله لكرامته. وروى جابر ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت كأن رأسي قد سقط عني فاتبعته فأخذته)) فقال صلى الله عليه وسلم بأي عينيك رأيته حين سقط الرأس عنك، إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يخبر الناس به)) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أصدق الرؤيا ما كان بالأسحار)) وروى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي)) وقال صلى الله عليه وسلم ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة)) وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل)) وفي رواية ((وليس بعاقد)).
الباب السادس والعشرون: في الكلام في الطب والرقى
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: كره بعض الناس الرقى والتداوي وأجازه عامة العلماء، فأما من كره ذلك فاحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله لي أن يجعلني منهم، فدعا له، فقام رجل آخر فقال ادع الله لي أيضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة)) قيل كان الرجل الثاني منافقاً فلذلك لم يدع له لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يمتنع من الدعاء لمؤمن ((فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزل فقالوا فيما بينهم من الذين يدخلون الجنة بغير حساب؟ فقال بعضهم هم الذين ولدوا في الإسلام وماتوا على ذلك ولم يذنبوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقال: هم الذين لا يكتوون ولا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) وروي عن عمران بن حصين أنه قال: كنت أرى نوراً وأسمع كلام الملائكة حتى اكتويت فانقطع ذلك عني. وروى الأعمش عن أبي ظبان عن حذيفة بن اليمان أنه دخل على رجل يعوده فوضع يده على عضيده فإذا خيط، فقال له ما هذا؟ فقال رقى لي فيه فأخذه وقطعه وقال: لو مت ما صليت عليك. وعن سعيد بن جبير قال: لدغتني عقرب على يدي فأقسمت علي أمي أن أسترقى، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ. وعن زينب امرأة عبد الله قالت: جاء عبد الله ذات يوم فرأى في عنقي خيطاً فقال ما هذا الخيط؟ فقلت رقى لي فيه، فأخذه وقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك. وقال الحسن البصري: يرحم الله أقواماً لا يعرفون الهليلج ولا البليلج لأن ذلك ظن يظن به ولا يعرف الشفاء فبماذا يكون، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا تحموا المريض عما يشتهي فلعل الله يجعل شفاءه في بعض ما يشتهي. وأما من أباح ذلك فاحتج بما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الله تعالى لم ينزل داء إلا وقد أنزل له دواء إلا السأم والهرم، فعليكم بألبان البقر فإنها تخلط من كل شجرة. وفي خبر آخر: فإنها ترعى من كل شجرة. وروى سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والأعراب يسألونه هل علينا جناح أن نتداوى؟ فقال صلى الله عليه وسلم : تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وضع له شفاء)) وعن الحجاج بن أرطأة أنه سأل عطاء عن التعويذ فقال: ما سمعنا بكراهيته إلا من قبلكم يا معشر أهل العراق، ولأن قوام العبادة بالبدن فكما وجب علينا أن نتعلم الأحكام لتصحيح العبادة فكذلك علم الطب والتداوي الذي فيه إصلاح البدن فلا بأس بأن نتعلمه أو نعمل به لنصحح به إقامة العبادة، ولأن القول في الأحكام جائز بأكثر الرأي إن لم يعرف بالنص واليقين، فكذلك القول في الطب إذا كان يعرف بالرأي والتجارب فيجوز استعماله إذ ليس هذا بأجل من علم الأحكام. وأما الأخبار التي وردت في النهي فإنها منسوخة ألا ترى إلى ما روى جابر رضي الله تعالى عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى وكان عند آل عمرو بن حزم رقية يرقون بها من العقرب، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرضوا عليه وقالوا إنك نهيت عن الرقى فقال ما أرى بها بأساً من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) ويحتمل أن النهي عن الذي يرى العافية في الدواء، وأما إذا عرف أن العافية من الله تعالى والدواء سبب فلا بأس به. وقد جاءت الآثار في الإباحة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جرح يوم أحد داوى جرحه بعظم قد بلي. وقد روي أن رجلاً من الأنصار رمى في أكحله بمشقص فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فكوى وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بالمعوذتين. والآثار فيه أكثر من أن تحصى.
الباب السابع والعشرون: في الأطعمة التي فيها الدواء
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: روى شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الكمأة من المن: يعني من الأشياء التي من الله تعالى بها على عباده حيث أعطاهم إياها من غير زرع كالمن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم)) وقال الربيع بن خيثم: ليس للنفساء عندي دواء إلا الرطب، ولا للمريض إلا العسل. وروى الأعمش عن أبي صالح قال: في حمى الربع ثلث سمن وثلث عسل وثلث لبن يعجن ويشرب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((جعلت البركة في العسل وفيه شفاء من الأوجاع وقد بارك عليه سبعون نبياً)) وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها وليشتر بها عسلاً ولبناً فليشربه بماء السماء فيجمع الله بها الهناء والمراء والشفاء والماء المبارك. وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالإثمد فإنه ينبت الشعر ويحد البصر)) وفي خبر آخر ((ويجلو البصر)).
الباب الثامن والعشرون: في تفضيل اللسان العربي على غيره
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: اعلم أن لسان العربية له فضل على سائر الألسنة فمن تعلمها أو علم غيره فهو مأجور لأن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، فمن تعلمها فإنه يفهم بها ظاهر القرآن ومعاني الأخبار. وقد روى ابن بريدة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من تعلم الفارسية فقد خب ومن خب ذهبت مروءته. وقال الزهري: كلام أهل الجنة العربية وأهل النار الهندية. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: عليكم بالتفهم في العربية. وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويفهم بها قراءته؟ قال الحسن: فليتعلمها فإن الرجل ليقرأ الآية فيصرف من وجهها فيهلك. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلين في الطواف يتراطبان، فقال لهما التمسا إلى العربية سبيلاً. وقال الفقيه رحمه الله تعالى: ولو تكلم بغير العربية فإنه يجوز لا إثم عليه في ذلك. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بالفارسية وهو ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال ((اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق طعاماً. فأتيته فأخبرته فقال لأصحابه اذهبوا إلى بيت جابر فإنه اتخذ لكم شورباً)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه أتى بتمر الصدقة وعنده الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، فأخذ أحدهما تمرة وأدخلها في فيه، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه في فيه وقال كخ كخ، وأخرج التمرة من فيه)) وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال له ((رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى بطنه يا أبا هريرة أشكم دود؟ قال نعم، فأمره بالصلاة)) وعن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه هكذا. وقال هو الأصح. وقال سفيان: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية. وروى عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه قال ما من لغة إلا وفي القرآن منها شيء فقيل له وأين ذلك؟ فقال فيه من الفارسية سجيل: يعني سنك كل، ويقال فيه اتفاق بين اللغتين، وقيل {يا أرض ابلعي ماءك} بلغة الحبشية، وقوله {فرصهن إليك} يعني قطعهن بالرومية، وقوله {ولات حين مناص} يعني ليس حين فرار بالسريانية. وروي عن أبي موسى أنه قال {كفلين} يعني ضعفين بالحبشية، وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون في القرآن شيء سوى العربية لأن الله تعالى قال {بلسان عربي مبين} وقال تعالى {إنا جعلناه قرآناً عربياً} والجواب عن هذا من وجهين. أحدهما: أن هذه الألفاظ التي ذكرناها من الحبشية والرومية كما ذكرنا إلا أن العرب كانت تستعملها ويعرفونها فيما بينهم فلما استعملها العرب صارت بمنزلة العربية. وجواب آخر قوله تعالى {بلسان عربي مبين} فالقرآن عربي وإن كان بعض الحروف من غيره. فإن قيل كيف يكون القرآن حجة عليهم إذا كان بلغة غيرهم؟ قيل لأنهم كانوا يفهمونها فيما بينهم وإن كان بعض الحروف من غير لغتهم فيكون حجة عليهم.
الباب التاسع والعشرون: في نزول القرآن على سبعة أحرف
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اقرأني جبريل عليه السلام على حرف واحد فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف)) وفي خبر آخر ((أمرني جبريل أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف)) وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن هذا القرآن نزل بسبعة أحرف لكل حرف ظهر وبطن. فإن قيل ما معنى قوله سبعة أحرف؟ قيل قد قالوا فيه أقاويل مختلفة. قال بعضهم: إنما يوجد ذلك في بعض الآيات مثل قوله {أف لكما} فيقرأ ذلك على سبعة أحرف بالرفع والنصب والخفض، وكل وجه منه بالتنوين وغير التنوين فذلك ستة أوجه، وبالجزم أيضاً يقرأ فذلك سبعة أوجه، ومثل قوله {تساقط عليك رطباً جنياً} ومثل قوله تعالى {بعذاب بئيس} ونحوها من الآيات التي تحتمل في القراءة سبعة أوجه لا يوجد ذلك في عامة الآيات. وقال بعضهم: سبعة أحرف يعني به الأمر والنهي والقصص والأمثال والمواعظ والوعد والوعيد، فهذه سبعة أحرف. وقال أبو عبيدة: سبعة أحرف يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه فهذا لم يسمع به قط، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن فبعضها بلغة قريش وبعضها بلغة هوازن وبعضها بلغة هذيل وبعضها بلغة اليمن. وقال بعضهم سبعة أحرف إنما هي سبع قراءات التي اختارها سبعة من الأئمة أحدهم عاصم بن أبي النجود واسم أمه بهدلة ويقال له عاصم بن بهدلة. والثاني حمزة بن حبيب الزيات. والثالث الكسائي، فهؤلاء الثلاثة كانوا من قراء أهل الكوفة. والرابع عبد الله بن كثير وهو إمام أهل مكة والخامس نافع بن عبد الرحمن مولى معاوية، وهو إمام أهل المدينة. والسادس أبو عمرو، وكان اسمه ريان، وكنيته أبو عمرو بن العلاء، وهو إمام أهل البصرة والسابع عبد الله بن عامر، وهو إمام أهل الشام. فاختار كل واحد من هؤلاء السبعة قراءة قد صحت عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . (قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في الآية التي قرئت بقراءتين. قال بعضهم: بأن الله تعالى قال بقراءة واحدة إلا أنه قد أذن بأن يقرأ بقراءتين. وقال بعضهم: إن الله تعالى قال بهما جميعاً، والذي صح عندنا والله أعلم أنه لو كان لكل قراءة تفسير بخلاف تفسير القراءة الأخرى فقد قال بهما جميعاً فصارت القراءتان بمنزلة آيتين مثل قوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} و {حتى يتطهرن} وكذلك كل ما كان نحو هذا. وأما إذا كانت القراءتان تفسيرهما واحد مثل البيوت والبيوت، ومثل المحصنات والمحصنات بالفتح والكسر فإنما قال بأحدهما وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعود به لسانهم، فإذا قيل إذا صح أنه قال بإحدى القراءتين فبأي القراءتين قال؟ قيل له إنما قال بلغة قريش لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من قريش والقرآن نزل بلغتهم، ألا ترى إلى ما روى وكيع عن سفيان عن مجاهد قال: نزل القرآن بلغة قريش.
الباب الثلاثون: في الكلام في تفسير القرآن
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن قوله تعالى {وفاكهة وأباً} قال لا أدري، فقيل له قل من ذات نفسك؟ قال أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله تعالى برأيي ولا أعلم. وروي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح فيأخذ بأذنه، فيقول إنك لم تقرأ القرآن فكيف تفسره. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى في يد رجل مصحفاً وقد كتب عند كل آية تفسيرها، فدعا بمقراض فقرضه. وعن الحكم قال: كان شريح لا يفسر من القرآن إلا ثلاثة آيات. إحداها {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} قال: الذي بيده عقدة النكاح الزوج. والثانية {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} قال: الحكمة الفقه، وفصل الخطاب البينة والإيمان. والثالثة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} قال: كان من قوته أنه حمل صخرة لا يقوى على حملها إلا عشرة، وأمانته أنها مشت أمامه فوصفتها الريح له، فقال لها تأخري وصفي لي الطريق. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر القرآن إلا آيات يقرؤهن علمهن إياه جبرائيل. فإن قيل إذا لم يفسره النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لغيره أن يفسره برأيه فكيف الوصول إلى معرفة تفسيره؟ قيل له النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال الله تعالى {فأما الذين في قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة} لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجز التفسير لا يكون حجة بالغة. فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وعرف شأن النزول أن يفسره وأما من كان من المتكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز له أن يفسره إلا مقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير فلا بأس به، ولو أنه تعلم تفسيره وأراد أن يستخرج من الآية حكماً أو استدلالاً بشيء من الأحكام فلا بأس به، ولو أنه قال المراد من الآية كذا وكذا من غير أن يسمع فيه شيئاً فلا يحل له هذا، وهذا الذي نهى عنه. ولو أنه سمع شيئاً من بعض الأئمة فلا بأس بأن يحكي عنه. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا أشكل عليه شيء من التفسير سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من أهل الكتاب الذين قرأوا الكتب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما. وروي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: عرفت تفسير جميع القرآن إلا أربعة: الأواه، والرقيم، وحنانا، وغسلين. وروى غير عكرمة عن ابن عباس أنه فسر هذه الأحرف أيضاً الرقيم الكتاب. قال الخليل: الرقم تعجيم الكتاب كتاب مرقوم: أي تبين حروفه بعلاماتها من النقط. والحنان: الرحمة. قال الله تعالى {وحناناً من لدنا} أي رحمة. والغسلين: ما ينغسل من أبدان الكفار في النار.
الباب الحادي والثلاثون: في حسن المعاشرة ومعرفة الحقوق
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي للرجل أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه مستبشراً منبسطاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى بسيرته ومذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهرون عليهما الصلاة والسلام {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} وأنت لست بأفضل من موسى وهرون والفاجر ليس بأخبث من فرعون. وقد أمرهما الله تعالى بلين القول من فرعون. وروى إبراهيم عن حمزة العامري عن طلحة بن عمير قال: قلت لعطاء إنك رجل تجتمع عندك أناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة أقول لهم بعض القول الغليظ، فقال لا تفعل إذ يقول الله تعالى {وقولوا للناس حسناً} فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم إن لم تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)) وقال عمر رضي الله تعالى عنه: من أحب أن يصفو له ود أخيه فليدعه بأحب أسمائه إليه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويوسع له في المجلس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء)) ويقال الإحسان قبل الإحسان فضل، والإحسان بعد الإحسان مجازاة، والإحسان بعد الإساءة كرم، والإساءة قبل الإساءة جور، والإساءة بعد الإساءة مكافأة، والإساءة بعد الإحسان لؤم وشؤم. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: وينبغي للإنسان أن يعرف حق من هو أكبر منه ويوقره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما وقر شاب شيخاً إلا قيض الله له شاباً عند كبر سنه فيوقره)) وعن ليث بن أبي سليم قال: كنت أمشي مع طلحة بن مطرف فتقدمني وقال: لو علمت أنك أكبر مني بليلة ما تقدمتك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا فليس منا)).
الباب الثاني والثلاثون: في زيارة الإخوان
(قال الفقيه) رحمه الله: زيارة الإخوان الأصدقاء حسن وهو مأجور وفيها زيادة ألفة. وقال أبو أمامة الباهلي امش ميلاً وعد مريضاً، وامش ميلين وزر أخاً في الله، وامش ثلاثة أميال وأصلح بين اثنين. وقال بعض الحكماء: لا تترك الزيارة فينسوك ولا تكثر الزيارة فيملوك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه ((يا أبا هريرة زر غبا تزدد حباً)) وعن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: المريض يعاد والصحيح يزار. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن انظر إلى من قبلك من وجوه الناس فأكرمهم، فإنه لن يعدم الناس أن يكون لهم وجوه يقومون ويذكرون بحوائج الناس. وعن أبي جعفر رحمه الله تعالى قال: طرحت لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وسادة فجلس عليها وقال: لا يأبى الكرامة إلا الحمار. وعن طارق بن عبد الرحمن قال: كنت جلست عند الشعبي فأتاه فلان بن جرير فطرح له وسادة فجلس عليها وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)) وروي عن سلمة بن كهيل عن أبي جحيفة قال: كان يقال جالس الكبراء وخالط العلماء وخالل الحكماء. وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يحشر الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالله)). (قال الفقيه) رحمه الله: قد اختار بعض الناس ترك المخالطة وأحب العزلة وقال السلامة في العزلة، والذي نقول في ذلك: إن الرجل إذا كان بحال لو اعتزل لكان أسلم لدينه فعل ولو كان بحال لو خلا بنفسه اشتغل بالوسواس فالمخالطة له أفضل بعد أن يعرف حقوقهم وتعظيمهم. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لولا الوسواس ما باليت أن أكلم الناس. وقال بعض الحكماء لابنه: يا بني اصحب من شئت من الناس إلا خمسة نفر فإياك أن تصحبهم: لا تصحبن كذاباً فإن الكذاب كلامه بمنزلة السراب يبعد القريب ويقرب البعيد، ولا تصحبن أحمق فإن الأحمق يرى أنه ينفعك وهو يضرك، ولا تصحبن طماعاً فإنه يبيعك بأكلة وشربة. ولا تصحبن بخيلاً فإن البخيل يخذلك حيثما كنت أحوج إليه. ولا تصحبن جباناً فإن الجبان يشتمك ويشتم والديك ولا يبالي.
الباب الثالث والثلاثون: في التسليم
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: فإذا مررت على قوم فسلم عليهم فإذا سلمت عليهم فقد وجب عليهم رد السلام، ثم اختلفوا في الأفضل؟ قال بعضهم: أجر الرد أفضل لأن الرد فريضة والتسليم سنة فأجر الفرض أكثر من أجر السنة، وإنما قيل إن الرد فريضة لأن الله تعالى قال {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} فأمر برد السلام والأمر من الله تعالى فرض. وقال بعضهم: أجر السلام أكثر وأفضل لأنه سابق والسابق له فضل السبق. وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحرث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ألا أدلكم على أمر إذا أنتم فعلتموه تحاببتم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال أفشوا السلام بينكم)) وقال عطاء: يسلم الماشي على القاعد والصغير على الكبير والراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، وإذا التقى الرجلان ابتدأ بالسلام. وقال الحسن في قوم يستقبلون قوماً يبدأ الأقل بالأكثر. وروى زيد بن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير)). (قال الفقيه) رحمه الله: إذا دخل جماعة على قوم فإن تركوا السلام فكلهم آثمون في ذلك وإن سلم واحد منهم أجزأ عنهم جميعاً وإن سلموا كلهم فهو أفضل، وإن تركوا الجواب فكلهم آثمون وإن رد واحد منهم أجزأ عنهم وإن أجابوا كلهم فهو أفضل. وقال بعضهم: يجب الرد عليهم جميعاً، وهذا القول أصح. وروي عن أبي يوسف أن الرد فريضة وقد وجب الرد عليهم جميعا، وقال بعضهم: يجوز إذا رد الواحد عنهم جميعاً وبه نأخذ. وروى الأعمش عن زيد بن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مر قوم بقوم فسلم عليهم واحد منهم أجزأ عنهم وإذا رد واحد منهم أجزأ عنهم)) وينبغي للمجيب إذا رد السلام أن يسمع جوابه لأنه إذا أجاب بجواب لم يسمعه المسلم لم يكن ذلك جواباً، ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام ولم يسمع منه لم يكن ذلك سلاماً فكذلك إذا أجاب بجواب ولم يسمع منه فليس بجواب. وروى معاوية بن قرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فاقعدوا بالأمانة، ولا يرفعن بعضكم حديث بعض)) يعني به النميمة. وينبغي للرجل إذا سلم على واحد أن يسلم بلفظ الجماعة، وكذلك في الجواب لأن المسلم عليه لا يكون وحده. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا سلمت على الواحد فقل السلام عليكم فإن معه الملائكة. وروى أبو مسعود الأنصاري ((أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت عليك السلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا السلام على الموتى ولكن قولي السلام عليكم)). (قال الفقيه) رحمه الله: الأفضل أن يقول السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وكذلك المجيب يقول هكذا فإن أجره أكثر، ولا ينبغي أن يزيد على البركات شيئاً. وروى أبو أمامة عن سهل بن حنيف عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة)) وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لكل شيء منتهى ومنتهى السلام البركات. وروي أنه سمع رجلاً يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال ابن عباس انتهوا حيثما انتهت الملائكة مع أهل بيت الصالحين قولهم -رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد-.
الباب الرابع والثلاثون: في التسليم على الصبيان
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في التسليم على الصبيان؟ قال بعضهم: لا ينبغي أن يسلم عليهم، وقال بعضهم: السلام عليهم أفضل من تركه وبه نأخذ، أما من قال إنه لا يسلم عليهم فقال لأن الرد فريضة والصبي لا تلزمه الفريضة فلما يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليه، وروى الأشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان، وكان يمر بهم ولا يسلم عليهم. وروي عن محمد بن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن كان لا يسمعهم. وأما من قال إنه يسلم عليهم فلما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((كنت مع الصبيان إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم علينا ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له. وعن عنبسة بن عمار قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يمر علينا ونحن غلمان في الكتاب فيسلم علينا. وعن الحكم قال: كان شريح يسلم على كل صغير وكبير.
الباب الخامس والثلاثون: في التسليم على أهل الذمة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: اختلف الناس في التسليم على أهل الذمة؟ قال بعضهم لا بأس به، وقال بعضهم لا ينبغي أن يسلم عليهم. وإذا سلموا ينبغي أن يرد عليهم بالجواب وبه نأخذ. أما من قال لا بأس فاحتج بما روي عن أبي أمامة الباهلي أنه كان لا يمر بأحد من اليهود والنصارى إلا سلم عليهم وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام على كل مسلم ومعاهد، وقال علقمة: أقبلت مع عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على موضع يقال له سالحين فصحبه تسعة دهاقين من سالحين، فلما دخلوا الكوفة أخذوا في طريق آخر فسلم عليهم فقلت له أتسلم على هؤلاء الكفار؟ فقال نعم إنهم صحبونا وللصحبة حق. وأما من قال إنه لا يسلم عليهم فقد ذهب إلى ما روي عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقوكم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها)) وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لا تسلموا على اليهود والمجوس. وروى عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اليهود إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم ولا تزيدوا على ذلك)) وقال أنس: نهينا أن نزيد على وعليكم: يعني أهل الكتاب. وقال الفقيه رحمه الله: إذا مررت بقوم وفيهم مسلمون وكفار فأنت بالخيار إن شئت قلت السلام عليكم وتريد به المؤمنين خاصة وإن شئت قلت السلام على من اتبع الهدى. وقال مجاهد: إذا كتبت إلى اليهودي أو النصراني في الحاجة السلام فاكتب: السلام على من اتبع الهدى.
الباب السادس والثلاثون: في التسليم عند دخول البيت
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: إذا دخلت بيتك فسلم على أهل بيتك، وإن لم يكن في البيت أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لأن الله تعالى قال {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله} والآية تقتضي الأمرين جميعاً وهو التسليم على الأهل إن كان فيه أحد وعلى نفسه إن لم يكن فيه أحد. وروى سعيد بن جبير عن قتادة قال: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليهم وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يؤمر بذلك. قال: وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم. وروى عطاء قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: إذا قال الرجل ادخل فقل: لا حتى تجيء بالمفتاح، فقلت المفتاح السلام عليكم قال نعم. وروى المغيرة بن شعبة عن إبراهيم أنه قال: إذا دخل الرجل بيته فسلم قال الشيطان لا مقيل لي: يعني لا يبقى لي موضع القرار، فإذا أتى بطعامه فسمى الله تعالى عليه قال الشيطان لا مقيل ولا مطعم، وإذا أتى بشرابه فسمى الله تعالى عليه قال الشيطان لا مقيل ولا مطعم ولا مشرب، فيخرج هارباً خائباً.
الباب السابع والثلاثون: فيما يستحب من اللباس
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: ينبغي للرجل أن يكون في لباسه موافقاً لأقرانه ولا يلبس لباساً مرتفعاً جداً ولا رديئاً جداً، فإنه لو فعل تلك ارتكب النهي وأوقع الناس في الغيبة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الشهرتين في اللباس المرتفعة جداً والمنخفضة جداً. وقال الشعبي: البس من الثياب ما لا يزدريك به السفهاء ولا يعيبك به الفقهاء. وقال محمد بن سيرين: كانت الشهرة في تطويل الثياب ثم صارت الشهرة في تجويدها، واختار بعض الناس الاقتصار في اللباس واحتج بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه خرج إلى الأسواق مع قنبر فاشترى قميصين غليظين، فخير قنبراً فأخذ قنبر أحدهما ولبس الآخر بنفسه. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه أتى بقميص فأمر بقطع ما فضل عن كميه. وروي عن بعض التابعين أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يخطب وعليه قميص فيه سبع رقاع. وروي عنه أنه قال: اخشوشنوا واخلولقوا وتمعددوا واجعلوا الرأس رأسين: يعني البسوا الخشن والخلق وتشبهوا بمعد اجعلوا مكان العبد عبدين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه اشترى قميصاً وقطع ما وراء الأصابع من الكمين ثم قال لخادمه حصه: أي خطه، ويستحب البيض من الثياب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خلق الله الجنة بيضاء وخير ثيابكم البيض تلبسونه في حياتكم وتكفنون به موتاكم)) وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البسوا من ثيابكم البيض وكفنوا فيها موتاكم فإنها خير ثيابكم)) وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل ما شئت والبس ما شئت من الحلال إذا ما أخطأ بك اثنتان: سرف ومخيلة فإني ما رأيت في موضع إسرافاً إلا رأيت بجنبه حقاً مضيعاً.
الباب الثامن والثلاثون: في الجمال
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للرجل إذا كان ذا مروءة وكان ذا علم أن تكون ثيابه عليه نقية من غير كبر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من حسب المرء نقاء ثوبه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما على الرجل أن يتخذ ثوبين سوى ثوبي مهنته)) ويقال في المثل: لا جديد لمن لا خلق له. وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما طابت رائحة عبد قط إلا قل غمه ولا نظفت ثيابه قط إلا قل همه)) وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب. وقال أيضاً: إذا وسع الله عليكم فوسعوا على أنفسكم. وروي عن عامر بن سعد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((أن الله نظيف يحب النظافة، وجميل يحب الجمال، وجواد يحب الجود، وكريم يحب الكرم، وطيب يحب الطيب)) وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال ((كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالساً فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده أن اخرج وأصلح رأسك ولحيتك، ففعل ثم رجع فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس واللحية كأنه شيطان)) وروى زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة أنمار فبينما أنا نازل تحت شجرة إذ مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت يا رسول الله هلم إلى الظل؟ فنزل، فقمت إلى غرارة لنا فوجدت فيها خبزاً وجردقاً وقثاء فكسرته ثم قربته إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعندنا صاحب لنا قد ذهب يرعى ظهراً، فرجع وعليه ثوبان له قد خلقا، فنظر إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لي أما له ثوبان غير هذين؟ فقلت بلى له ثوبان في العيبة، فقال هلا كسوته إياهما، فدعوته فلبسهما ثم ولى فذهب فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيراً، فسمعه الرجل فقال يا رسول الله قل في سبيل الله، قال في سبيل الله فقتل الرجل في سبيل الله)) قال الشاعر:
تجمل بالثياب ولا تبال ...فإن العين قبل الاختبار
فلو جعل الثياب على حمار ...لقال الناس يا لك من حمار
الباب التاسع والثلاثون: فيما يجوز لبسه من الثياب وما لا يجوز
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: يجوز لبس الخز للرجال والنساء لأن الصحابة كانوا يلبسونه، وقد كره بعض الناس لبسه. وروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: لأن أتقلد بسياطي على عنقي حتى ينقطع أحب إلي من أن ألبس الخز، ولكن نحن نقول يجوز أن تكون كراهيته لنفسه خاصة واختار التواضع ولم يحرم على غيره. وروي عن خيثمة أنه قال أدركت ثلاثة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الخز. وروي عن عكرمة أنه قال: كان لابن عباس رضي الله تعالى عنهما كساء خز يلبسه. وعن وهب بن كيسان قال: رأيت على جابر بن عبد الله كساء خز يلبسه. وكذلك روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه كان له كساء خز يلبسه. ولا يجوز للرجال لبس الحرير والديباج والإبريسم ويجوز للنساء وذلك لما روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) وروى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير، فقال هذان محرمان على ذكور أمتي محللان لإناثهم)) وروي عن محمد بن سيرين أنه كان يكره لبس الحرير للرجال والنساء. وحجته ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة)) ولم يفصل بين الرجال والنساء. والجواب أن الخبر انصرف للرجال لأنه قد فسر في حديث آخر حيث قال ((حل لأناثهم)) واختلف في لبس الحرير في الحرب؟ قال بعضهم لا يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال بعضهم لا بأس به وهو قول صاحبيه رحمهما الله. فأما حجة من كرهه فلأن النهي ورد عاماً في لبسه فاستوى حال الحرب وغيره. وروي عن عكرمة أنه كان يكره لبس الحرير والديباج في الحرب وقال: كانوا يردون الشهادة بلبس الحرير. وروي عن الحسن أنه كان يكره لبس الحرير في الحرب. وأما حجة من أجاز ذلك فقد ذهب إلى ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له إنا إذا لقينا العدو ورأيناه قد كفدوا على سلاحهم بالحرير والديباج فرأينا لذلك هيبة؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأنتم تكفدون على سلاحكم بالحرير والديباج وعن القاسم بن محمد قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون بلبس الحرير والديباج في الحرب بأساً.
الباب الأربعون: في العلم في الثوب
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: كره بعض الناس العلم في الثوب من الحرير والديباج وأباحه الآخرون وبه نأخذ. فأما من كرهه فقد ذهب إلى ما روى الأعمش عن مجاهد أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما اشترى عمامة فرأى عليها علماً حريراً. وروى موسى بن عبيدة عن خالد بن يسار عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: كنا نقطع الأعلام وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اجتنبوا ما خالط الثياب من الحرير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الحرير على الرجال فاستوى فيه القليل والكثير. وأما حجة من قال لا بأس به فما روى أبو أمامة الباهلي قال ((إن قوماً قالوا يا رسول الله نهيتنا عن لبس الحرير فما يحل لنا منه؟ قال ثلاثة أصابع، وذلك أيضاً لا خير فيه)) وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا بأس بالعلم وإنما يكره المصمت: يعني نوعاً من الثياب. وروى منصور عن إبراهيم أنه قال: كانوا يرخصون في الأعلام. وروى سويد بن غفلة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا بأس بالأصبع والأصبعين والثلاث، ولأن القليل في حد العفو كما أن العمل القليل في حد العفو كما أن العمل القليل في الصلاة لا يقطع الصلاة وقليل النجاسة لا يمنع جواز الصلاة فكذلك هذا، والصائم إذا دخل الغبار في حلقه لا ينقص الصوم لأنه قليل فكذلك هذا.
الباب الحادي والأربعون: في افتراش الديباج
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: اختلفوا في افتراش الديباج والحرير: قال بعضهم لا بأس به، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال بعضهم: يكره، وهو قول محمد بن الحسن، وبه يأخذ. أما حجة من أجازه فما روي عن إبراهيم بن مسعر عن أبي راشد قال: رأيت على فراش ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو على مجلسه مرفقة من حرير. وروي عن الحسن أنه شهد عرساً فجلس على وسادة ديباج. وروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه حضر وليمة فجلس على وسادة حرير وعليها طيور. وروي ((أنه كان على باب دار عائشة رضي الله عنها ستر معلق عليه طيور، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله أنا لا أنزل بيتاً فيه كلب أو تماثيل، فإما أن تقطعوا رؤوسها أو تبسطوا بسطاً)) وأما من كرهه فقد ذهب إلى ما روي عن سعيد بن مالك أنه قال: لأن أتكئ على جمرة أحب إلي من أن أتكئ على مرافق من حرير. وعن ابن سيرين أنه قال: قلت لعبيدة السلماني أتكره افتراش الديباج كلبسه؟ قال نعم.
الباب الثاني والأربعون: في لبس الحمرة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: كره بعض الناس لبس الثوب المصبوغ بالعصفر والزعفران والورس للرجال، وقال بعضهم لا بأس به. أما حجة من كرهه فما روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر وعن القسي: وهو نوع من الثياب، وعن القراءة في الركوع)) وروى الحسن رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إياكم والحمرة فإن الحمرة من زينة الشيطان إن الشيطان يحب الحمرة)) وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ((رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي محلفة مترودة بالعصفر فأعرض عني فذهبت وأحرقتها ولبست غيرها، ثم رجعت فقال صلى الله عليه وسلم ما فعلت، بالملحفة؟ فقلت رأيتك أعرضت عني فذهبت فأحرقتها، فقال هلا أعطيتها لبعض نسائك، وأما حجة من أباح ذلك فما روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن بعض موالي كعب بن عجرة قال: لقيت أربعة أو خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسون المعصفر. وروى وكيع عن مالك بن مغول قال: رأيت الشعبي وعليه ملحفة حمراء. (قال الفقيه) رحمه الله: والقول الأول أصح وهو قول أبي حنيفة وبه نأخذ ((ويحتمل أن لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النهي. وأما الذي روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنه لا يلزم لأنه لم يبين من كان من الصحابة. وقد روي عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما النهي فيه فهو أولى بالأخذ. وأما الذي روي عن الشعبي فإنه كان يفعل ذلك فراراً من القضاء، وكان يلبس المعصفر ويلعب بالشطرنج ويخرج مع الصبيان والفتيان لرؤية الفيل.
الباب الثالث والأربعون: في جلود السباع
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في جلود السباع. قال أصحابنا، لا بأس بجلود السباع كلها والصلاة عليها وفيها إذا كانت مدبوغة أو ذكية ما خلا الخنزير. وكرهه بعض الناس واحتجوا بما روى أبو المليح الهذلي قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس جلود السباع وعن افتراشها. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى على رجل قلنسوة ثعلب ففتقها. وعن الحسن أنه كان يكره الصلاة في جلود الثعالب. وأما حجة أصحابنا فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أيما إهاب دبغ فقد طهر)) وروى عوف عن ابن سيرين أنه ذكرت عنده جلود النمور فقال: ما أعلم أحداً ترك هذه الجلود تأثماً منها. وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال: دخلت على عمار بن ياسر وعنده خياط يظهر له لحاف ثعالب. وعن إبراهيم النخعي أنه كان له قلنسوة ثعالب. وأما الآثار التي جاء فيها النهي فيحتمل أن النهي ورد في الذي لم يدبغ. ويحتمل أن النهي ورد على سبيل الاستحباب لترك زينة الدنيا لا للتحريم لأنه كان بالناس شدة العيش، ألا ترى ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنما كان طعامنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسودين: التمر والماء، وما كنا نرى سمراكم هذه وإنما كان لباسنا هذه النمار: يعني الصوف، ألا ترى أنه روي في الخبر أنه نهى عن أكل الخليطين لأجل شدة الناس في العيش فكذلك أمر اللبس.
الباب الرابع والأربعون: في أكل اللحم
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: كان المتقدمون يستحبون أكل اللحم ويرغبون فيه وكرهوا المداومة عليه. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: كلوا اللحم فإنه ينبت اللحم ويزيد في السمع، وقال أيضاً: من لم يأكل اللحم أربعين يوماً ساء خلقه. وقال الزهري: اللحم يزيد سبعين قوة. وروي عن عبد الملك بن مروان أنه لما سلم أولاده إلى الشعبي ليؤدبهم قال له: جز شعورهم تشتد رقابهم، وأطعمهم اللحم تشتد قلوبهم وجالس بهم الرجال يناقضونهم الكلام. وإنما كرهوا المداومة عليه لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: با بني تميم لا تديموا أكل اللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا رأى رجلاً يكثر الاختلاف إلى القصابين ضربه بالدرة وقال: إن له ضراوة كضراوة الخمر. وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن الله تعالى يبغض الحبر السمين وأهل بيت اللحميين)) وقال بعضهم: يعني الذين يكثرون أكل اللحم. وقال بعضهم: يعني الذين يغتابون الناس فيأكلون لحومهم بالغيبة. وروى أبو عمر الشيباني عن ابن مسعود أنه رأى مع رجل دراهم فقال ما هذا؟ فقال أريد أن أشتري بها سمناً لشهر رمضان، فقال اذهب فادفعها إلى امرأتك وأمرها أن تشتري كل يوم بدرهم لحماً فهو خير لك. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تقطعوا اللحم بالسكين كما تقطع الأعاجم، ولكن انهشوه نهشاً فإنه أهنأ وأمرأ)).
الباب الخامس والأربعون: في أكل الفالوذج
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: كره بعض الناس أكل الفالوذج واللين من الطعام وإباحه عامة العلماء. فأما حجة من كرهه فذهب إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من السرف أن يأكل الرجل كل ما يشتهيه)) وقال حذيفة بن اليمان: كم من شهوة ساعة أورثت صاحبها حزناً طويلاً. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أتي بشراب من عسل فأخذه ثم رده وقال: خشيت أن أكون من الذين قال الله تعالى فيهم {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وأما حجة من أباحه فإنه ذهب إلى ما روى وكيع عن عمرو بن دينار عن أبيه أن عمر رضي الله تعالى عنه لما توجه الناس إلى العراق قال: إنكم تأتون أرضاً تؤتون فيها بألوان من الطعام والنعم، فكلما وضع لون فاذكروا اسم الله عليه ثم كلوه. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار فأتوا بفالوذج فامتنع مالك من أكله، فقال له الحسن كل فإن نعمة الله عليك في الماء البارد أكثر من هذا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل الرطب ببطيخ: وروي عن عمر رضي الله تعالى أنه أكل البطيخ بالسكر. وروي عن الحسن البصري ((لعاب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم)) قال الله تعالى {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
الباب السادس والأربعون: فيما جاء في الأطعمة
روى الأحوص بن حكيم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم الإدام الخل والزيت)) وروى عمرو بن دينار عن أبي جعفر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال ((ما اقفر بيت فيه خل)) وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قدم عليهم وفد فقرب إليهم طعاماً ثم دعا ببصل فقال: كلوا من هذه الفجاء فإنه قلما أكل قوم من فجاء أرض فضرهم ماؤها. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب القرع. قال أنس: فلم أزل أحبه منذ رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحبه. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ للمعدة، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان أحب الثمار إليه البطيخ والرطب، وأحب المرقة إليه القرع. وعن طلحة بن عبد الله عن أبيه قال ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده سفرجلة فألقاها إلي وقال: دونكها يا أبا محمد فإنها تجم الفؤاد)) وقال وهب بن منبه: وجدت في بعض الكتب أن البطيخ طعام وشراب، وفاكهة وخلال، وأشنان وريحان، وينضج المعدة، ويشهي الطعام ويصفي اللون، ويزيد في ماء الصلب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((البطاطيخ أربعة: حلو وحامض وطيب ومر. أما الحلو ينبت اللحم، والطيب ينبت الشحم، والحامض يقتل الديدان، والمر يقطع الباسور)). (قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للرجل أن يوسع على أهله في الطعام والشراب فإنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن الله تعالى ليحب البيت الخصيب الواسع)) وقال إبراهيم النخعي: كانوا يحبون مخاصيب الرجال وفي اللباس تجوروا. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أكثروا خير بيوتكم من الطعام والشراب، فرب رجل كثير المال قليل خير البيت. وقال الحسن: ليس في الطعام إسراف: يعني إذا وسع على عياله.
الباب السابع والأربعون: في أكل الثوم
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس أكل الثوم وأباحه الآخرون. فأما من كرهه فقد ذهب إلى ما روى القاسم مولى لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها من فيه)) يعني من الثوم. وروي عن ابن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يؤذنا في مسجدنا وليجلس في بيته)) وسئل عن الثوم ينظم في خيط فيجعل في الكباج فكرهه، قيل له إنه لا يصلح إلا به؟ فقال لا خير في طعام لا يصلح إلا به. أما من أباحه فقد ذهب إلى ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرقة فيها ثوم فأرسل بها إلى أبي أيوب الأنصاري، فقال أبو أيوب يا رسول الله آكل شيئاً كرهته؟ فقال إنما كرهته لأني أناجي جبريل فيجد ريحه)) وروى سفيان عن عبد الله عن أبي يزيد عن أبيه قال ((نزلت على أم أبي أيوب الأنصاري فحدثتني أنهم تكلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه بعض من هذه البقول، فأتوه به، فكرهه وقال لأصحابه كلوه فإني لست كأحدكم إني أخاف أن أوذي صاحبي جبريل)) وعن ابن سيرين أنه قال: كان يدلس لابن عمر الثوم فيجعل في الخيط فيترك في القدر حتى إذا نضج بما فيه رفع الخيط بما فيه. وعن محمد بن الحسن بن علي أنه قال: نحن آل محمد نأكل الثوم والبصل والكرات. وقال أبو الليث: سألت الفقيه عن إباحته فقال نبيحه.
الباب الثامن والأربعون: ما قيل في المروءة
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته)) وقال ابن زياد لرجل من الدهاقين ما المروءة فيكم؟ قال أربع خصال. أولها: أن يعتزل الرجل الذنب فإنه إذا كان مذنباً كان ذليلاً ولم يكن له مروءة. والثانية: أن يصلح ماله ولا يفسده فإن من أفسد ماله واحتاج إلى مال غيره فلا مروءة له، والثالثة: أن يقوم لأهله فيما يحتاجون إليه فإن من احتاج أهله إلى الناس فلا مروءة له، والرابعة: أن ينظر إلى ما يوافقه من الطعام والشراب فيلزمه ولا يتناول ما لا يوافقه فإن ذلك من كمال المروءة، وروي عن قيس بن ثابت بن ساعدة أنه كان يقدم على قيصر فيكرمه فقال له قيصر: ما أفضل العقل؟ قال معرفة المرء نفسه: قال ما أفضل العلم؟ قال وقوف المرء عند جهله، قال فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه. قال فما أفضل المال؟ قال ما قضي منه الحق، وقال ربيعة الرأي: المروءة ستة: ثلاث في الحضر، وثلاث في السفر. فأما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله. وأما التي في السفر: فبذل الزاد، وقلة الخلاف لأصحابه، والمزاح في غير معاصي الله. وقال بعض الحكماء. أفضل المروءة أن يكون صادقاً في قوله، وافياً في عهده، باذلاً لنفعه. وروي عن الحسن البصري أن حجاماً قص شاربه فأعطاه درهماً فسئل عن ذلك فقال: لا تضيقوا فيضيق عليكم. وكان الحسن إذا سمع رجلاً يتكلم بالدانق يقول: لعن الله الدانق ومن تكلم لدوانق فلا مروءة له، ولا دين لمن لا مروءة له. وقال محمد بن الحسن: ثلاثة أشياء من الدناءة: مشارطة أجر الحجام، والنظر في مرآة الحجامين، واستقراض الخبز موازنة. ويقال الجلوس في الطرقات وفي حوانيت الناس للحديث ليس من المروءة. وقيل لبعض الحكماء: ما المروءة. قال باب مفتوح، وطعام مبذول، وإزار مشدود: يعني بالقيام في حوائج الناس. وقال الحسن البصري: من مروءة الرجل أربعة: صدق لسانه، واحتماله عثرات إخوانه، وبذل المعروف لأهل زمانه، وكف الأذى عن أباعده وجيرانه. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنا أعلم متى تهلك العرب فقيل له متى تهلك يا أمير المؤمنين؟ قال إذا ساسهم من ليس له تقى الإسلام، ولا كرم الجاهلية. قال الراوي: صدق أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه فما دام ساسهم الذين كان لهم تقى الإسلام مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين لم يهلكوا، ومن له كرم الجاهلية مثل معاوية لم يهلكوا، فلما ساسهم مثل يزيد لم يكن له تقى الإسلام ولا كرم الجاهلية هلكوا. وقال بعض الحكماء: تمام المروءة في شيئين: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم. وقال علي لابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما: ما المروءة؟ قال العفاف، وملك النفس، والبذل في العسر واليسر. قال: فما اللؤم؟ قال: إحراز أمر نفسه، وبذل عشيرته، وأن يرى ما في يده شرفاً وما أنفقه تلفاً. ويقال: جماع المروءة في قوله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} الآية، وقال عبد الواحد بن زيد: جالسوا أهل الدين فإن لم تقدروا عليهم فجالسوا أهل المروءة من أهل الدنيا فإنهم لا يرفثون في مجالسهم. يعني لا يتكلمون بكلام الفحش. وقال الأحنف بن قيس: لا راحة لحاسد، ولا مروءة لكاذب. ولا خلة لبخيل، ولا وفاء لمطول، ولا سؤدد لسيء الخلق، ولا إخاء لملول.
الباب التاسع والأربعون: فيما قيل في العقل
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: العلم خليل الرجل، والعقل دليله، والحلم وزيره، والعمل قائده، والصبر أمير جنوده، والرفق والده، والبر أخوه، ثم قال لابنه الحسن: يا بني لا تستخفن برجل تراه أبداً فإن كان أكبر منك فاحسب أنه أبوك، وإن كان مثلك فاحسب أنه أخوك وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك. وقيل لبعض الحكماء: من العاقل؟ قال الذي لا يصنع في السر شيئاً يستحيي منه في العلانية. (قال الفقيه) رحمه الله: هذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن آخر ما بقي من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) يعني إذا كان عمل لا يستحيا منه فاصنع ذلك العمل ما شئت. وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني إن حسن طلب الحاجة نصف العلم، والتودد إلى الناس نصف العقل، والتدبير في المعيشة نصف الكسب يا بني أرسل حكيماً ولا توصه، فإن لم يكن لك رسول حكيم فكن رسول نفسك. ويقال ثمانية إن أهينوا فلا يلومون إلا أنفسهم الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها. والمآمر على رب البيت، وطالب الخير من أعدائه، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه، والمستخف بالسلطان، والجالس مجلساً ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمع منه. وروى سعيد بن أبي إسحق عن الحارث بن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ينبغي للعاقل أن لا يكون شاخصاً إلا في ثلاثة: مرمة لمعاش أو خلوة لمعاد. أو لذة في غير محرم، وينبغي للعاقل أن يكون له في النهار أربع ساعات: ساعة يناجي ربه فيها وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يأتي فيها على أهل العلم والدين الذين يبصرونه أمر دينه وينصحونه وساعة في شأنه يخلو بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، وينبغي للعاقل أن ينظر في شأنه ويعرف أهل زمانه ويحفظ خطر لسانه)).
الباب الخمسون: في الآداب
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تأدبوا ثم تعلموا. وقال أبو عبد الله البلخي: آداب النفس أكثر من آداب العلم، وآداب العلم أكبر من العلم. وقال عبد الله بن المبارك: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين وليس له آداب النفس لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت برجل له أدب النفس أتمنى لقاءه وأتأسف على فوات لقائه. ويقال مثل الإسلام مثل بلدة لها خمسة من الحصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لبن. فما دام أهل الحصن يتعاهدون الحصن الذي من اللبن لا يطمع فيهم العدو، وإذا تركوا التعاهد حتى خرب الحصن الذي من اللبن طمع العدو في الثاني ثم في الثلاث حتى خربت الحصون كلها، فكذلك الإسلام في خمسة من الحصون: أولها اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض، ثم إتمام السنن، ثم حفظ الآداب. فما دام العبد يحفظ الآداب ويتعاهدها فإن الشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في الإخلاص، ثم في اليقين. فينبغي للإنسان أن يحفظ الآداب في جميع أموره: من أمر الوضوء والصلاة والشرائع كلها، والبيع والشراء والصحبة وغير ذلك، فقد بينا في الباب الذي يليه من الآداب ما لا بد منها فأول ما نبدأ به أمور الوضوء والصلاة.
الباب الحادي والخمسون: في آداب الوضوء والصلاة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: إذا أراد الرجل أن يتوضأ فإذا دخل الخلاء ينبغي أن يبدأ برجله اليسرى ويقول بسم الله ثم يقول اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذه الحشوش محضورة)) يعني يحضرها الشيطان ((فإذا دخل أحدكم فيها فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ويكره الاستنجاء باليمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وجعل اليمين للطهارات واليسار للنجاسات. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وكانت يده اليمنى لطعامه. وعن حفصة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامه وشرابه وطهوره وثيابه وصلاته، وكانت شماله لما سوى ذلك وعن إبراهيم النخعي أنه قال: كان يقال يمين الرجل لطعامه وشرابه وشماله لاستنجائه ومخاطه. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: فبهذه الأخبار نقول إنه لا ينبغي أن يستنجي ويتمخط بيمينه إلا أن يكون باليسرى علة، ولا ينبغي أن يكشف عورته للشمس ولا للقمر ولا يستقبل القبلة إلا أن يكون كنيفاً جعل نحو القبلة فلا بأس به، ولا ينبغي أن يتكلم في حال حاجته لأن الملائكة يتنحون عنه ويستترون عنه فإذا تكلم في ذلك الوقت فقد أتعبهم بالعود إليه ليكتبوا قوله، وينبغي للإنسان أن يتنزه عن البول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استنزهوا عن البول ما استطعتم فإن عامة عذاب القبر منه)) وينبغي للإنسان إذا أراد أن يقعد لحاجته أن لا يرفع ثوبه ما لم يدن من الأرض ويستر ما استطاع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهذا فقيل ((يا رسول الله أرأيت لو لم يكن معه أحد قال فالله أحق أن يستحيا منه ولأن معك صاحبك لا يؤذيانك)) فينبغي أن لا تؤذيهما وإذا خرجت من الخلا. فابدأ برجلك اليمنى وقل الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك علي ما ينفعني وإذا أردت الوضوء فقل بسم الله الحمد الله الذي جعل الماء طهوراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سمى الله تعالى عند الوضوء فقد أسبغ وضوءه وطهر جسده ومن لم يسم الله لم يسبغ وضوءه ولم يطهر جسده)) وإذا استنجى الإنسان فإنه يستحب بعد الاستنجاء أن يضرب يده على الحائط أو على الأرض ثم يغسله ليزول الأذى عنها فإن ذلك من السنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يسم)) ويستحب للمتوضئ أن يخلل بين أصابعه ويتعاهد عرقوبيه بالماء فقد جاء التشديد بترك ذلك قال عليه الصلاة والسلام ((ويل للأعقاب من النار)) وروى أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((حبذا المتخللون قيل يا رسول الله وما المتخللون؟ قال المتخللون من الطعام والمتخللون بالماء في الوضوء)) وإذا فرغ من الوضوء يستحب له أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، فقد روي في هذا فضل كثير. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا فرغ أحدكم من الوضوء فليقل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم ليصل علي، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة))، وينبغي أن يكون في وضوئه مقبلاً عليه ولا يتكلم فيه بشيء من الفضول لأنه يريد بذلك زيارة ربه عز وجل وإذا دخل المسجد ينبغي أن يدخل بالتعظيم ويبدأ برجله اليمنى ويقول بسم الله اللهم افتح لي أبواب رحمتك واغفر لي ذنوبي وأغلق عني أبواب سخطك، وينبغي أن يكون في صلاته خاشعاً لأن الله تعالى قال {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً فإنه في مقام عظيم بين يدي الملك العظيم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه مدح صلاة رجل يقال له أبو سلمة بن عبد الرحمن فقال: ألا ترون كيف لا يجاوز بصره عن موضع سجوده)) وإذا أراد الافتتاح للصلاة ينبغي أن يحضر النية ويعلم أي صلاة هي فإن الصلاة لا تجوز إلا بالنية، وإذا فرغ من صلاته ينبغي أن يدعو الله لنفسه ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات وينبغي أن يعظم المسجد فإن الله تعالى قال {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} يعني تعظم. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء ورفع الأصوات في المساجد، ويكره كلام الفضول واللغو والشعر والخصومة فيه، وإذا أراد الرجل المسجد فينبغي أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه.
الباب الثاني والخمسون: في آداب النوم
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: ينبغي للإنسان إذا أراد النوم أن ينام على الوضوء لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((من بات طاهراً بات في شعاره ملك لا يستيقظ ساعة من الليل إلا قال الملك اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهراً)) وإن استطاع إنسان أن يكون أبداً على الطهارة فليفعل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس بن مالك ((إن أتاك الموت وأنت على وضوء لم تفتك الشهادة)) وبلغنا أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى إذا أصابتك مصيبة وأنت على غير وضوء فلا تلومنّ إلا نفسك. ويقال إن أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء إذا ناموا فما كان منها طاهراً أذن لها بالسجود وما كان غير طاهر فلا يؤذن لها بالسجود ويستحب له عند نومه أن يضطجع على يمينه فيستقبل القبلة عند أول اضطجاع، فإن بدا له أن ينقلب إلى الجانب الآخر فعل. ويستحب له أن يقول حين يضطجع بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ويدعو من الدعوات ما شاء. ويستحب له أن يقول حين يستيقظ ويقوم الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور فإذا قال هذا فقد أدى شكر ليلته. ويستحب له عند دخول البيت أن يبدأ برجله اليمنى وعند الخروج برجله اليسرى. وينبغي للمسلم أن يعود لسانه أن يقول بسم الله في جميع حركاته ويقول الحمد لله بعد فراغه من كل شيء لتدخل حلاوة الإيمان في قلبه. ويكره النوم في أول النهار، وفيما بين المغرب والعشاء. ويستحب النوم في وسط النهار. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى بعض أولاده وهو نائم نومة الصبحة فوكزه برجله وقال له: قم لا أنام الله تعالى عينيك أتنام في الساعة التي تقسم الأرزاق فيها، أو ما سمعت أنها النومة التي قالت العرب إنها مكرهة مكسلة مهرمة منساة للحاجة، ثم قال: النوم ثلاثة: خلق، وخرق، وحمق، فأما الخلق فنومة الهاجرة. وأما الخرق فنومة الضحى. وأما الحمق فنومة آخر النهار، لا ينامها إلا أحمق أو سكران أو مريض.
الباب الثالث والخمسون: في آداب الأكل
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للإنسان غسل اليدين قبل الطعام وبعده فإن فيه بركة، روى زاذان عن سلمان الفارسي قال: قرأت في التوراة الوضوء قبل الطعام بركة فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ((الوضوء قبل الطعام وبعد الطعام بركة)) يعني غسل اليدين. قال الفقيه: ولا تأكل طعاماً حاراً لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أبردوا الطعام فإن الحار غير ذي بركة، ولا تشم الطعام فإن ذلك عمل البهائم)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تشم الطعام كما تشم السباع، ولا تنفخ في الطعام ولا الشراب فإن ذلك من سوء الأدب وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينفخ في الإناء وأن يتنفس فيه، وإذا بدأت فقل بسم الله الرحمن الرحيم وليكن طعامك من حلال لأنه يقال: من كان طعامه حراماً، فإذا قال: بسم الله، قال الشيطان كلا إني كنت معك حين اكتسبته فأنا شريكك فيه فلا أفارقك الآن، وإذا كان طعامك حلالاً وذكرت بسم الله فيه يهرب منك الشيطان، فإذا لم تسم شاركك الشيطان فيه وذلك لقول الله تعالى {وشاركهم في الأموال والأولاد} وإذا قلت بسم الله فارفع صوتك حتى تلقن من معك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله تعالى وليأكل مما يليه وليأكل بيمينه، وإياكم والذروة فإن البركة تنزل من أعلاه، ولا يأكل أحدكم ويشرب بشماله، فإن الشيطان يأكل ويشرب بشماله، فإذا وضع في الإناء عشاء أحدكم فلا يقومن حتى يرفع، واجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه)) فهذا كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروت عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل بسم الله في أوله فإن نسي في أوله فليقل بسم الله في آخره، ومن قال عند كل لقمة بسم الله لا يحاسب يوم القيامة في أكلها)) وقال عبد الله بن مسعود: إذا دخل الرجل منزله فأكل ولم يسم أكل الشيطان معه، فإذا ذكر اسم الله منع الشيطان عن بقية طعامه وتقيأ ما أكل واستأنف طعاماً جديداً. ومن السنة أن يأكل بيمينه لما روى أياس بن سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه رأى رجلاً من أشجع يأكل بشماله فقال له كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال له كل بيمينك فقال لا أستطيع قال لا استطعت فما وصلت يده إلى فيه)) ومن السنة أن لا يؤكل الطعام من وسطه. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((تنزل البركة في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه)) وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تأكلوا الطعام من فوقه فإن البركة تنزل من فوقه)) فإن قيل روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أكل من وسط الطعام وقال آكل البركة ولا أدعها؟ قيل إنه احتمل أنه فعل ذلك بعد ما أكل من حافتيه. ومن السنة أن يلعق أصابعه قبل أن يمسحها بالمنديل وتركه من أمر العجم الجبابرة وكذلك لعق القصعة، ويقال إن القصعة تستغفر لمن يلعقها أي يلحسها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يلعقون أصابعهم)). وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم فلا يمسحن يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه)) وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الصحفة والقصعة)) وعن عبد الله بن يزيد قال: رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يلعق أصابعه الثلاثة إذا أكل. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا طعم أحدكم فلا يمسحن يده حتى يمصها فإنه لا يدري في أي طعام يبارك له فيه)) ومن السنة أن يأكل ما سقط من المائدة لما روى حجاج السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل ما يسقط من المائدة لم يزل في سعة من الرزق، ووفى الحق عنه وعن ولده وولد ولده)) وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يتركها للشيطان)) ومن السنة أن لا يجمع بين الفاكهة والثفل في طبق واحد لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين التمر والنوى على طبق واحد. ومن السنة أن يحمد الله تعالى إذا فرغ من الطعام. وروى أبو بكر الهذلي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا كان في الطعام أربع خصال فقد كمل شأنه كله: إذا كان من حلال، وإذا أكل ذكر اسم الله تعالى، ثم تكثر عليه الأيدي: وإذا فرغ منه يحمد الله تعالى)) ولا ينبغي أن يرفع صوته بحمد الله عز وجل إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل لأن في رفع الصوت منعاً لهم عن الأكل. ويستحب أن يبدأ الطعام بالملح ويختم به لأن ذلك من السنة، ويقال فيه شفاء من سبعين داء، ويستحب أن يأكل مما يليه، والاجتماع على الطعام أفضل من الانفراد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اجتمعوا على طعامكم يبارك الله لكم فيه)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده)) ويقال أحب الطعام إلى الله تعالى ما كثرت فيه الأيدي. ويكره للإنسان أن يكثر الأكل حتى يملأ بطنه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وبحسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه، فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) وروي أنه قال: ((كل داء من كثرة الأكل وكل دواء من قلته)) ويقال في قلة الأكل منافع كثيرة منها: أن يكون الرجل أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأزكى فهماً، وأقل نوماً، وأخف نفساً. وفي كثرة الأكل تخمة وتتولد منها الأمراض المختلفة. ويقال إذا كانت العلة من قلة الأكل صحت بمؤنة قليلة، وإذا كانت العلة تولدت من كثرة الأكل تحتاج إلى مؤنة كثيرة يرفعها. وقال بعض الحكماء: ثلاثة أصناف من الناس يبغضهم الناس من غير أن يكون لهم منهم أذى: البخيل، والمتكبر، والأكول.
الباب الرابع والخمسون: في إجابة الدعوة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: إذا دعيت إلى وليمة فإن لم يكن ماله حراماً ولم يكن فيها فسق فلا بأس بالإجابة، وإن كان ماله حراماً فلا تجبه وكذلك إن كان فاسقاً معلناً فلا تجبه ليعلم أنك غير راض بفسقه وإذا أتيت وليمة فرأيت فيها منكراً فانههم عن ذلك فإن لم يمتنعوا عن ذلك فارجع لأنك لو جالستهم يظنون أنك راض بفعلهم. وروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من تشبه بقوم فهو منهم)) وقال بعضهم: إجابة الدعوة واجبة لا يسع أحد تركها، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم)) وقال عامة العلماء ليست بواجبة ولكنها سنة مؤكدة، والأفضل أن يجيب إذا كانت وليمة يدعى إليها الغني والفقير لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت)) وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم)) فلأن القوم كانت بينهم عداوة في الجاهلية وكان في الإجابة ألفة وفي تركها إغراء فأوجب عليهم الإجابة، وإذا لم يكن يخاف هذا المعنى فالرجل بالخيار إن شاء أجاب وإن شاء ترك، والإجابة أفضل لأن في الإجابة إدخال السرور على المؤمن. ولبعض الحكماء:
من دعانا فأبينا # فله الفضل علينا
وإذا نحن أجبنا # رجع الفضل إلينا
وإذا دعاك إنسان فأجبته فإياك أن تمتنع من الحضور إلا بعذر واضح لأن في الامتناع بعد الإجابة جفاء وفيه أيضاً خلف الوعد، وإذا دعيت إلى وليمة وأنت صائم فأخبره بذلك فإن قال لك لا بد لك من الحضور فأجبه، وإذا دخلت المنزل فإن كان صومك تطوعاً فإن كنت تعلم أنه لا يشق عليه ذلك فلا تفطر، وإن علمت أنه يشق عليه امتناعك من الطعام فإن شئت فأفطر واقض يوماً مكانه وإن شئت فلا تفطر والإفطار أفضل. وروى أبو سعيد الخدري ((أن رجلاً أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله تعالى عنهم وكان فيهم رجل صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أجب أخاك وأفطر واقض يوماً مكانه)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليأكل وإن كان صائماً فليصل له)) يعني يدعو له به بالبركة. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دعي إلى طعام فجلس ووضع الطعام فمد يده وقال خذوا بسم الله، ثم قبض يده وقال إني صائم.
الباب الخامس والخمسون: في آداب الضيافة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: يستحب للضيف أن يجلس حيث يجلسه صاحب البيت لأنه أعرف بعورة بيته من غيره، ويقال يجب على الضيف أربعة أشياء، أولها: أن يجلس حيث يجلسه، والثاني أن يرضى بما قدم إليه، والثالث أن لا يقوم إلا بإذن رب البيت، والرابع أن يدعو له إذا خرج. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يقول ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، ونزلت عليكم الرحمة)) ولا ينبغي للضيف أن يشتهي على رب البيت إلا الملح والماء ولا يعيب طعامه بل ما وجد أكل وحمد وهو الأدب. ويقال في المثل: ليس للضيف ما اشتهى وتمنى إن للضيف ما إليه يقرب. وإذا كان في المائدة من هو أكبر منه سناً فلا يبدأ قبله فإنه يقال: الصدر للسلطان والبداءة لذي السن. ذكر أن حكيماً دعي إلى طعام فقال أجيبك بثلاث شرائط أولها أن لا تتكلف، والثاني أن لا تخون والثالث أن لا تجور. قال ما التكلف؟ قال أن تتكلف ما ليس عندك. قال وما الخيانة. قال: أن تبخل بما عندك فلا تقربه إلى ضيفك، قال وما الجور؟ قال تحرم عيالك وتعطي ضيفك. قال وإذا دعوت قوماً إلى طعام فإن كان القوم قليلاً فإن جلست معهم فلا بأس لتخدمهم على المائدة لأن خدمتك إياهم على المائدة من المروءة، وإن كان القوم كثيراً فلا تقعد معهم واخدمهم بنفسك فإن إكرام الضيف أن تخدمه بنفسك. وذكر في قوله تعالى {ضيف إبراهيم المكرمين} قال: كان إكرامهم خدمته لهم بنفسه، ويستحب لصاحب الضيافة أن يقول للضيف أحياناً كل من غير إلحاح لأن الفرس تشرب من غير صفير ومع الصفير أكثر شرباً. والبعير يسير من غير حداء ومع الحداء أكثر. فكذلك الضيف إذا قلت له كل كان أكله أهنأ ولا تلح عليه فإن الإلحاح مذموم، ولا تكثر السكوت عند الأضياف فتدخل الوحشة عليهم، ولا تغب عنهم فإن ذلك من الجفاء ولا تغضب على الخادم عند الأضياف لأنه يقال أفضل ما يبذل للضيف وأفضل ما يكرم به الوجه الطلق والقول الجميل. ولا ينبغي أن يجلس مع الأضياف من يثقل عليهم فإن الثقيل ينغص الطعام، وإذا فرغوا من الطعام واستأذنوا فلا ينبغي أن يمنعهم فإن ذلك مما يثقل عليهم. وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: لا تكرم أخاك بما يكره، وذكر أن حكيماً أضافه رجل فقال له أجيبك بثلاث شرائط أحدها: أن لا تطعمني سماً، والثاني أن لا تجلس معي من هو أحب إليك وأبغض إلي، والثالث أن لا تحبسني في السجن. قال نعم، فلما دخل عليه أجلس معه صبياً صغيراً ولما قدم إليه الطعام وفرغ من الأكل جعل يلح عليه في الأكل، ولما أراد الخروج قال امكث ساعة، فقال له الحكيم نقضت الشرائط كلها وإذا حضر بعض القوم وأبطأ الآخرون فالحاضرون أحق أن يقدموا. ويقال ثلاث يورثن السل: رسول يبطئ، وسراج لا يضيء وطعام ينتظر عليه من يجيء. وينبغي لصاحب الضيافة أن لا يقدم الطعام حتى يقدم الماء ليغسلوا أيديهم فإن ذلك من المروءة، وإذا أراد أن يقدم الماء لغسل الأيدي قبل الطعام كان القياس أن يبدأ بمن هو في آخر المجلس ويؤخر صاحب الصدر، لأن في ترك ذلك حبساً عن المس والتناول، والبر في تأخيره، لأنه قيل أول الغسل أخلاق فالأصاغر أولى به وآخر الغسل إطلاق فالأكابر أولى به، ولكن الناس قد استحسنوا البداءة بصاحب الصدر إذا كان ذلك قبل الطعام ويعدون ذلك من البر، فإن فعل فلا بأس به، وإذا غسلوا أيديهم قبل الطعام كان القياس أن لا يمسح الغاسل يديه بالمنديل، لأنه غسل يديه من المس ولا يمس بعد الغسل، ولكن الناس قد استحسنوا مسح اليد بالمنديل فإذا فعل ذلك فلا بأس به. وإذا أرادوا غسل أيديهم بعد الطعام فقد كره بعض الناس إفراغ الطست في كل مرة وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((املأوا الطسوس ولا تتشبهوا بالمجوس)) وروي في خبر آخر ((اجمعوا وضوءكم يجمع الله شملكم)) ويقال إفراغ الطست في كل مرة من فعل العجم. وقال بعضهم: لا بأس به وهو من المروءة، ولأن الدسومة إذا سالت في الطست فربما تنضح ثيابه فتفسد عليه. وقد كان في الزمن الأول غالب طعامهم الخبز والتمر أو طعاماً فيه قليل من الدسومة، وأما اليوم إذا أكلوا البأجاة والألوان ويصيب أيديهم من ذلك فلا بأس بصبه في كل مرة، فأي الوجهين فعل فلا بأس به. ويكره للرجل أن ينظر على لقمة غيره لأن في ذلك سوء أدب. ولا ينبغي للضيف أن يكثر الالتفات إلى الموضع الذي يؤتى الطعام منه فإن ذلك مكروه عند الناس، والله أعلم.
الباب السادس والخمسون: في الخلال
روي عن ابن سرين أنه قال: كان ابن عمر يأمر بالخلال ويقول إذا ترك وهن الأضراس، وروي عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تغتسلوا بالماء المشمش فإن ذلك يورث البرص، ولا تخللوا بالقصب فإنه يورث الأكلة. وقال الأوزاعي: لا تخللوا بالآس فإن ذلك يورث عرق النساء. (قال الفقيه) رحمه الله: إذا تخلل الرجل فما خرج من بين أسنانه من الطعام فإن ابتلعه جاز وإن ألقاه جاز. وقد جاء في الأثر الإباحة في الوجهين جميعاً. وهو ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل طعاماً فما تخلل فليلفظ وما لاك بلسانه فليبتلع فمن فعل فقد أحسن ومن لم يفعل فلا حرج)) ويستحب إذا أراد أكل اللحم أن يأكل قبله لقمتين أو ثلاثاً من الخبز حتى يسد الخلل. ويكره الخلال بالريحان وبالآس وبخشب الرمان والمشط. ويستحب أن يكون الخلال من الخلاف الأسود أو الأصفر، وإذا كان الرجل ضيفاً عند إنسان فتخلل بين أسنانه فلا ينبغي له أن يرى بالخلال أو بالطعام الذي خرج من بين أسنانه لأن ذلك يفسد ثيابه ولكنه يمسكه فإذا أتي بالطست لغسل اليد ألقاه فيه ثم يغسل يده فإن ذلك من المروءة.
الباب السابع والخمسون: في آداب الشرب
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: يستحب للرجل أن يشرب بثلاثة أنفاس وهو قاعد ولو شرب بنفس واحد أو شرب قائماً فلا بأس. وقد جاءت الآثار في الإباحة وقد جاءت بخلافه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تشربوا الماء واحدة كشرب البعير واشربوا مثنى وثلاث وسموا الله تعالى إذا شربتم واحمدوه إذا فرغتم)) وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن الشرب قائماً)) وروى النزال بن سبرة أنه قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه يشرب فضل وضوئه قائماً، ثم قال: إن ناساً يكرهون أن يشربوا قياماً، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً. وعن نافع عن ابن عمر قال: كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نمشي. وروى إبراهيم بن سعيد عن أبي هريرة خلاف هذا أنه قال: لو يعلم الذي يشرب قائماً ما عليه لاستقاء. (قال الفقيه) رحمه الله: إذا شرب قاعداً فهو أحسن في الأدب وأبعد من الأذى والضرر وروي عن الشعبي أنه قال: إنما كره الشرب قائماً لأن داء، وإنما كره الأكل متكئاً مخافة أن يعظم الظن: يعني أن النهي نهى الشفقة لا نهي التحريم كما نهى عن الشرب من فم السقاء. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((أنه نهى عن الشرب من فم السقاء)) يعني من فم القربة لأن ذلك ينتنه. وروي عن مجاهد أنه قال: لا تشرب من قبل العروة والثلمة فإن الشيطان يقعد عليه.
الباب الثامن والخمسون: في تقديم اليمين على الشمال
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا شربت شراباً وعندك قوم يميناً وشمالاً فابدأ بالذي عن يمينك لأن لليمين فضلاً على الشمال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء وقال ((إذا اعترض لكم طريقان فتيامنوا)) وروي عن سهل بن سعد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقدح فشرب وعن يمينه غلام وهو أحدث القوم سناً والأشياخ عن يساره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتأذن لي أن أعطي الأشياخ؟ فقال له ما كنت أوثر بنصيبي منك أحداً يا رسول الله فأعطاه إياه)) وروي عن أنس بن مالك أنه قال ((كان عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعن يمينه أعرابي، فلما شرب ناول الأعرابي فقال له ناول أبا بكر يا رسول الله فإنه أفضل مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الأيمن فالأيمن)) وقال الشاعر:
صددت الكاس عنا أم عمر # وكان الكاس مجراها اليمينا
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا انتعلت فابدأ باليمنى، وإذا انتزعت فابدأ باليسرى)) وقال ((لا يمشي أحدكم في نعل واحد لينتعلهما أو ليخلعهما جميعاً)) وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تمشي في طريق فأصاب الخف رجلها فخلعت خفها وجعلت تمشي في خف واحد وقالت لأخيبن أبا هريرة: يعني أخالفه فيما يقول. (قال الفقيه): إن كان لعذر فلا بأس، وإن كان بغير عذر يكره حتى يكون جمعاً بين الحديثين، والله أعلم.
الباب التاسع والخمسون: في الخروج من المنزل والصحبة
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للرجل إذا خرج من بيته أن يقول: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه بلغنا أنه إذا قال بسم الله قال له الملك هديت، وإذا قال توكلت على الله قال له الملك كفيت، وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قال له الملك وقيت. ويستحب للرجل إذا خرج من المنزل أن يغض بصره ولا ينظر يميناً وشمالاً من غير حاجة ويجعل نظره حيث يضع قدميه لأن النظر يورث الشهوات، وإذا نظر يغفل عن أذى الطريق فيصيبه وهو لا يشعر، وإذا استقبلك المسلم فابدأه بالسلام واستقبله بالبشر فإن كان صديقك فصافحه ولا تنزع يدك من يده قبله وتبسم في وجهه فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من فعل ذلك تحاتت ذنوبه)) ويستحب للراجل مشيه في جانب الطريق وللراكب في وسطه إذا كان في مصر، وإن كان في الفضاء فوسط الطريق للراجل وجانباه للراكب. ويستحب للمنتعل أن يوسع في سهل للحائد عن الطريق، وإذا استقبله الكافر والمرأة اختار لنفسه سواء الطريق فقد جاء الأثر في ذلك كله. وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا لقيتم اليهود والنصارى في الطريق فاضطروهم إلى ضيقها)) وروى المقداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ليس للنساء نصيب في سواء الطريق)) ولا ينبغي للعاقل أن يتمخط أو يبزق في ممر الناس لكيلا يصيب أقدامهم، ويستحب للرجل مجالسة المشايخ وأهل الخير وتكره مجالسة الأحداث والصبيان والسفهاء لأنه يذهب بالمهابة ويستحب مجالسة من يرغب في الآخرة ويذكر الموت ونحو ذلك وتكره مجالسة أهل الدنيا الحراص عليها الذين يخوضون في أمر الدنيا فإنهم يفسدون على الرجل قلبه ودينه وعيشه، وإذا استغنيت عن دخول السوق فأقلل الدخول فيها فإنه يقال فيها مردة الشياطين من الإنس، ويقال فيها ذئاب عليها ثياب. ويستحب للرجل إذا دخل السوق أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير. فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من قال ذلك فله بكل عدد من في السوق عشر حسنات)).
الباب الستون: في البيع والشراء
(قال الفقيه) رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن يشتغل بالتجارة ما لم يعلم أحكام البيع والشراء ما يجوز وما لا يجوز. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يبيعن في أسواقنا من لم يتفقه في الدين. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من اتجر قبل أن يتفقه في الدين فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم ثم ارتطم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رحم الله امرأ سهل البيع سهل الشراء سهل القضاء سهل التقاضي)) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) وروي عن محمد بن السماك أنه كان يدخل السوق ويقول: يا أهل السوق سوقكم كاسدة، وبيوعكم فاسدة، وجيرانكم حاسدة، ومأواكم النار الموقدة: يعني إذا كان التاجر جاهلاً ولا يحترز عن الربا، وأما إذا كان التاجر قد تعلم الفقه وكان نقياً في حال تجارته فهو في الجهاد لأنه روي في الخبر أن كسب الحلال أفضل الجهاد. وقال قتادة: بلغنا أن التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة. وإذا باع الرجل شيئاً أو اشترى فندم صاحبه فطلب منه الإقالة فينبغي أن يقيل عثرته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه باع من رجل خزًا فندم المشتري فجاء إليه فطلب الإقالة فأقاله البيع، ثم قال أبو حنيفة لخادمه: قم وارفع الثياب حتى تذهب إلى المنزل فما كان حاجتي إلى البيع والشراء إلا لكي أدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم ((من أقال نادماً أقال الله تعالى عثرته يوم القيامة)) وقد دخلت الآن تحت قوله صلى الله عليه وسلم ((وإذا اشتريت من السوق فقال لك صاحبك قبل الشراء ذقه وأنت في حل فلا تأكل منه)) لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء فربما لا يتفق بينكما بيع فيكون ذلك الأكل شبهة، ولكن لو وصفه لك فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار. ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة. ويكره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته وهو أن يقول صلى الله عليه وسلم ما أجود هذا. ويستحب للتاجر أن لا تشغله تجارته عن أداء الفرائض فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} إلى قوله {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله} ثم اختلفوا فيهم، فقال بعضهم: هم الذين تركوا التجارة واشتغلوا بالعبادة مثل أصحاب الصفة ومن كان مثل حالهم، وقال بعضهم: هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارتهم عن الصلاة في ميقاتها. وروي عن الحسن البصري أنه قال: كانوا يتجرون ولا تلهيهم تجارة عن ذكر الله وعن الصلاة. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: فقد دخل في الآية كلا الفريقين، والله أعلم.
الباب الحادي والستون: في طاعة الولاة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: فالواجب على الرعية طاعة الوالي ما لم يأمرهم بالمعصية فإذا أمرهم بالمعصية لا يجوز لهم أن يطيعوه ولا يجوز لهم الخروج عليه إلا أن يظلمهم فامتنعوا من ظلمه، وإنما قلنا إن طاعة الوالي واجبة لقوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال بعض أهل التفسير: يعني الأمراء منكم. وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي)) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه لما بلغه استخلاف يزيد بن معاوية قال: إن كان خيراً فرضينا وإن كان شراً فصبرنا. وقال بعض الصحابة: إذا عدلت الأئمة في الرعية كان الشكر على الرعية والأجر للأئمة، وإن جارت الأئمة على الرعية كان الصبر على الرعية والوزر على الأئمة. وأما إذا أمرونا بمعصية فلا تجوز الطاعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً فأمر عليهم رجلاً فغضب عليهم يوماً فأوقد ناراً فقال ادخلوها فأراد بعضهم أن يدخلها وقال بعضهم إنما فررنا من النار فلا ندخلها، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً ((لا طاعة لمخلوق في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) وقال عبد الله بن مسعود: إن الله عز وجل ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقال حذيفة بن اليمان: ليبعثن الله عليكم أمراء يعذبونكم ويعذبهم الله تعالى في النار يوم القيامة. وروى موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون عليكم بعدي أمراء يعملون ما ينكرون ويأمرونكم بما لا يعملون فأولئك لا طاعة لهم)) وروي عن الزبير بن عدي قال: ((أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه)) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
الباب الثاني والستون: في الأخذ من الأمراء
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في أخذ الجائزة من السلطان. قال بعضهم: يجوز أخذه ما لم يعلم أنه يعطيه من حرام. وقال بعضهم: لا يجوز. فأما من أجازه فقد ذهب إلى ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن السلطان يصيب من الحلال والحرام فما أعطاك فخذه فإنما يعطيك من الحلال. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من أعطي شيئاً من غير مسألة فليأخذه فإنما هو رزق رزقه الله تعالى)) وروى الأعمش عن إبراهيم أنه لم ير بأساً بالأخذ من الأمراء. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: رأيت هدايا المختار بن عبيد تأتي إلى ابن عمر وابن عباس فيقبلانها. وعن الحسن أنه كان يأخذ هدايا الأمراء. وعن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن حماد أن إبراهيم النخعي خرج إلى زهير بن عبد الله الأزدي وكان عاملاً على حلوان يطلب جائزته هو وذر الهمداني. قال محمد: وبه نأخذ ما لم نعرف شيئاً حراماً بعينه وهو قول أبي حنيفة. وأما من كرهه فقد ذهب إلى ما روي عن حبيب بن أبي ثابت قال: أرسل أمير من الأمراء إلى أبي ذر الغفاري بمال، فقال أبو ذر: أو كل المسلمين أرسل إليهم بمثل هذا؟ قال لا، قال رده، ثم قرأ {كلا إنها لظى نزاعة للشوى}. وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه مر بأبي ذر وهو نائم على حائط المسجد فقال لغلامه: خذ هذه الدنانير واقعد ههنا حتى يستيقظ هذا الرجل وادفعها إليه فإن قبلها منك فأنت حر، فلما استيقظ أعطاها إياه فأبى أن يقبل، فقال له الغلام خذها فإن فيه فكاك رقبتي من الرق، فقال لا آخذها فإن فيه استرقاق رقبتي. وروي عن أبي وائل أنه قال: درهم من تجارة أحب إلي من عشرة من عطاء. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال يا أبا الدرداء إن فلاناً شتمني وظلمني، فقال له أبو الدرداء إن كنت صادقاً فلا تمر بك الأيام حتى يعاقبه الله تعالى، قال فما مرت بي الأيام حتى دخل على الأمير فأجازه بعشرة آلاف درهم، فأرسل أبو الدرداء إلى صاحبه فقال صدقت يا أخي فقد عاقبه الله عقوبة عظيمة، فقال يا أبا الدرداء أو بعد ذلك عقوبة؟ فقال والله لو جلد على ظهره عشرة آلاف سوط كان أرجى له من عشرة آلاف درهم. (قال الفقيه) قبول الجائزة عندنا على وجهين: فإن كان الأمير غالب أمواله من الرشوة والأخذ بغير الحق فلا يجوز قبول جائزته إلا أن يعلم أن الذي بعث إليه أصابه من حلال، وإن كان الأمير غالب أمواله ميراثاً من حلال أو تجارة اكتسبه فلا بأس بأن يقبل ما لم يعلم أن الذي بعثه إليه من حرام أو شبهة، وتركه أفضل في الوجهين جميعاً.
الباب الثالث والستون: في النهي عن النظر في بيت غيره
(قال الفقيه) رحمه الله: لا يجوز لأحد أن ينظر في بيت غيره بغير إذنه فإن فعل فقد أساء وهو آثم في فعله، فإن نظر ففقأ صاحب البيت عينه فقد اختلف المشايخ فيه؟ قال بعضهم لا شيء عليه، وقال الآخرون عليه الضمان، وبه نأخذ. أما من قال إنه لا شيء عليه فقد ذهب إلى ما روى ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي ((أن رجلاً اطلع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو علمت أنك تنظرني لطعنتك بها في عينك إنما جعل الإذن من أجل النظر)) وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح، وأما من قال إنه يجب عليه الضمان فلأن الله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية، وقال تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} فالخبر مخالف للكتاب وإذا كان الخبر مخالفاً لكتاب الله تعالى أوله معنى سوى معنى ظاهره لا يجوز العمل به. واحتمل أن الخبر منسوخ كان قبل نزول قوله تعالى {وإن عاقبتم} الآية، ويحتمل أن الخبر على وجه الوعيد لا على وجه الحتم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وأراد به شيئاً آخر كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس السلمي لما مدحه قال لبلال: قم واقطع لسانه وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئاً ولم يرد به القطع في الحقيقة فكذلك هذا يحتمل أنه ذكر فقء العين وأراد أن يعمل به عملاً لا ينظر بعد في بيت غيره، والله أعلم بالصواب.
الباب الرابع والستون: في النهي عن التعرض للتهمة
(قال الفقيه) رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للتهمة ولا يجالس أهل التهمة ولا يخالطهم فإنه يصير متهماً، وقال الله تعالى {أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((من تشبه بقوم فهو منهم)) وروي عن لقمان الحكيم أنه قال: من يصحب صاحب السوء لم يسلم، ومن يدخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم. وروي بهذا اللفظ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى ابن شهاب عن علي بن الحسين ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية وهي عمته وهو في المسجد فلما رجعت انطلق معها، فمر به رجلان من الأنصار فقال لهما إنما هي عمتي صفية قالا سبحان الله قال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولقد خشيت أن تظنا فتهلكا))، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم)).
الباب الخامس والستون: في الرفق
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: ينبغي للمسلم أن يستعمل الرفق في كل شيء والتواضع من غير ذل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه، وروى مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو نظر الناس إلى خلق الرفق لم يروا مخلوقاً أحسن منه، ولو نظروا إلى خلق الخرق لم يروا مخلوقاً أقبح منه)) وروى عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أن رجلاً استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائذنوا له فبئس ابن العشيرة -أو بئس رجل العشيرة أو بئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له القول، فقلت له يا رسول الله قد قلت ما قلت ثم ألنت له القول فقال إن شر الناس منزلة يوم القيامة من أكرمه الناس اتقاء فحشه))، وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أن رجلاً خاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال وهو يخاصم حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يلوم عبده على العجز فأبلغ بنفسك عذرها في حجتها ثم قل حسبي الله ونعم الوكيل)) وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني لا تكن مراً فتلفظ، ولا حلواً فتبتلع. وقال إبراهيم النخعي في قوله تعالى {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} قال: كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن امرأة سألتها فقالت إن لي جيراناً يهينونني وجيراناً يكرمونني، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أهيني من أهانك وأكرمي من أكرمك. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: هذا الذي قالت عائشة رضي الله تعالى عنها هو العدل والإنصاف. وأما من أخذ بالعفو وأحسن لمن أساء إليه فهو أفضل لأن الله تعالى قال {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} ويقال ثلاثة من أخلاق أهل الجنة لا توجد إلا في الكريم: الإحسان إلى من أساء إليه؛ والعفو عمن ظلمه، والبذل لمن حرمه، وهو موافق لقول الله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وروي عن ابن زيد عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ولن يهلك امرؤ بعد مشورة لقوله تعالى {وشاورهم في الأمر}.
الباب السادس والستون: في فضل العصا
روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إمساك العصا سنة الأنبياء وعلامة المؤمن. وقال الحسن البصري رحمه الله: للعكازة ست خصال: سنة الأنبياء، وعلامة المؤمن، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء: يعني الكلب والحية وغيرهما، وعون الضعفاء، ورغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان. ويخضع له المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى وقوته إذا عيى، وفيها منافع كثيرة كما قال الله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام {وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} قيل: فيها ألف نوع من المنافع.
الباب السابع والستون: في زوال الدنيا عن المؤمن
روي عن معاوية بن أبي سفيان قال: أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر رضي الله تعالى عنه فقد أرادته ولم يردها، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقد نال منها ونالت منه، وأما علي رضي الله تعالى عنه فكان يرجو منها أحياناً ويتركها أحياناً، وأما نحن فقد تمرغنا فيها ظهراً لبطن فلا ندري إلى ماذا يصير الأمر. وقال زيد بن أرقم ((كنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى فبكينا لبكائه فسكتنا ولم يسكت، ثم مسح عينيه فقلنا ما حاجتك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً فلم أر معه شيئاً ولا أحداً، فقلت يا رسول الله أراك تدفع عن نفسك شيئاً ولا أرى معك أحداً قال هذه الدنيا تمثلت لي فقلت إليك عني فتنحت، فقالت أما إنك إن تفلت عني فلن يفلت عني من بعدك فخفت أن تلحقني، ثم وضع الإناء من يده ولم يشرب)). (قال الفقيه) رحمه الله: من أصاب من الدنيا شيئاً من حلال فلا يكون آثماً في ذلك إن أخذه، ولكن لو تركه كان أنفع لآخرته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حلالها حساب وحرامها عذاب)) وقال عبد الله بن عمر: من أصاب شيئاً من الدنيا نقص من آخرته وإن كان كريماً على الله، نعوذ بالله من مكر الله.
الباب الثامن والستون: في علامة الساعة
(قال الفقيه) رحمه الله: روى وكيع عن سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد قال ((اطلع النبي صلى الله عليه وسلم من غرفته ونحن نتذاكر الساعة فقال لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات قبلها: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، ودابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه السلام، وثلاث خسوف: خسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا)) وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان إذا ذكر عنده الدجال قال: إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور وإن المسيح الدجال أعور العين اليمين كأن عينه طافئة كالعنبة)) وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه بالأعور الكذاب إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر)) وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن مع الدجال ماء وناراً، فماؤه نار وناره ماء)) وروي عن فاطمة بنت قيس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ليلة صلاة العشاء ثم خرج فقال: إنما حبسني حديث كان يحدثني به تميم الداري أن ابن عم له ركب البحر فوقع في جزيرة من جزائر البحر فإذا هو بقصر بقصر فيه رجل يجر شعره مسلسل بالأغلال فقال له من أنت؟ فقال أنا الدجال أما خرج الرسول الأمي بعد؟ قال نعم، قال أطاعوه أم عصوه؟ قال بل أطاعوه. قال ذلك شر لي خير لهم)). (قال الفقيه) رحمه الله: قد اختلف الناس في أمره ((قال بعضهم: إنه محبوس، ويخرج في آخر الزمان، وقال بعضهم: إنه لم يولد بعد وسيولد في آخر الزمان ويخرج ويدعو الناس إلى عبادة نفسه فيتبعه من اليهود ما لا يحصى، ويطوف بالبلدان ويفتن كثيراً من الناس، ثم ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتله في باب لد في بيت المقدس. ويظهر الإسلام في جميع الأرض، والله أعلم.
الباب التاسع والستون: في حد الكلام
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يكون كلامه بالوزن ويكون كلامه في موضعه ولا يتكلم بما لا يعنيه فإنه إذا اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ولا يجيب عما لا يسأل فإن ذلك علامة لخفة الرجل وقلة عقله وجهله. ولا ينبغي للعاقل أن يغضب على ما لا فائدة فيه فإنه يقال علامة جهل الرجل أن يقذف الدواب ويشتمها فإن الدواب لا تعرف نداء ولا دعاء فالاشتغال بقذفهن وشتمهن جهل تام: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه سمع رجلاً يلعن الريح فقال صلى الله عليه وسلم من لعن شيئاً لم يكن أهلاً لها رجعت اللعنة عليه)) وروى أبو المليح عن أبيه ((أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان رديفه على دابته فعثرت بهما الدابة فقال الرجل تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقل تعس إبليس فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون ملء البيت ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون مثل الذباب)) وروى سماك بن حرب عن أبي لفافة العدوي قال: أخذت بكراً ودخلت المدينة وأنا أريد بيعه، فمر بي أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقال يا أعرابي أتبيع البكر؟ فقلت نعم يا خليفة رسول الله، قال بكم تبيعه؟ قلت بمائة وخمسين: قال تبيعه بمائة؟ فقلت لا عافاك الله، قال لا تقل لا عافاك الله ولكن قل: لا وعافاك الله، فقد علمه حد الكلام: يعني لا تقل لا عافاك الله فإنه يشبه الدعاء بنفي العافية. وينبغي للعاقل إذا سمع حديثاً أنكره ولم يكن سمعه أن لا يقول الحديث كذب ولا يقول أيضاً هو صدق لأنه لو صدقه فلعله يكون كذباً ولو كذبه فلعله يكون صدقاً، ولكن يقول لم يبلغني هذا الحديث ولا أعرفه. وروى يحيى عن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ((كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، ولكن قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل)) وسئل بعض المتقدمين عن رجل قيل له أتؤمن بفلان النبي فسماه باسم لم يعرفه فلو قال نعم فلعله لم يكن نبياً فقد شهد بالنبوة لغير نبي ولو قال لا فلعله نبي فقد جحد نبياً من الأنبياء فكيف يصنع؟ قال ينبغي أن يقول إن كان نبياً فقد آمنت به. وروي عن أبي نصر محمد سلام أنه كان إذا سئل عن مسألة في الكلام أبى أن يجيب فقيل له إذا أشكلت علينا مثل هذه المسائل كيف نقول فيها؟ قال قولوا آمنا بالله وبجميع ما أراد الله وبجميع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجميع ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الباب السبعون: في النهي عن التصاوير
(قال الفقيه) رحمه الله: يكره للرجل أن يصور صورة مما لها روح ولا بأس بأن يصور شيئاً مما لا روح له مثل الأشجار ونحوها: وروي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم)) وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((قال الله تعالى (ومن أظلم ممن يخلق كخلقي))) وروى مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة فإما أن يقطع رأسها أو تبسط)) وروى ((أنه كان على باب بيت عائشة رضي الله تعالى عنها ستر معلق عليه تماثيل، فنزل جبريل عليه السلام فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو تماثيل فإما أن تقطعوا رؤوسها أو تبسطوها بسطاً)). (قال الفقيه) وبه نأخذ، فلا بأس بأن تبسط الثياب التي عليها تماثيل. وروي عن عطاء وعكرمة أنهما قالا: إنما كره من التماثيل ما نصب نصباً فأما ما وطئته الأقدام فلا بأس به.
الباب الحادي والسبعون: في تزويج الزانية
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في نكاح الزانية. قال بعضهم لا يجوز. وقال عامة أهل العلم يجوز وبه نأخذ. أما حجة الطائفة الأولى فإن الله تعالى قال {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي غير زانين فأباح الله تعالى نكاح غير المسافحين فثبت بهذا أن نكاح الزانية باطل، ولأن الله تعالى قال {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} إلى قوله تعالى {وحرم ذلك على المؤمنين} فحرم نكاح الزواني على المؤمنين. وروي عن بعض الصحابة أنه سئل عن رجل زنى بامرأة ثم تزوجها قال هذا أشر من الأول، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن رجل زنى بامرأة ثم تزوجها فكرهته. وأما من قال بأنه يجوز فحجته ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن رجل زنى بامرأة ثم تزوجها فقال أوله سفاح وآخره نكاح والنكاح مباح فلا يحرم السفاح النكاح، وقال هذا بمنزلة من أكل من نخلة إنسان في أول النهار ثم اشتراها في آخره، وأما تأويل قوله تعالى {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} فقال سعيد بن جبير والضحاك: معناه الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهكذا روي عن عبد الله بن عباس، وقد قيل إن الآية منسوخة لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فقال إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال طلقها، فقال إني أحبها، فقال أمسكها)).
الباب الثاني والسبعون: في تفضيل الفقير على الغني
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في تفضيل الفقير على الغني، فقال بعضهم الفقير أفضل وقال بعضهم الغني أفضل. وحاصل الاختلاف راجع إلى أن الغني الصالح أفضل أم الفقير الصالح؟ قال بعضهم الغني الصالح أفضل، وقال بعضهم الفقير الصالح أفضل وبه نأخذ، فأما من قال الغني الصالح أفضل فلقوله تعالى {ووجدك عائلاً فأغنى} فمن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالغنى فلو لم يكن الغنى أفضل لما من عليه بذلك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما أحسن الغنى مع التقى)) وروي عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)) وروي عن هشام عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كرمكم تقواكم، وشرفكم غناكم، وأحسابكم أخلاقكم. وقال بعض المتقدمين: المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، ومن جعل الفقر لحافاً فهو غريب أينما كان. وقال محمد بن كعب القرظي: إن الغني إذا كان تقياً يضاعف الله له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} وعن سعيد بن المسيب قال: لا خير فيمن لا يجمع المال من حله ليصل به رحمه، ويخرج منه حقه، ويصون به عرضه. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قسم ميراث الزبير بن العوام أربعين ألف ألف درهم. وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان له ثلاث نسوة فطلق إحدى نسائه في مرضه فصالحوها بعد موته عن ميراثها عن ثلث الثمن على ثلاثة وثمانين ألفاً، وروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كانت غلة طلحة بين عبيد الله كل يوم ألفاً وافياً. وأما حجة من قال: إن الفقر أفضل فقول الله تعالى {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} فأخبر الله تعالى أن الغنى يحمله على الطغيان، وقال في موضع آخر {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} فأخبره الله تعالى أن الفقراء هم الذين كانوا يتبعون الأنبياء. وروى أبان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لكل أحد حرفة وحرفتي اثنتان: الفقر، والجهاد، فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)) وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده)) وروى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: ما أصاب عبد من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله تعالى وإن كان كريماً على الله، وروي عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال: الفقر مشقة في الدنيا مسرة في الآخرة، والغنى مسرة في الدنيا مشقة في الآخرة. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين، قيل ولم ذلك يا رسول الله؟ قال لأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً، ولأن الغني يتمنى عند موته أن لو كان فقيراً ولا يتمنى الفقير أن لو كان غنياً)) ولو لم يكن للفقير فضيلة سوى أن حسابه في الآخرة أقل وأخف لكانت حجة كافية، ويقال: أعظم منة الله على عبيده يوم القيامة أن يقول: ألم أجمل ذكرك. وقال القائل:
دليلك أن الفقر خير من الغنى # وأن قليل المال خير من المثري
لقاؤك مخلوقاً عصى الله بالغنى # ولم تر مخلوقاً عصى الله بالفقر
وقال آخر:
يا عائب الفقر ألم تنزجر # عيب الغنى أكبر لو تعتبر
إنك تعصى لتنال الغنى # وليس تعصي الله كي تفتقر
(قال الفقيه) رحمه الله: الفقر أفضل من الغنى ولكن لا عيب في الغنى، ألا ترى إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أغنياء ولم يأمرهم بتركه، ولو كان مذموماً لنهاهم عن ذلك ولأمرهم بترك المال، فلما لم يأمرهم بتركه ثبت أنه لا عيب في الغنى. وإنما العيب على صاحبه إذا فعل في غناه بخلاف ما أمر الله تعالى. ويقال: إنما الاختلاف في الزمن الأول أن الغني أفضل من الفقير لأن غالب أموالهم كانت من حلال فإذا أخذوا من حله ووضعوا في حقه فقال بعضهم هذا أفضل. وأما في هذا اليوم لما صار غالب أموالهم الحرام والشبهة فلا معنى لهذا الاختلاف فالفقر أفضل بالاتفاق.
الباب الثالث والسبعون: في الاستدانة
(قال الفقيه) رحمه الله: لا بأس بأن يستدين الرجل إذا كانت له حاجة لا بد منها وهو يريد قضاءها، ولو أنه استدان ديناً وقصد أن لا يقضيه فهو آكل السحت. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أنها كانت تستدين، فقيل لها مالك وللدين؟ فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله تعالى عون، فأنا ألتمس من الله تعالى عوناً)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((تعرضوا للرزق فإن غلب أحدكم فليستدن على الله وعلى رسوله)) وروي عن محمد بن علي أنه كان يستدين، فقيل له لم تستدين ولك من المال كذا وكذا؟ فقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله مع المديون حتى يقضي دينه، فأحب أن يكون الله معي)) وأما إذا استدان ونيته أن لا يؤدي فهو آكل السحت لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من تزوج امرأة ومن نيته أن يذهب بصداقها جاء يوم القيامة زايناً، ومن اشترى شيئاً ومن نيته أن يذهب بثمنه جاء يوم القيامة سارقاً)) وروى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه قيل له يا رسول الله أرأيت من قتل في سبيل الله هل تكفر عنه خطاياه؟ قال نعم إذا كان محتسباً صابراً مقبلاً غير مدبر إلا الدين فإنه مأخوذ به)) وقال لقمان الحكيم: حملت الحديد والجندل فلم أحمل شيئاً أثقل من الدين.
الباب الرابع والسبعون: في العزل
(قال الفقيه) رحمه الله: لا بأس بالعزل إذا كان بإذن المرأة. والعزل أن يطأ امرأته فيعزل عنها قبل أن يقع الماء فيها مخافة الحبل وكان اليهود يكرهون ذلك فيقولون هي الموءودة الصغرى فنزلت هذه الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وعن ابن عباس أنه سئل عن العزل فقال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئاً فهو كما قال، وإلا فأنا أقول كما قال الله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فمن شاء عزل ومن شاء لم يعزل. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن العزل فقال: لو أخذ الله ميثاق نسمة في صلب رجل فصبها علي صباً أخرج الله منه النسمة التي أخذ ميثاقها، إن شئت فاعزل وإن شئت فأولج. وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن العزل فذكر نحو هذا. وروي عن ابن عمر أنه سئل عن هذه الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال: إن شئتم عزلاً وإن شئتم غير عزل. وروى عطاء عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل وما منع من العزل.
الباب الخامس والسبعون: في القول في عذاب الميت ببكاء أهله
(قال الفقيه) رحمه الله: تكلم الناس في عذاب الميت ببكاء أهله. قال بعضهم: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ويحتجون بظاهر الخبر، وهو ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله)) وقال عامة أهل العلم: لا يعذب الميت ببكاء أهله عليه لأن الله تعالى قال {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وروى القاسم بن محمد أن عائشة رضي الله تعالى عنها قيل لها: ((إن عبد الله بن عمر يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) وروي عن ابن عباس هكذا فقالت: إنكم لتحدثون عن ابن عمر وابن عباس وهما غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ)) وتأويل الحديث إن العادة قد جرت في ذلك الزمان أن الإنسان إذا مات كان يأمر أهله بالنواح عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله)) لأنه كان يأمر أهله بذلك. وتأويل آخر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر يهودي وأهله يبكون عليه فقال صلى الله عليه وسلم إنهم يبكون عليه وهو يعذب في قبره)) فظن الراوي أنه يعذب ببكائهم عليه. وهذا كما روي عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما ذكر عندها حديث ابن عمر فقالت ذهل أبو عبد الرحمن: إنما قال ((إن أهل الميت ليبكون عليه وإنه يعذب بجرمه)).
الباب السادس والسبعون: في البكاء على الميت
(قال الفقيه) رحمه الله: النوح حرام ولا بأس بالبكاء والصبر أفضل لأن الله تعالى قال {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((النائحة ومن حولها من مستمعيها فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) وقيل لما مات حسن بن الحسن اعتكفت امرأته فاطمة بنت الحسين على قبره سنة، فلما كان رأس الحول رفعوا الفسطاط فسمعوا صوتاً من جانب: هل وجدوا ما فقدوا؟ وسمعوا من جانب آخر: بل أيسوا فانقلبوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله أليس قد نهيتنا عن البكاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت الغناء فإنه لعب ولهو ومزامير الشيطان، وعن خدش الوجوه وشق الجيوب ورنة الشيطان، ولكن هذا رحمة جعلها الله في قلوب الرحماء، ثم قال: القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب)) وروى وهب بن كيسان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ((أن عمر رضي الله تعالى عنه أبصر امرأة تبكي على ميت فنهاها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((دعها يا أبا حفص فإن العين باكية والنفس مصابة والعهد حديث)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه مر ببني عبد الأشهل وقت انصرافه وهم يندبون قتلاهم بعد يوم أحد فقال صلى الله عليه وسلم كل له باك، لكن حمزة لا بواكي له، فلما سمعوا بذلك جئن إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم وهن يبكين على حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي في البيت حتى سمع نشيجه)) يعني بكاؤه بالرفق.
الباب السابع والسبعون: في إكرام أهل الفضل والشرف
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: يستحب للرجل أن يكرم أهل الفضل من غير إفراط ولا يجوز أن يكرم أحداً لأجل دنياه لينال من دنياه شيئاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه ولكن يكرم أهل الفضل لفضلهم وشرفهم)) وروى هشام بن حسان عن الحسن البصري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً ومعه أصحابه وجاء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولم يكن له مجلس فرآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فتزحزح له من مكانه ثم قال: ههنا يا أبا الحسن، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بما صنع أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: أهل الفضل أولى بأهل الفضل، ولا يعرف فضل أهل الفضل إلا أهل الفضل)) وقال سفيان بن عيينة: من تهاون بالإخوان ذهبت مروءته ومن تهاون بالسلطان ذهبت دنياه، ومن تهاون بالصالحين ذهبت آخرته. وروت عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا حداً من حدود الله تعالى)) وروي أن سائلاً مر بعائشة رضي الله تعالى عنها فأمرت له بكسرة ومر بها رجل ذو هيئة فاتخذته فأمرت له بالمائدة، فقيل لها في ذلك فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. وعن طارق بن عبد الرحمن قال: كنت مع الشعبي، فأتاه بلال بن جرير فطرح له وسادة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)) ولا يستحب في الإكرام وفي الحب الإفراط لأن الإفراط في كل شيء يخاف منه الآفة. وقال علي كرم الله وجهه: أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)) وروي هذا أيضاً مرفوعاً. ((وقد أفرطت النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى اتخذوه إلهاً، وأفرطت اليهود في حب عزير حتى اتخذوه إلهاً، وأفرطت الروافض في حب علي رضي الله تعالى عنه حتى أبغضوا غيره. فينبغي للعاقل أن يحب أهل الفضل ويعرف حقهم من غير إفراط ولا تعد. وقال بعضهم: لا خير في الإفراط والتفريط كلاهما عندي من التخليط وبالله التوفيق.
الباب الثامن والسبعون: في الغيرة
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يكون غيوراً فلا يرضى بالفاحشة إذا علم بها من رجل أو امرأة فيمنعه عن الفاحشة إن استطاع منعه بيده، فإن لم يستطع فلينكره بلسانه، فإن لم يستطع فلينكره بقلبه. وروى زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الغيرة من الإيمان، والمذاء من النفاق)) فالمذاء أن يقود الرجل بالفاحشة في أهله ويرضى بها. وقيل المذاء أن يجمع بين رجال أو نساء ثم يخليهم ليماذي بعضهم بعضاً. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: أقبح اللؤم بالرجل أن لا يكون غيوراً، ألا يستحي أحدكم أن تخرج أمه أو امرأته تزاحم الناس في السوق والمجالس. وروى المغيرة بن شعبة أن سعد بن عبادة قال ((لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله تعالى أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما أحد أحب إليه العذر من الله سبحانه وتعالى ومن أجل ذلك بعث الله المنذرين والمبشرين، وما أحد أحب إليه المدحة من الله تعالى ومن أجل ذلك وعد الجنة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بلغني أن نساءكم يخرجن إلى السوق يدافعن العلوج، قبح الله رجلاً مؤمناً لا يكون غيوراً. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: ما أقبح إلى الله وإلى رسوله من الديوثين لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لعن الله الديوث والديوثة، فالديوث أن يرضى الرجل بفاحشة امرأته وكذلك المرأة بفاحشة الزوج)).
الباب التاسع والسبعون: فيما جاء في السخاء والبخل
(قال الفقيه) رحمه الله: روى عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الجنة دار الأسخياء والشاب الفاسق السخي أحب إلى الله من الشيخ العابد البخيل)) وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس منا من وسع الله عليه فلم يوسع على نفسه وعياله)) وقال الحسن: إن العبد يأخذ من الله أدباً حسناً إن وسع الله عليه وسع وإن أمسك عليه أمسك. وروى يوسف بن خالد السمني قال: أهدي إلى أبي حنيفة من الحجاج قريب من ألف زوج نعل ففرقها على إخوانه، فرأيته بعد ذلك بيوم أو يومين يشتري نعلاً لابنه، فقلت له كيف وقد أهدي إليك قريب من ألف زوج نعل؟ فقال إن مذهبي في الهدايا تفريقها بالغة ما بلغت والمكافأة بمثلها أو بضعفها بالغة ما بلغت، وتفريق الهدية على إخواني لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أهدي للرجل فجلساؤه شركاؤه)) وإخواني جلسائي فلا أنفرد دونهم بل أرى أن أجعل نصيبي لهم فأرى قبول الهدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويجيب الدعوة فأرى المكافأة بأحسن منها لقول الله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} ولقوله تعالى {ولا تنسوا الفضل بينكم}. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أن امرأة أهدت إليها هدية فلم تقبل هديتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلا قبلت هديتها قالت: لأني علمت أنها أحوج إليها مني، فقال هلا قبلتها وكافأتها بأحسن منها)) وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بعطاء فرده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لم رددته؟ فقال يا رسول الله أليس قد أخبرتنا أن لا خير لأحد منا أن يأخذ من أحد شيئاً؟ قال إنما ذلك عن مسألة وأما إذا كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقه الله إياه، وقال أبو هريرة: أني لا أسأل أحداً شيئاً ولا أعطاني أحد شيئاً بغير مسألة إلا قبلت منه. وسئل سفيان الثوري عن المواساة فقال ذلك طريق نبت فيه العوسج والشوك.
الباب الثمانون: في الشفاعة
اعلم أن أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض شفاعة حسنة إذا كان لرجل حاجة إلى إنسان فتشفع في ذلك أو تشفع لدفع مظلمة عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس من ينفع الناس)) وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تؤجروا فإن الرجل منكم يسألني فأمنعه كيما تشفعوا فتؤجروا)) وعن الحسن البصري قال: الشفاعة يجزي أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها. وقال مجاهد في قوله تعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها} قال: هي شفاعة الناس بعضهم لبعض. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رجلاً أتاه فسأله بعيراً ليخرج إلى الغزو فلم يكن عنده فبعثه إلى رجل من الأنصار فأعطاه فجاء بالبعير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم الدال على الخير كفاعله)) ويقال لكل شيء صدقة وصدقة الرياسة الشفاعة وإعانة الضعفاء)). قال بعض الأدباء: من كان دخالاً على الأمراء ولا يكون متشفعاً فهو دعي. وروي عن جعفر بن محمد قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام أن عبداً من عبادي يأتي بالحسنة فأدخله الجنة قال يا رب وما تلك الحسنة؟ قال من فرج عن مؤمن كربة ولو بشق تمرة.
الباب الحادي والثمانون: في قتل العمد
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس فيمن قتل مؤمناً متعمداً. قال بعضهم: هو في النار أبداً، وقال عامة أهل العلم: في مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فأما من قال إنه في النار أبداً فقد ذهب إلى ما روى عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره فجاءه رجل فقال ما تقول في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ قال جزاؤه جهنم خالداً فيها، فقال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال وأنى له الهدى فوالذي نفسي بيده إن هذه الآية نزلت فما نسختها آية بعد نبيكم. وأما من قال إن له توبة فلقول الله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال في آية أخرى {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} ثم قال في آخرها {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} والجواب عن قوله تعالى {من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} أنه قد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في شأن مقيس بن جبابة حين قتل رجلاً متعمداً وارتد ولحق بأرض مكة. وجواب آخر أن معنى قوله تعالى {فجزاؤه جهنم} إن جازاه ولكن نرجو أن لا يجازيه إن شاء الله تعالى، وهذا كما روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من وعده الله تعالى على عمل ثواباً فهو منجز له ومن أوعده على عمل عقاباً فهو بالخيار)) ولو أن رجلاً قتل نفسه متعمداً فقال بعضهم هو في النار أبداً، وقال بعضهم هو في مشيئة الله تعالى. فأما من قال هو في النار أبداً فقد ذهب على ما روى سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من قتل نفسه بسم فسمه بيده يتحساه في نار جنهم خالداً فيها مخلداً أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يجئها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً مؤبداً، ومن تردى بنفسه من جبل فمات فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة)) وأما من قال بأنه في مشيئة الله فلأن الله تعالى قال {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} والخبر إنما ورد للتشديد كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لعن المؤمن كقتله)) وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر)) فكذلك هذا الخبر على وجه الوعيد وهو في مشيئة الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الثاني والثمانون: في القبلة للولد الصغير
(قال الفقيه) رحمه الله: لا بأس بالقبلة للولد الصغير وهو مأجور فيها لأن فيها شفقة على ولده قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرها فليس منا)) وروى محمد بن الأسود عن أبيه أسود بن خلف ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حسناً فقبله ثم أقبل على أصحابه فقال: إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة)) وروى أشعث بن قيس الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إنهم لمبخلة محزنة مجبنة، وإنهم لثمرة الفؤاد وقرة العين)) وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه استعمل رجلاً على بعض الأعمال فدخل الرجل على عمر فرآه قد أخذ ولداً له وهو يقبله، فقال الرجل إن لي أولاداً ما قبلت واحداً منهم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا رحمة لك على الصغار فرحمتك على الكبار أقل رد علينا عهدنا فعزله. ويقال القبلة على خمسة أوجه: قبلة المودة، وقبلة الرحمة، وقبلة الشفقة، وقبلة التحية، وقبلة الشهوة. فأما قبلة المودة فهي قبلة الوالدين لولدهما على الخد، وأما قبلة الرحمة فقبلة الولد لوالديه على الرأس، وأما قبلة الشفقة فقبلة الأخت للأخ على جبهته، وأما قبلة التحية فقبلة المؤمنين فيما بينهم على اليد، وأما قبلة الشهوة فقبلة الزوج لزوجته على الفم، وكره بعض الناس قبلة الرجال فيما بينهم على اليد وعلى الوجه. واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن المكاهمة والمكاعمة)) يعني القبلة والمعانقة، ورخص فيه بعض الناس. وقد جاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين رجع من الحبشة فاعتنقه وقبله بين عينيه. وروي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا إذا قدموا من سفرهم يعانق بعضهم بعضاً ويقبل بعضهم بعضاً. وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((التمسوا الولد فإنه ثمرة الفؤاد وقرة العين وإياكم والعجوز العقيم)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أولادنا أكبادنا)) ومن هذا قال القائل:
من سره الدهر أن يرى كبده ...يمشي على الأرض فليرى ولده
الباب الثالث والثمانون: في ضرب الدف
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في ضرب الدف في العرس، قال بعضهم: لا بأس به، وقال بعضهم: يكره. فأما من قال لا بأس به فقد ذهب إلى ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف)) وروى محمد بن حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الفصل بين الحلال والحرام ضرب الدف ورفع الصوت في النكاح)) وقال محمد بن سيرين: أنبئت أن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا سمع صوت الدف أنكره وسأل عنه فإن قالوا عرساً وختاناً أقره، وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها وعندها جاريتان تلعبان بالدف في يوم عيد وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجرها وقال لها أتفعلين هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس؟ فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أنها كانت في عرس فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم هل قلت شيئاً؟ قالت: نعم، قلت:
أتيناكم أتيناكم # فحيونا نحييكم
فلولا العجوة السوداء # لما كنا بواديكم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((هلا قلت فلولا طاعة الرحمن لما كنا بواديكم)) وروى عكرمة أن عباساً ختن بنيه فدعا المغنين فأعطاهم خمسة دراهم.
وأما من قال بأنه يكره فقد ذهب على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل لهو للمؤمن باطل إلا ثلاثة: تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، وملاعبته مع أهله)) وروى أبو بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه لما رجع من غزوة له جاءته امرأة فقالت إني نذرت أن أضرب بالدف عندك إذا رجعت من غزوتك سالماً؟ فقال لها إن كنت فعلت هذا فافعلي وإلا فلا، فقالت يا رسول الله إني فعلت، يعني نذرت، قال فاضربي فضربت فدخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهي تضرب فدخل عمر رضي الله تعالى عنه فطرحت الدف وجلست مقنعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأحسب أن الشيطان يفر منك يا عمر)) فقوله صلى الله عليه وسلم ((إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا)) ينهى عن الضرب من غير نذر فيه دليل أنه لا يجوز ضربه. والجواب عن الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف)) فإنما هذا كناية عن إظهار النكاح فلم يرد به ضرب الدفوف بعينها. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: أما الدف الذي يضرب في زماننا هذا مع الصنجات والجلاجلات فينبغي أن يكون مكروهاً بالاتفاق وإنما الاختلاف في الدف الذي كان يضرب في الزمن المتقدم، والله أعلم.
الباب الرابع والثمانون: في الأمر بالمعروف
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: الأمر بالمعروف واجب لأن الله تعالى قال: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} فقد ذمهم بتركهم الأمر بالمعروف، وقال عز وجل: { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم)) ثم الأمر بالمعروف على وجوه: فإن كان يعلم بأكثر رأيه أنه لو أمر بالمعروف لكان يقبل منه ويمتنعون وينتهون عن المنكر فالأمر بالمعروف واجب عليه ولا يسعه تركه، ولو علم بأكثر رأيه أنه لو أمرهم بذلك ما كان يقبل منه بل قذفوه وشتموه فتركه أفضل، ولو علم أنهم لو ضربوه لا يصبر على ذلك وتقع العداوة بينهم ويهيج منه القتال فتركه أفضل، وكذلك لو علم أنهم لو ضربوه صبر على ذلك ولا يشكو إلى أحد ويصبر فهذا لا باس به بأن ينهى عن ذلك وهو مجاهد في ذلك عمله عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولو علم أنهم لا يقبلون منه ولا يخاف منهم ضرباً ولا شتماً فهو بالخيار إن شاء أمرهم وإن شاء تركهم والأمر أفضل. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا رأى أحدكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) يعني ضعف فعل أهل الإيمان. قال: وكل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلمهم شيئاً، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على تعاليم القرآن والعلم، ونساء مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية وقال بعضهم: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب لعوام الناس، والله تعالى أعلم.
الباب الخامس والثمانون: في النكاح
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: اختلف الناس في النكاح. قال بعضهم: هو فريضة، وقال بعضهم: هو سنة. ونحن نقول: إن تاقت نفسه إلى النكاح فالأفضل أن يتزوج إن قدر على ذلك، وإن لم تتق نفسه فإن شاء تزوج وإن شاء لم يتزوج واشتغل بعبادة ربه فهو أفضل. أما من قال بأنه فريضة فلما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهياً شديداً، وكان يقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) وأما حجة من قال بأنه سنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه قال لعكاف بن وداعة ألك امرأة؟ قال لا، قال ولا جارية؟ قال لا، قال وأنت شاب موسر؟ قال نعم بحمد الله، قال فإنك من إخوان الشيطان أو من رهبان النصارى، فإن كنت منا فافعل كما نفعل، فإن من سنتنا النكاح، وأما إذا لم تتق نفسه فالاشتغال بالعبادة أفضل لأن الله تعالى مدح نبيه يحيى عليه الصلاة والسلام فقال {وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين} والحصور الذي لا يأتي النساء لا من عجزه: يعني أنه كسر شهوته باشتغاله بعبادة ربه وإذا أراد أن يتزوج امرأة فعليه أن يتزوج بذات الدين كما قال صلى الله عليه وسلم : ((تزوج المرأة لمالها وجمالها وحسبها ودينها فعليك بذات الدين تربت يداك)) وقال علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إياكم وخضراء الدمن، قيل يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال المرأة الحسناء في منبت السوء)) وقال بعض الحكماء: أفضل النساء أن تكون بهية من بعيد مليحة عن قريب، غذيت بالنعمة وأدركتها الحاجة فخلق النعمة معها وذل الحاجة فيها.
الباب السادس والثمانون: في الكسب
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: كره بعض الناس الاشتغال بالكسب، وقالوا: الواجب على كل إنسان الاشتغال بعبادة الرب والاتكال عليه. وقال عامة أهل العلم: الكسب بمقدار ما يكفي له ولعياله واجب فإن زاد على ذلك فهو مباح والاشتغال بالعبادة أفضل، فإن اشتغل بطلب الزيادة لا يكون حراماً إذا لم يرد به الفخر والرياء ولم يترك به الفرائض. وأما من قال إنه لا ينبغي له أن يشتغل بالكسب فلأن الله تعالى قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فقد خلق الله تعالى الخلق لعبادته فينبغي أن يشتغلوا بعبادته لا بالكسب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما أوحى الله إلي بأن أجمع المال ولا أكون من التاجرين ولكنه أوحى إلي بأن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)) وأما حجة من قال: بأن مقدار الكفاية واجب فهو أن الله تعالى فرض الفرائض ثم لا يتهيأ للعبد أداء الفرائض إلا باللباس وقوة النفس وذلك لا يقدر عليه إلا بالكسب وقال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((تبايعوا بالبز فإن أباكم كان بزازاً)) يعني إبراهيم خليل الرحمن. قال عبد الله بن المبارك: من ترك السوق ذهبت مروءته وساء خلقه. وقال إبراهيم بن يوسف: عليك بالسوق فإنه عز لصاحبه. ويقال ترك الكسب على ثلاثة أوجه: للكسل، والتقوى، والعار. فمن تركه كسلاً لا بد له من السؤال، ومن تركه تقوى فلا بد له من الطمع، ومن تركه عاراً وحمية فلا بد له من السرقة. ويقال: ثلاثة أشياء لا علاج لها. أحدها المرض إذا خالطه الهرم والثاني العداوة إذا خالطها الحسد، والثالث الفقر إذا خالطه الكسل. وقال الحكيم أبو القاسم: كسب الحلال يجمل ذا الفاقة العفيف، ويستر المقتر الضعيف، ويقطع لسان ذي الإحنة السخيف. ويقال لكل شيء حلية وزينة وحلية الشاب وزينته أن يكون وراء عمله. ويقال: ست خصال إذا كانت في الرجل يكون سيد الرجال ثلاث من خارج البيت وثلاث من داخل البيت. فأما اللواتي من خارج البيت فأولها الاستفادة من العلماء، والثاني مخالطة أهل الورع، والثالث طلب قوته وقوت عياله من وجه حلال. وأما اللواتي من داخل البيت فأولها المذاكرة مع أهله ما سمع من العلماء، والثاني استعمال النفس بما رأى من أهل الورع، والثالث أن يوسع على عياله من اللباس والطعام مقدار طاقته.
الباب السابع والثمانون: في الطب
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للرجل أن يعرف من الطب مقدار ما يمتنع عما يضر ببدنه. وقال الحكماء: العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان؛ فكما أن الرجل لا بد له من تعلم العلم مقدار ما يصلح به أمر دينه فكذلك لا بد له من أن يعرف من الطب مقدار ما يصلح به بدنه ويجتنب عما يضره فإن من المروءة أن يمتنع عما يضر ببدنه. وقد أجمع الأطباء أنه ليس شيء من الطب أنفع من الحمية، فقد روي عن بعض الصحابة أنه قال لرجل: ألا أعلمك طباً تتعايا فيه الأطباء، وعلماً تتعايا فيه العلماء، وحكمة تتعايا فيها الحكماء؟ قال: بلى، قال: أما الطب الذي تتعايا فيه الأطباء فاجلس على المائدة وأنت جائع وقم عنها وأنت تشتهيه، وأما العلم الذي يتعايا فيه العلماء فإذا سئلت عن شيء لا تعلم فقل الله أعلم، وأما الحكمة التي تتعايا فيها الحكماء فإذا جلست في نادي قوم فاسكت فإن أفاضوا في الخير فأفض معهم وإن أفاضوا في الشر فقم عنهم وقيل لرجل من المتقدمين ممن طال عمره بم طال عمرك؟ قال: لأنا كنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دققنا، ولا نملأ بطوننا ولا نخليها. ويقال أنفع ما يكون للإنسان بعد ما تغدى التمدد وبعد ما تعشى الحركة والمشي. ويقال في المثل إذا تغدى فتمدى يتبدى، وإذا تعشى فتمشى يتغشى. وروى الزهري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال خمس يورثن النسيان: أكل التفاح يعني الحامض منه والبول في الماء الراكد، والحجامة في نقرة القفا وإلقاء القملة في التراب، وشرب سؤر الفأرة الفاسقة. ويقال قراءة ألواح القبور، وأكل الكزبرة، والمشي بين الجملين المقطورين، والمشي بين المرأتين يورث النسيان. وروى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عليكم بالسواك فإن فيه عشر خصال: مطهرة للفم، ومرضاة للرب، ومفرحة للملائكة، ومجلاة للبصر ويبيض الأسنان، ويشد اللثة، ويذهب الحفر، ويهضم الطعام، ويقطع البلغم، وتحضره الملائكة، وتضاعف فيه الصلاة، ويرغم الشياطين)) ويقال: من انتعل بنعل أصفر لم يزل في غبطة وسرور لقوله تعالى: {صفراء فاقع لونها تسر الناظرين} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تختم بعقيق لم يزل في بركة وسرور)) ويقال: من كنس بيته بخرقة فإنه يورث الفقر، ومن منع خميرته فإنه يورث الفقر، ومن لم ينظف بيته من بيت العنكبوت فإنه يورث الفقر، ومن لم ينظف الإسطبل من بيت العنكبوت فإنه يهزل الدواب، ويقال: النظر إلى الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن ووجه الوالدين، وفي الصلاة إلى موضع السجود وإلى الأترج وإلى الحمام الأحمر يجلي البصر، ويقال للنار في الشتاء خمس خصال: تدالع البرد، وتحسن الوجه، وتمري الطعام، وتذهب العناء والغي، وتؤنس عند الوحشة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: من أراد البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء وليؤخر العشاء ، وليخفف الرداء، وليقل من غشيان النساء. قيل وما خفة الرداء؟ قال قلة الدين.
الباب الثامن والثمانون: في الامتناع عما يضر بالبدن من المأكولات وغيرها
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: إن البدن في أيام الخريف والشتاء أقوى لحمل الطعام لأن المعدة تسخن فيهما فتنضج الطعام. وفي الصيف والربيع تبرد المعدة فتضعف عن حمله ليردها وتقل قوتها عن الإنضاج. ويقال الإكثار من شرب الماء البارد في أيام الصيف أقل ضرراً وفي أيام الشتاء أكثر ضرراً، فينبغي أن يقلل منه في أيام الشتاء. وينبغي للرجل أن يحترز عن شرب الماء بالليل بعد ما نام فإن ذلك يبرد المعدة فيخاف منه العلل والأمراض إلا أن يكون الرجل غلبت عليه الحرارة أو كان به حمى وإذا أراد النوم وهو ممتلئ الجوف فينبغي أن ينام أولا على يمينه لموافقة السنة ثم يتحول إلى اليسار فإن ذلك أهضم للطعام. والحركة والتقلب من جانب إلى جانب أنفع. وينبغي للرجل أن لا ينام على امتلاء معدته فإنه يقسي القلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أذيبوا طعامكم بالصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم)) ولا ينبغي للرجل أن ينام على بطنه إلا من عذر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه رأى رجلاً مضجعاً على بطنه فركضه برجله وقال لا تضطجع هكذا فإن هذه ضجعة يبغضها الله تعالى ولو أن رجلاً كان ممتلئاً وهو يخاف وجع البطن فلا بأس أن يجعل وسادة تحت بطنه وينام عليها لأن ذلك حال عذر والضرورات تبيح المحظورات ثم عليه أن يتوب من كثرة الأكل. ويقال: إن شرب الماء البارد قبل الطعام يطفئ نار المعدة وشربه عبد الطعام يسخن المعدة ويسمن البدن، وإذا أكل الرجل فاكهة مثل التفاح والمشمش والعنب والزبيب ونحو ذلك فلا ينبغي له أن يشرب الماء على أثره فإن ذلك يفسد المعدة، وينبغي أن ينتظر بعد كل أكلة ساعة أو ساعتين أو أكثر ثم يشرب الماء فإنه أقل ضرراً، وإذا أكل أرزاً حاراً أو شيئاً من الحلو فلا يشربن على أثره بارداً فإن ذلك يضر بالأسنان فإذا أراد شربه فيأكل لقمة أو لقمتين من الخبز ثم يشرب فإن ذلك أقل ضرراً. ويقال أكل الخبز الحار مع الحوت يتولد منه الديدان في البطن. وقال ابن المقفع: من أدام البصل أربعين يوماً فخرج الكلف في وجهه فلا يلومن إلا نفسه. وقال: لو اقتصد فأكل على أثره مالحاً فظهر به الجرب فلا يلومن إلا نفسه، وقال أيضاً: من جمع في بطنه السمك والبيض فأصابه وجع النقرس أو الفالج فلا يلومن إلا نفسه. وقال أيضاً: من جمع في بطنه النبيذ واللبن فأصابه البرص فلا يلومن إلا نفسه. وقال: إذا أكل الرجل طعاماً فلا يشربن الماء إلا بعد ما يفرغ من جميع الطعام فإن ذلك أبعد من الضرر. ويقال: الإكثار من الحوت يضر بالبصر. ولا ينبغي للرجل أن يجمع في البطن اللبن مع شيء من الحموضات أو مع البقول. ويقال الفواكه قبل الطعام أقل ضرراً وبعده أكثر ضرراً، ولا ينبغي للرجل أن يجمع اللبن والفواكه، ولا ينبغي للرجل أن يجمع في البطن ماء البئر مع ماء النهر حتى يستمرئ الماء الأول، ولا ينبغي أن يأكل مرة بعد أخرى في كل وقت، وينبغي أن يكون لأكله وقت معلوم لأن الأكل إذا كان متفرقاً ويقع الأكل الثاني قبل استمراء الأول فإن ذلك يضعف المعدة. ويقال: أربع لا يمدحن إلا بعد عواقبها: أحدها الطعام لا يمدح ما لم يهضم، والمقاتل ما لم يرجع، والزرع ما لم يدرك والمرأة ما لم تمت. ويقال: الإكثار من اللحم عند الهواجر تهيج منه الأسقام. ويقال: أضر الخبز بالبدن ما يكون حاراً عند ما يخبز، وأقل ضرراً بالبدن ما أتت عليه ليلة قل أن يصير صلباً، وأضر اللحم بالبدن ما كان من النصف الأسفل، وأقل ضرراً ما كان من النصف الأعلى وإلى الرأس أقرب. ويقال أكل الجوز الرطب على الامتلاء يورث التخمة وأكل اللوز مع الخبز أو وحده يبطئ الهضم، وكذلك خبز الفطير ونحو ذلك يبطئ الهضم، وأكل الفرصاد والمشمش على الريق لا بأس به وبعد الطعام يورث السقم ما لم يكن جائعاً جداً، والمشمش إذا كان غير نضيج جداً فإنه يضعف المعدة، والإكثار من التمر يورث فساد اللثة وكذلك الزبيب وسائر الحلويات، وكثرة أكل التين تورث القمل، والإكثار من المالح يضر بالبصر، وإذا سافر الرجل ودخل بلدة فليأكل أولاً الخل والبصل لكيلا يضره ماؤها، والإكثار من البصل يهيج البلغم وتدخل في عينيه الظلمة. ويقال الإكثار من الحريف والحامض يجلب الهرم، ولا ينبغي للإنسان أن يفارق الدسم فإنه أتم للعقل والحلاوة تزيد في الحلم، والإكثار منها يضر بالأسنان، ويقال العدس يرق القلب وينشف الدم والإكثار منه يضر بالأسنان. والقرع يزيد في الدماغ. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: من ابتدأ غداءه بالملح وختم به أذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء. وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه: من أكل في كل يوم سبع تمرات عجوة قتلت كل دودة في جوفه، ومن أكل كل يوم إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم ير في جسده شيئاً مما يكرهه إلا مرض الموت، ويقال اللحم ينبت اللحم والثريد طعام العرب والباجات يعظمن البطن ويرخين الإليتين، ولحم البقر داء ولبنها شفاء، وسمنها دواء، والشحم يخرج مثله من الداء. والسمك يذيب الجسد، وهذا كله عن علي رضي الله تعالى عنه، ولم تستشف النساء بشيء أفضل من الرطب. ويقال الطيب يزيد في الدماغ ويستكمل البصر، ويكره الإكثار منه فإنه يتولد منه اليبوسة إلا الكافور وماء الورد. ويقال ماء الورد يسرع الشيب. ويقال اللباس اللين يزيد الدم ولبس الخشن ينشفه. ويقال شدة السرور أسرع هلاكاً من شدة الحزن، لأن السرور طبيعته البرودة والبرودة أسرع هلاكاً من الحرارة والحزن طبيعته الحرارة لأنه يتولد من الكبد.
الباب التاسع والثمانون: في الجماع
(قال الفقيه) رحمه الله: قال ابن المقفع: من أتى امرأته ولم يغسل ذكره بالماء فورث منه الحصاة فلا يلومن إلا نفسه. (قال الفقيه) إن فعل ذلك كان أنفع لبدنه وإن تركه فأرجو أن لا يضره لأنه روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه كان ينام جنباً ولا يمس الماء)) وقال ابن المقفع: من احتلم ولم يغتسل ثم أتى أهله فولدت منه مجنوناً ومخبلاً فلا يلومن إلا نفسه، ولا يغر الجاهل أن يقول طالما فعلت هذا ولم يضرني، لأن السارق لو أخذ في أول مرة لم يسرق أحد، ولو ابتلي في أول مرة لم تر في الدنيا صحيحاً. ويقال إذا فرغ الرجل من الجماع لا ينبغي له أن يغتسل بالماء البارد إلا بعد هنيهة حتى يسكن ما به فإنه يخاف منه الحمى وينبغي أن يغسل ذكره بعد فراغه لأنه أصح للجسم وأبعد من الآفة ويقال الإكثار من الجماع في أيام الصيف والخريف أكثر ضرراً. وفي الشتاء والربيع أقل ضرراً والقصد أسلم. والجماع في حال خلاء البطن أقل ضرراً وفي حال امتلاء البطن أكثر ضرراً. ويقال إذا جامع في حال الامتلاء فحبلت يكون الولد ثقيل النفس ثقيل الروح، وإذا حبلت في حال خلاء البطن يكون الولد خفيف النفس خفيف الروح. والجماع في آخر الليل يكون أحمد من أوله لأن المعدة في أول الليل ممتلئة. ويقال أربعة يهدمن العمر وربما يقتلن: دخول الحمام مع البطنة، وأكل القديد الجاف، والغشيان على الامتلاء، وجماع العجوز. ويقال إذا فرغت من جماعك فلا تقومن قائماً ولكن مل على يمينك واضطجع فإنه أنفع للجسم ويقال إذا فعل ذلك يكون الولد ذكراً إن شاء الله تعالى. ولا ينبغي للرجل أن يجامعها ما لم يلاعبها ويعرف الشهوة في عينيها إن ذلك أروح للبدن وأجدر أن يكون الولد تاماً. ويقال كل شهوة يعطيها الرجل نفسه فإنها تقسي قلبه إلا الجماع فإنه يصفي القلب، ولهذا كان يفعله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والجماع قد يكون فيه بعض المنافع وقد يكون به ضرر أيضاً. أما منافعه فهو أن الرجل لو كان له هم فإنه بالجماع يقل عنه ذلك ولو كان قلبه متعلقاً بحرام يزول عنه، ويزول الوسواس عن القلب، ويسكن الغضب، وينفع من بعض القروح في النفس إذا كانت طبيعته الحرارة. وأما مضرته فإنه يضعف البدن ويضعف البصر ويولد منه وجع الساقين ووجع الرأس ووجع الظهر خصوصاً من كانت طبيعته البرودة واليبوسة والإقلال منه أنفع له وأحمد، ولا ينبغي له أن يتكلم وقت الجماع فإنه يخاف على الولد الخرس إن علقت في ذلك الوقت، وينبغي أن يكون مستورين في حال الجماع فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يتجردان كما يتجرد العيران)) ويقال إذا لم يكونا مستورين يكون في الولد قلة الحياء، ويقال جماع العجوز يضعف البدن ويسرع الهرم وجماع المريضة يخاف عليه السقم والمرض إلا أن يكون من شبق غالب. وكره بعض الأطباء العود إلى الجماع قبل أن يغتسل أو ينام قبل أن يغتسل ولكن عندنا لو فعل فلا بأس وترجى منه السلامة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة في هذا وقد كان مشفقاً على أمته، ولو كان فيه ضرر ظاهر لم يرخص فيه ولا ينبغي للرجل أن يجامع قائماً فإن ذلك يضعف البدن.
الباب التسعون: في دخول الحمام
(قال الفقيه) رحمه الله: يكره للإنسان أن يتنور وهو جنب روى خالد بن معدان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تنور قبل أن يغتسل جاءته يوم القيامة كل شعرة فتقول سله يا رب لم ضيعني ولم يغسلني)) ويقال: دخول الحمام جائعاً يتولد منه اليبوسة في البدن، وإن دخل في حال الامتلاء يخاف منه داء في البطن والديدان في الأمعاء، ويستحب دخول الحمام بعد ما أكل وهضم. وقال ابن المقفع: من دخل الحمام وهو شبعان فأصابه القولنج فلا يلومن إلا نفسه، ومن أكل السمك الطري ودخل الحمام في الساعة فأصابه الفالج والفوسج فلا يلومن إلا نفسهن وإذا أراد الرجل أن يدخل الحمام فلا يدخل بدفعة واحدة في البيت الداخل ولكن يمكث في كل بيت ساعة قليلة ثم يدخل في الآخر وكذا يفعل وقت الخروج، ويكره أن يصب على نفسه ماء بارداً أو يشرب ماء بارداً بعد ما يخرج فإنه أضر بالبدن. ويقال: دخول الحمام في أيام الصيف أنفع للبدن من أيام الشتاء، ولا ينبغي أن يكون الحمام سخناً جداً في أيام الصيف فإن ذلك يخاف منه الآفة، وإذا خرج من الحمام في أيام الشتاء ينبغي أن يلبس ثوبه أسرع ما أمكنه لكيلا يصيبه برد الهواء فيضره. وينبغي أن يغطي رأسه إذا خرج كيلا يصيبه وجع الرأس، وإذا أراد أن يتنور ينبغي أن لا يجامع قبل التنور بيوم وليلة وكذلك بعده. ويقال إكثار الاغتسال بالماء البارد يسود البشرة ويهيج المرض. ويقال: الغسل في أيام الصيف بالماء البارد، وفي الشتاء بالماء السخن أنفع، وينبغي أن لا يكون حاراً جداً ولا بارداً جداً.
الباب الحادي والتسعون: في الحجامة
(قال الفقيه) رحمه الله: تستحب الحجامة على الريق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الحجامة على الريق أمثل وفيها شفاء وبركة وتزيد في العقل والحفظ)) وروي عنه صلى الله عليه وسلم : ((أنه ما شكا إليه أحد وجعاً في رأسه إلا أمره بالحجامة، ولا وجعاً في رجليه إلا قال احصبهما، وإذا أراد الرجل الحجامة يستحب أن لا يقرب النساء قبل الحجامة بيوم وليلة وبعدها مثل ذلك، وكذلك إذا أراد الفصد وإذا أراد أن يحتجم في الغد يستحب له أن يتعشى وقت العصر فإنه أنفع، وإذا كان الرجل به مرة فليذق شيئاً ثم ليحتجم كيلا يغلب على عقله، ولا ينبغي له أن يدخل الحمام في يومه ذلك. وقال بعض الأطباء: من احتجم وجامع ودخل الحمام في يوم واحد عجبت منه إن لم يمت، وإن احتجم الرجل أو افتصد فلا ينبغي له أن يأكل على أثره مالحاً فإنه يخاف منه القروح والجرب. ويستحب أن يأكل على أثره الخل ليسكن ما به ثم يحسو شيئاً من المرقة ويتناول شيئاً من الحلاوة إن قدر عليها، ولا ينبغي أن يأكل في يومه لبناً حليباً أو رائباً أو نحو ذلك، ويقلل من شرب الماء في يومه ذلك، وتكره الحجامة يوم السبت والأربعاء. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من احتجم يوم السبت والأربعاء فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه))، والوضح: البرص. وروي في بعض الأخبار الرخصة في ذلك لكن الاحتراز أفضل إلا أن يكون قد غلب عليه الدم، وخير أيامها يوم الأحد ويوم الاثنين، واختار بعضهم يوم الثلاثاء وقال إن في الثلاثاء سلطان الدم. وكره بعضهم الحجامة فيه لأنه يخاف أن يغلب عليه سلطان الدم فلا ينقطع عنه، ويستحب أن لا يحتجم في أيام الصيف في شدة الحر وكذلك في الشتاء في شدة البرد وخير أزمانه الربيع، وخير أوقاته من الشهر إذا أخذ في النقصان بعد نصف الشهر قبل أن ينتهي إلى آخره، ويكره في أول الشهر وفي آخر الشهر وقت المحاق. ويقال: الحجامة بين الكتفين نافعة، وتكره في نقرة القفا لأنها تورث النسيان وفي وسط الرأس نافعة، وروى بكر بن عبد الله ((أن الأقرع بن حابس دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم في وسط فقيل له أتفعل هذا برأسك؟ فقال يا ابن حابس إنه لينفع من وجع الرأس والأضراس والنعاس والجذام والبرص والجنون، ولا ينبغي أن يداوم على ذلك فإنه يضر به. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الثاني والتسعون: في آداب الخلاء
(قال الفقيه) رحمه الله: يكره للرجل أن يقضي حاجته في الطريق، أو على حافة النهر أو تحت شجرة مثمرة، أو تحت شجرة يستظل الناس بظلها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اجتنبوا الملاعن)) يعني: الفعل الذي يستوجب به اللعن. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قضى حاجته تحت شجرة مثمرة أو على طريق عابر أو على حافة نهر، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين: ولا يستحب إمساك البول بعد ما أخذه فإنه يضر بالمثانة: وقيل لطبيب إن ابنك قد أخذه البول في موضع كذا وكذا فنزل عن دابته في ذلك الموضع ولم يصير إلى منزله، فقال الطبيب بئسما فعل حيث نزل عن دابته فهلا فعل ذلك قبل نزوله عن دابته، ولا ينبغي أن يطيل القعود على حاجته. وروي عن لقمان الحكيم أنه قال لمولاه: لا تطل القعود في حاجتك فإن ذلك يتولد منه الباسور، وإذا كان الرجل في القضاء فلا ينبغي أن يبول في حجر الأرض فإنه يخاف أن يصيبه الأذى من الجن والهوام والأفاعي)). وروى عبد الله بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يبولن أحدكم في الحجر فإنه مساكن الشياطين)) ويقال إن سعد بن عبادة بال في حجر من الأرض فأصابه آفة من الجن فمات، فقالت الجن في ذلك شعراً:
قتلنا سيد الخزرج # سعد بن عبادة
رميناه بسهم # فلم نخط فؤاده
الباب الثالث والتسعون: في كراهة الوحدة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((شر الناس من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده)) وقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينام الرجل في بيت وحده أو يسافر وحده وقال: ((إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب)) وروى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الشيطان يهم بالواحد والاثنين، وإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم)). (قال الفقيه) رحمه الله: هذا نهي الشفقة وليس نهي التحريم لأن الواحد ربما يستقبله العدو ولو كانوا جماعة فإنهم يتعاونون. وأما إذا كان الرجل يأمن على نفسه فلا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم وحده. ويقال الاجتماع قوة والافتراق هلكة وذكر في قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام حكاية عن السحرة {فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً} فأمره بالاجتماع. وقال بعض أهل التفسير: اتفقوا فتغلبوا ولا تختلفوا فتغلبوا. ويقال: رأي الواحد كالسلك السحيل ورأي الاثنين كخيطين مبرومين ورأي الثلاثة حبال لا تنقطع، وإذا كانت الجماعة في سفر فيكره أن يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث)).
الباب الرابع والتسعون: فيما جاء في ذكر الحفظة
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف العلماء في أمر الحفظة وهم الكرام الكاتبون: قال بعضهم: يكتبون جميع أفعال بني آدم وأقوالهم. وقال بعضهم: لا يكتبون إلا ما فيه أجر أو إثم. وقال بعضهم: يكتبون الجميع فإذا صعدوا السماء حذفوا ما لا أجر فيه ولا إثم وهو معنى قوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} ما فيه أجر أو إثم. وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} قال: يكتب من قول ابن آدم الخير والشر ولا يكتب ما سوى ذلك. قال هشام: نحو قولك يا غلام اسقني ماء واعلف الدابة. وقال الحسن البصري: يكتب جميع ما يلفظ به وقال ابن جريج: هما ملكان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فالذي عن يمينه يكتب بغير شهادة صاحبه، والذي عن يساره لا يكتب إلا بشهادة من صاحبه، إن قعد فأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه، وإن نام فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه. وقال بعضهم: هم أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل. وقال عبد الله بن المبارك: هم خمسة اثنان بالنهار واثنان بالليل، والخامس لا يفارقه ليلاً ونهاراً. واختلف في الكفار هل يكون عليهم حفظة أم لا؟ قال بعضهم: لا يكون عليهم حفظة لأن أمرهم ظاهر وعملهم واحد قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم}. (قال الفقيه) رحمه الله: لا تأخذ بهذا القول بل يكون عليهم حفظة والآية نزلت بذكر الحفظة في شأن الكفار ألا ترى إلى قوله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} وقال في آية أخرى: {وأما من أوتي كتابه بشماله} وقال: {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} فأخبر سبحانه وتعالى أن الكفار يكون لهم كتاب وأن يكون عليهم حفظة. فإن قيل الذي يكون عن يمينه أي شيء يكتب إذا لم تكن حسنة؟ قيل الذي يكتب عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون شاهداً على ذلك وإن لم يكتب ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الخامس والتسعون: في قتل الجراد
(وقال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في قتل الجراد. قال بعضهم: لا يجوز قتله. وقال أهل الفقه كلهم: لا بأس بقتله. فأما من كره قتله فقال: لأنه خلق من خلق الله تعالى يأكل من رزق الله تعالى لا يجري عليه القلم. وأما من قال لا بأس بقتله فلأن في تركه فساد الأموال وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المسلم إذا أراد أخذ مال المسلمين، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) والجراد إذا أراد فساد الأموال كان أولى أن يجوز قتله ألا ترى أنهم اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب لأنهما يؤذيان الناس وكذلك الجراد. وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان إذا دعا على الجراد قال: اللهم اهلك صغاره واقتل كباره وافسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وارزقنا إنك سميع الدعاء، فقيل يا رسول الله تدعو على جند من جند الله تعالى بقطع دابره؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ((إن الجراد نثرة حوت من البحر)) وروى جابر قال: قتل الجراد على عهد عمر رضي الله تعالى عنه فاغتم لذلك فبعث راكباً نحو اليمن وراكباً نحو الشام وراكباً نحو العراق، فأتاه الراكب من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآه عمر رضي الله تعالى عنه قال: الله أكبر، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خلق الله تعالى ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت سائر الأمم في الهلاك مثل نظام انقطع سلكه)) والله أعلم.
الباب السادس والتسعون: في نقش المسجد
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس نقش المساجد بماء الذهب وغيره وأباحه الآخرون وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندي أنه لا بأس به إذا لم يكن من غلة المسجد. فأما من كره ذلك فقد ذهب إلى ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: ((ليأتين على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه مساجدهم يومئذ عامرة بالبناء وقلوبهم خاوية من الهدى، علماؤهم يومئذ شر علماء تحت أديم السماء من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود)) وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أقواماً يزخرفون مساجدهم ويطولون مناراتهم ويسمنون أبدانهم ويميتون أفئدتهم، واعجباً كيف ضيعوا دينهم)) وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمرنا أن نبني المساجد جماً والمدائن شرفاً. وروي ((أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمال فقالوا: يا رسول الله خذ هذا المال وزين مسجدك فقال صلى الله عليه وسلم : إن الزينة والتصاوير للكنائس والبيع بيضوا مساجد الله)) وأما من قال لا بأس به فقال: لأن فيه تعظيم المساجد والله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم المساجد بقوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} يعني تعظم وقال في آية أخرى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج وحسنه. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه وذلك في زمن ولايته قبل خلافته ولم ينكر عليه أحد. وروي أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وتزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات. وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه. وفي الخبر أنه أقام في عمارته كذا وكذا ألف رجل سبع سنين ووضع آجرة من الكبريت الأحمر على رأس قبة الصخرة، وكانت الغزالات يغزلن في ضوئها بالليل على اثني عشر ميلاً، وكان على حاله إلى أن خربه بختنصر وغيره.
الباب السابع والتسعون: في كراهية البصاق في المسجد
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: إذا كان الرجل في المسجد فإنه يكره له أن يبزق فيه ولكن ينبغي أن يبزق في ثيابه ويدلكه لأن الله تعالى قال: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} يعني تعظم والبصاق فيه ترك التعظيم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار إذا ألقيت فيه)) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه أبصر نخامة في المسجد فحكها وقال: أيحب أحدكم أن يؤتى في صلاته فيبزق في وجهه فإذا أراد أحدكم أن يبزق فلا يبزق عن يمينه ولا يبزق أمامه ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد مكاناً فليبزق في ثوبه ثم ليفعل هكذا)) يعني يدلكه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إذا استرد الرجل النخامة تعظيماً للمسجد أدخل الله في جوفه الشفاء وأخرج منه الداء وإذا كان في غير المسجد فأراد أن يبصق ينبغي أن يبصق تحت قدميه أو عن يساره ولا يبزق عن يمينه ولا أمامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا بزق أحدكم فلا يبزق عن يمينه ولا يبزق أمامه)) وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه بزق في مرضه عن يمينه ثم قال: ما بزقت عن يميني منذ أسلمت. وعن بعض الصالحين أنه أراد أن يخرج إلى الحج فاختار الجانب الأيسر من المحمل فقيل له: لم اخترت الجانب الأيسر؟ قال: لأني إذا بزقت عن يساري كان أيسر علي.
الباب الثامن والتسعون: في كراهية صلاة الرجل وهو ناعس
(قال الفقيه) رحمه الله: يكره للرجل أن يصلي وهو ناعس ولو فعل ذلك يجوز بعد ما جاء بأفعال الصلاة وإقامة أركانها بالقراءة وغيرها من الفرائض فيها، وإذا خشي الرجل النعاس ينبغي أن يصب الماء على وجهه أولاً ثم يدخل في الصلاة، ولو كان في الصلاة فأخذه النعاس ينبغي أن يحرك نفسه ويجتهد في إزالته عن نفسه. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإنه إذا صلى وهو ينعس فلعله يذهب ليستغفر الله فيسب نفسه)) وروى حميد عن أنس بن مالك: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى حبلاً ممدوداً بين ساريتن فقال ما هذا الحبل؟ قالوا لفلان: إذا غلب عليه النعاس تعلق به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فليصل ما عقل فإذا خشي أن يغلبه النعاس فلينم)).
الباب التاسع والتسعون: في العلم والأدب
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: ينبغي للرجل أن يتعلم شيئاً من العلم والأدب وإن كان قليلاً لأن القليل منهما كثير، وإن الرجل إذا علم كلمة من العلم والأدب كان له فضل على من لا يتعلم شيئاً وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسن ويعلم. وروي عن الشعبي أنه قال: إن رجل سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن وتعلم كلمة من العلم لم يضيع سفره. وروى أيوب بن موسى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن)) وروي عن بعض المتقدمين أنه قال لابنه: يا بني تعلم العلم فإن لم يكن لك جمال كان العلم لك جمالاً، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً. وذكر عن سفيان بن عيينة أنه جاءه ابن أخيه فقال: يا عم جئتك خاطباً. قال لمن؟ قال لابنتك. قال: كفء كريم، ثم قال له: اجلس فجلس فقال له: ارو عشرة أحاديث فلم يستطع، ثم قال: اقرأ عشر آيات من كتاب الله تعالى فلم يستطع، قال: انشد عشرة أبيات من الشعر فلم يستطع، فقال: لا قراءة ولا حديث ولا شعر فعلى أي شيء أضع بنتي عندك، ثم قال: لا أخيب مجيئك فأمر له بعشرة آلاف درهم. وقال بعض الحكماء: إن العلم النافع والأدب الصالح كسب لا يغصبه منك غاصب ولا يسلبه منك سالب، وهما جمالك وزينتك وقوام دينك ودنياك وآخرتك فاجتهد في تعلمهما. قال الشاعر:
سأضرب في طول البلاد وعرضها # لأطلب علماً أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها # وإن سلمت كان الرجوع قريبا
(وقال آخر):
سأطلب علماً أو أموت ببلدة # يقل بها قطر الدموع على قبري
فإن نلت علماً عشت في الناس سيدا # وإن مت قال الناس بالغ في العذر
إذا هجع الواشون أسبلت دمعتي # وأنشدت بيتاً وهو من أعظم الشعر
ألا إنما الخسران أن لياليا # تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من سلك طريقاً يطلب فيها علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة)) وقال ثلاثة يشفعون يوم القيامة: ((الأنبياء والعلماء والشهداء)) وقال: ((إنه ليستغفر للعلماء من في السماء والأرض)) وقال: ((فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة)) وروي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربعون حديثاً يستظهرها الرجل خير له من أربعين ألفاً يتصدق بها وأعطاه الله بكل حديث مدينة وله بكل حديث نور يوم القيامة)). (قال الفقيه): ولو لم يكن لأهل العلم فضيلة سوى أن الله تعالى قال: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} لكان عظيماً لأنه أخبر أن العالم له فضل على الجاهل وأمر بطلب زيادة العلم بقوله تعالى: {وقل رب زدني علماً} ثم قال مدحاً للعلماء: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فأخبر أن للعلماء فضائل كثيرة ودرجات رفيعة وقال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} فلما علمه الأسماء رفعه فوق الملائكة وأمرهم بالسجود له.
الباب المائة: في الخاتم
(قال الفقيه) رحمه الله: الخاتم في اليمين وفي الشمال جائز وكل ذلك مباح وجاء الأثر بهما جميعاً، ولا يجوز للرجل خاتم ذهب، وكره بعض الناس خاتم الحديد، ورخص بعضهم فيه. وروي ((عن النعمان بن بشير أنه قال: اتخذت خاتماً من ذهب فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة قبل دخولها؟ قال: فانتزعته واتخذت خاتماً من حديد فدخلت عليه فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار، فانتزعته واتخذت خاتماً من شبه فدخلت عليه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام قال: فقلت: ما أصنع يا رسول الله فقال: اتخذه من ورق ولا تبلغ به مثقالاً وتختم به في يمينك)) وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم بيده اليمنى قبل اليسرى ويخلع اليسرى قبل اليمنى قال محمد بن سيرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله تعالى عنهم كانوا يتختمون بشمائلهم. وروى عمرو بن شعيب قال: ((أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في يده خاتم من ذهب فأمره أن يطرحه فطرحه وجعل في يده حلقة من حديد، فقال اذهب واطرحه هذا شر من ذلك هذا حلية أهل النار، قال فطرحه وجعل في يده خاتماً من ورق فلم ينهه)) وروى عوف بن أبي جحيفة عن أبيه قال: رأى عمر رضي الله تعالى عنه على رجل خاتماً من حديد فجعل يجذبه حتى أخذه فرمى به وقال: عليك بخاتم من ورق. وروى الأعمش قال: رأيت في يد إبراهيم النخعي خاتماً من حديد وقال إبراهيم: أخبرني من رأى على ابن مسعود خاتماً من حديد. (قال الفقيه): وقد كره بعض الناس اتخاذ الخاتم وأجازه عامة أهل العلم، فأما من كرهه فقد احتج بما روي في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان. وروي عن بعض التابعين أنه قال: لا يتختم إلا ثلاثة: أمير أو كاتب أو أحمق وروي في الخبر أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في يد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ثم أخذه عمر رضي الله تعالى عنه وكان في يده، ثم أخذه عثمان رضي الله تعالى عنه حين ولي وكان في يده عامة خلافته ثم سقط منه في بئر أريس. وأما من قال يجوز للسلطان ولغيره فاحتج بما روي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أنهم كانوا يتختمون ولم يكن لهم إمارة، وهو ما روى جعفر بن محمد عن أبيه أن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما كانا يتختمان في يسارهما وكان في خواتمهما ذكر الله تعالى. روى يعلى بن عبيد عن ابن سيرين عن رشيد بن كريب قال: رأيت محمد بن الحنفية يتختم في يساره. وعن يونس بن أبي إسحاق قال: رأيت قيس بن أبي حازم وعبد الرحمن بن الأسود والشعبي وغيرهم يتختمون في يسارهم فهؤلاء لم يكن لهم سلطان ولا إمارة ولأن السلطان يلبس للزينة ولحاجته إلى الختم والسلطان وغيره في حاجة الزينة والختم سواء فلما جاز للسلطان جاز لغيره وبه نأخذ، والمذهب الترك أفضل لغير القاضي والسلطان.
الباب الحادي والمائة: في نقش الخاتم والكتابة عليه
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على خواتمكم عربياً)) فسئل الحسن عن تفسير ذلك فقال: معناه لا تشاوروا أهل الشرك في أموركم ولا تكتبوا في خواتمكم محمد رسول الله. وروى أمامة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر، وكان نقش خاتم أبي بكر رضي الله تعالى عنه: نعم القادر الله، وكان نقش خاتم عمر رضي الله تعالى عنه كفى بالموت واعظاً يا عمر، وكان نقش خاتم عثمان رضي الله تعالى عنه لتصبرن أو لتندمن. وكان نقش خاتم علي رضي الله تعالى عنه الملك لله، وكان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز اغز غزوة تجادل عنك يوم القيامة. (قال الفقيه) رحمه الله: لو كان خاتم في فصه تماثيل فلا يكره، وليس كالتماثيل في الثياب والبيوت لأن التمثال في فص الخاتم صغير تقصر العين عنه فلا يتبين، إنما تكره التماثيل إذا كانت ظاهرة في عين الناظر فصارت كالعلم في الثوب فإنه يجوز وإن كان حريراً أو إبريسماً لأنه قليل، فكذلك التماثيل في الخاتم. وروي عن أبي هريرة أنه كان على فص خاتمه ذبابتان. وعن أبي موسى أنه كان على فص خاتمه كوكبان. وروي عن حذيفة هكذا. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه كان على فص خاتمه أسد بين رجلين أو رجل بين أسدين، ولو كان على فصه اسم الله تعالى أو اسم نبي من الأنبياء فإنه يستحب له إذا دخل الخلاء أن يجعل فص الخاتم في كفه، فإذا أراد أن يستنجي يستحب له أن يجعله في يمينه لأنه لو استنجى مع ذلك كان فيه استخفاف وترك التعظيم.
الباب الثاني والمائة: في معاريض الكلام
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب أي سعة، ومعاريض الكلام أن يتكلم الرجل بكلمة يظهر من نفسه شيئاً ومراده شيء آخر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام قال: {لا تؤاخذني بما نسيت} قال: لم ينس موسى وإنما هو من معاريض كلامه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان إذا أراد سفراً ورى بغيره: يعني يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى، وكان يقول: كيف الطريق إلى موضع كذا ثم كان يخرج إلى موضع آخر)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمان السر فإن كل ذي نعمة محسود)) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا أمر قومه بشيء فخالفوه في ذلك كان يرفع رأسه إلى السماء ويقول: اللهم ما كذبت ولا كذبت، فظنوا أنه سمع في ذلك شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الكذب في ثلاثة أشياء: في الصلح بين الاثنين، وفي الحرب، وأن يرضي الرجل زوجته.
الباب الثالث والمائة: في الرسالة
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا كتب الرجل الرسالة ينبغي له أن يختمها لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم وبه جاء الأثر، وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كرامة الكتاب ختمه. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختماً فهو أغلف. وعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيما صحيفة ليست بمختومة فهي مغلوفة. وكان رسم المتقدمين أن الكاتب يبدأ بنفسه من فلان إلى فلان وبذلك جاءت الآثار. روي عن عمر أنه كان إذا كتب إلى خليفة بدأ بنفسه، وكان يكتب إلى عماله أن ابدءوا بأنفسكم. وروى وكيع عن ابن أبي داود عن عبد الله بن محمد بن سيرين أنه أراد سفراً فقال له أبوه محمد بن سيرين، إذا كتبت إلي كتاباً فابدأ بنفسك فإنك إن بدأت بي لم أقرأ لك كتاباً. وعن الربيع بن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم وكبرائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد اجتمعت عليه برمتها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) فلما اجتمعت الأمة على هذا ثبت أنهم قد فعلوا ذلك لمصلحة رأوا في ذلك فنسخ ما كان من قبل فقد وجدنا أن الآية تنسخ بإجماع الأمة على تركها كما في قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} فلما كانت الآية من كتاب الله تعالى تنسخ بإجماع الأمة فخبر الواحد أولى أن يترك بالإجماع. وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأساً أن يبدأ بالمكتوب إليه. (قال الفقيه) رحمه الله: والأحسن في زماننا أن يبدأ بالمكتوب إليه ثم بنفسه لأن البداءة بنفسه تعد منه استخفافاً بالمكتوب إليه وتكبراً عليه إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده أو غلام من غلمانه فيبدأ بنفسه، وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، فكما أن رد السلام واجب فكذلك رد الجواب واجب. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد جواب الكتاب واجباً كما يرى رد السلام وقال صلى الله عليه وسلم : ((تواصلوا بالكتاب ولو شطت الديار)).
الباب الرابع والمائة: ما قيل في المزاح
(قال الفقيه) رحمه الله: لا بأس بالمزاح بعد أن لا يتكلم بكلام فاحش يأثم فيه أو يقصد أن يضحك الناس فإن ذلك مذموم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً)) وروي عن أنس: ((أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني حاملك على ولد الناقة، فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلى النوق)) وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخالطنا فيقول لأخ لي: ((يا أيا عمير ما فعل النغير)) وروي أن عجوزاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إن الجنة لا تدخلها عجوز، فجعلت تبكي، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنك أحزنتها، فقرأ صلى الله عليه وسلم : {إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارا. عرباً أتراباً} فسرت بذلك)) وروى حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يكنى أبا عمرة: يا أم عمرة فلمس الرجل فرجه فقال يا رسول الله ما كنت أرى إلا أني امرأة فقال صلى الله عليه وسلم : إنما أنا بشر أمازحكم)). (قال الفقيه): ولا تكثر المزاح فإن فيه ذهاب المهابة ويذمك عند الصلحاء ويجرئ عليك السفهاء وتنسب إلى الخفة، ولا تمازح من لم يكن بينك وبينه مخالطة ولم تعلم أخلاقه، ولا بأس بأن تمازح مع أقرانك وجلسائك في غير مأثم ولا إفراط فإن خير الأمور أوسطها لأن ذلك أولى أن لا تنسب إلى الثقل ولا إلى الخفة، والله أعلم.
الباب الخامس والمائة: في الفوائد
(قال الفقيه) رحمه الله: روى وكيع عن ثور عن محفوظ عن علقمة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في الشمس فقال تحول إلى الظل فإنه مبارك)) وعن أبي هريرة قال: حرف الظل مجلس الشيطان: يعني بين الظل والشمس. وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كتبتم الكتاب فتربوه فإنه أسرع للحاجة وأنجح للطلب والبركة في التراب)) وعن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر الحاجة ربط في يده خيطاً ويقال لذلك الخيط الرتيمة. وعن الحسن قال: أهدي لعلي يوم النيروز هدية فقال ما هذا؟ قيل له هذا يوم يقال له النيروز، فقال علي: ليت كل يوم نيروز وعن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً فسأل عنه، فقال رجل: أنا أعرف وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ليست تلك بمعرفة)) يعني ما لم تعرف اسمه لا يكون معرفة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أغلقوا الباب وأوكئوا السقاء وأطفئوا السراج فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم)) يعني أن الفأرة تجر الفتيلة. وعن نافع عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد خرج ماشياً، وإذا انقلب انقلب في طريق غير هذا الطريق وركب، ويقدم الأكل في الفطر ويؤخره في الأضحى)) وعن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اطلبوا الخير عند حسان الوجوه)) وعن يحيى بن أبي كثير قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عماله: ((أن لا تبردوا إلا إلى رجل حسن الوجه حسن الجسم حسن الصوت)) ويروى ((حسن الاسم)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما بعث الله رسولاً إلا كان حسن الوجه حسن الاسم حسن الصوت)) وعن ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا نهيت المسكين ثلاثاً فلم ينته فلا بأس أن تزجره وتثرثره)) أي تعيره وتضربه. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى مصحفاً صغيراً في يد رجل فقال: من كتبه؟ فقال: أنا، فضربه بالدرة وقال: عظموا القرآن. وعن إبراهيم النخعي قال: يكره أن يكتب المصحف في الشيء الصغير. وعن عمرو بن عبادة قال: بت ليلة في المسجد وليس معي شيء فاستيقظت فإذا في ثوبي صرة فيها أربعون درهماً أو نحوها، فأتيت عطاء فاستفتيته فقال: إن الذي صرها في ثوبك لم يصرها إلا وهو يريد أن يجعلها لك، فإن كان لك بها حاجة فاقض حاجتك وإن كنت غنياً عنها فأعطها محتاجاً. وعن ابن سيرين قال: كنا مع أبي قتادة على سطح فانقض نجم فأتبعناه أبصارنا فنهانا وقال: لا تتبعوا أبصاركم فإنا كنا قد نهينا عن ذلك. وعن وكيع بن ذؤيب قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالزهر وضعه على فيه. وعن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((إذا سل أحدكم سيفاً فلا يناوله حتى يغمده، فرأى قوماً يفعلون هذا فقال ألم أنه عن هذا؟ فمن فعل فعليه لعنة الله)) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبائح الجن، وذبائح الجن أن تذبح في الدار الجديدة بالطيرة أو العين تستخرج منها. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه نهى أن يقال مسيجد أو مصيحف بالتصغير)). وروى الشعبي عن أبي جحيفة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب يقول غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمر إلى الجنة)).
الباب السادس والمائة: في المرأة إذا كان لها زوجان في الدنيا
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في المرأة إذا كان لها زوجان في الدنيا لأيهما تكون في الآخرة؟ قال بعضهم: تكون لآخرهما، وقال بعضهم: تخير فتختار أيهما شاءت. وقد جاء في الأثر ما يؤيد قول كلا الفريقين: أما من قال هي لآخرهما فقد ذهب إلى ما روي عن معاوية بن أبي سفيان أنه خطب أم الدرداء فأبت وقالت: سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المرأة لآخر زوجيها في الآخرة، وقال إن أردت أن تكوني زوجتي في الآخرة فلا تتزوجي بعدي)) وأما من قال بأنها تخير فذهب إلى ما روي عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله المرأة منا ربما يكون لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة؟ قال: تخير فتختار أحسنهما خلقاً معها ثم قال صلى الله عليه وسلم ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة)).
الباب السابع والمائة: في القول في أطفال المشركين
تكلم الناس في أطفال المشركين إذا ماتوا في حال صغرهم قال بعضهم: في الجنة، وقال بعضهم هم في النار، وقال بعضهم: هم خدام أهل الجنة، وقال بعضهم: بخلاف ذلك، وقد جاءت في ذلك آثار مختلفة. فأما من قال بأنهم في الجنة فذهب إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)). وأما من قال بأنهم في النار فذهب إلى ما روي عن خديجة: ((أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها الذين ماتوا في الجاهلية من زوج لها قبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إن شئت أريتك تقلبهم في النار، وإن شئت أسمعك نعاءهم في النار ولأن الله تعالى قال: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} فإنهم حين ولدوا كانوا كفاراً)) وعن عائشة رضي الله تعالى عنها ((أنها مرت بجنازة صبي طفل فقالت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ((ما تدرين لو كبر ماذا يكون منه)) وأما من قال: إنهم خدام أهل الجنة فاحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أتدرون من اللاهون من أمتي؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أطفال المشركين لم يذنبوا فيعذبوا ولم يعملوا حسنة فيثابوا فهم خدم أهل الجنة)) فلما اختلفت فيهم الأخبار والآثار فالسكوت عنهم أفضل، فنقول الله ورسوله أعلم بأمرهم. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: لا علم لي بهم. وسئل محمد بن الحسن عن أطفال المشركين فقال: أنا أقف عند الأطفال إلا أني أعلم أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بالذنب، والله تعالى أعلم.
الباب الثامن والمائة: في ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روي في الأخبار أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، ثلثمائة وثلاثة عشر منهم مرسل وباقيهم لم يكونوا مرسلين، هكذا روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر: ((أنتم على عدد المرسلين وعلى عدد أصحاب طالوت حين جاوزوا النهر)) يعني ثلثمائة وثلاثة عشر ومن لم يكن من الأنبياء مرسلاً، وكان بعضهم يوحى إليه في المنام وكان بعضهم يسمع الصوت من غير أن يرى شخصاً، فأول المرسلين كان آدم صلى الله عليه وسلم وكان رسولاً إلى أولاده خلقه الله من تراب وخلق زوجته حواء من ضلعه اليسرى، وقد ولدت منه حواء أربعين ولداً في عشرين بطناً من ذكر وأنثى وتوالدوا حتى كثروا كما قال الله تعالى: {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} وكانت كنية آدم في الجنة أبا محمد لأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أكرم ولده وكان يكنى به، وكنيته في الأرض أبا البشر، وأنزل الله تعالى إليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وعاش تسعمائة وثلاثين سنة. هكذا ذكر أهل التوراة. وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة، ثم بعده شيث بن آدم وكان نبياً مرسلاً وكان وصي آدم وولي عهده. قال وهب بن منبه: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعاش تسعمائة سنة، وكان شيث أبا البشر كلهم وإليه انتهت أنساب الناس كلهم، ثم إدريس النبي عليه الصلاة والسلام وكان نبياً مرسلاً واسمه أخنوخ وإنما سمي إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتاب الله تعالى وسنن الإسلام، وهو أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبسها: يعني ثياب القطن، وكانوا من قبله يلبسون الجلود والصوف، وأجاب له ألف إنسان ممن يدعوهم، وهو جد أبي نوح، ورفع إلى السماء وهو ابن ثلثمائة وخمس وستين كما قال الله تعالى: {ورفعناه مكاناً علياً} وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، ثم بعده نوح النبي عليه الصلاة والسلام وكان اسمه شاكراً، وإنما سمي نوحاً لكثرة نوحه وبكائه من خوف الله تعالى، وكان أول من أمر بنسخ الأحكام وأمر بالشرائع، وكان من قبله نكاح الأخت مباحاً وحرم ذلك على عهده فكذبه قومه فأرسل الله عليهم الطوفان فغرقت الدنيا كلها إلا من كان معه في السفينة، وكان معه في السفينة أربعون رجلاً وأربعون امرأة فلما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم كما قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} فتوالدوا حتى كثروا فالعرب والفرس والروم كلهم من ولد سام، والحبش والسند والهند كلهم من ولد حام، ويأجوج ومأجوج والصقالبة والترك كلهم من ولد يافث، ثم بعده هود عليه الصلاة والسلام وهو ابن عبد الله، ويقال هود بن تارخ بن جواب بن عيوص بعثه الله تعالى إلى عاد. قال بعضهم: عاد اسم القبيلة، وقال بعضهم: اسم ملكهم وكانوا يسمون باسم ملكهم، فكذبوه فأرسل الله عليهم الريح العقيم فأهلكهم الله كلهم، ثم بعده صالح بن عبيد، ويقال صالح بن كانو بعثه الله تعالى إلى ثمود وهو اسم بئر بأرض الحجر فتسمى تلك القبيلة باسم ذلك البئر، فكذبوه وسألوه أن يخرج لهم ناقة من صخرة في جبل ففعل ذلك، فكذبوه وعقروا الناقة، وكان عاقر الناقة رجلاً أحمر أزرق العينين عيناه مثل عين الخفاش يقال له قدار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى: {إذ انبعث أشقاها} فأهلكهم الله بالصاعقة والزلزلة، ثم بعده إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم بن آزر بن تارخ بن ناخور، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من قص شاربه، وأول من رأى الشيب، وأول من اختتن، وأول من اتخذ السراويل، وأول من ثرد الثريد، وأول من اتخذ الضيافة، وكان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أربعة بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين، ويقال ستة بنين، ويقال اثنا عشر ابنا، وكان إسماعيل عليه السلام نبياً مرسلاً وكان أبا العرب كلهم، وكان إسحاق عليه السلام نبياً مرسلاً وكان له ابنان يعقوب وعيصو، ولدا في بطن واحد فخرج يعقوب من بطن الأم على أثر عيصو فسمي يعقوب لخروجه على عقبه، فأما يعقوب فهو أبو بني إسرائيل، وكان يقال ليعقوب إسرائيل وهو في لغتهم عبد الله، وأما عيصو فهو أبو الروم، وكان لوط النبي عليه الصلاة والسلام في زمن إبراهيم وكان ابن عمه، وكانت سارة أخت لوط وهي أم إسحاق، ويقال كان لوط ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ بن ناخور، وكان بعد إبراهيم أيوب النبي عليه الصلاة والسلام وهو ابن بنت لوط وهو أيوب بن موسى، وكان تحته ابنة يعقوب يقال لها ليا بنت يعقوب ويقال رحمة بنت يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم بعده شعيب النبي عليه الصلاة والسلام وهو شعيب بن نويب، بعثه الله لأهل مدين فكذبوه فأهلكهم الله بالصاعقة والزلزلة ثم بعده موسى وأخوه هرون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بعثهما الله إلى فرعون مصر واسم فرعون الوليد بن مصعب، ثم بعدهما يوشع بن نون عليه السلام وكان خليفة موسى من بعده، ثم بعده يونس بن متى عليه السلام ابتلاه الله بالحوت فالتقمه الحوت وهو مليم، وكان في بطنه ثلاثة أيام، ويقال سبعة أيام، ويقال أربعين يوماً، وبعثه الله تعالى إلى أهل نينوى من قرى الموصل، فكذبوه فأرسل الله تعالى عليهم العذاب فآمنوا فصرف عنهم العذاب بعد ما غشيهم، ثم بعد ذلك داود عليه السلام وهو داود بن إيشا وكان نبياً مرسلاً وكان ملك بني إسرائيل، ثم ابنه سليمان عليه السلام، ثم زكريا عليه السلام وهو زكريا بن ماثان، ثم ابنه يحيى عليه السلام، ثم عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم إلياس عليه السلام، وكان إلياس نبياً مرسلاً من سبط يوشع بن نون، بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك، وكان اليسع تلميذ إلياس وخليفته من بعده وكان الأسباط من أولاد يعقوب، وكان له اثنا عشر ابناً فتوالدوا حتى كثروا فصاروا أولاداً لكل ابن سبط والسبط في بني إسرائيل بمعنى القبيلة في العرب، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة؛ وكان عمره مائة وسبعاً وأربعين سنة. عاش يوسف عليه السلام بعده ثلاثاً وعشرين سنة؛ ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة؛ ويقال مائة وعشر سنين. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: إنا نجد في بعض الكتب أن عشرة من الأنبياء ولدوا مختونين: خلق الله تعالى آدم مختوناً، وشيث بن آدم ولد مختوناً وإدريس، ونوح، ولوط، وإسماعيل ويوسف، وزكريا، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وذكر عن وهب بن منبه أنه قال: كان بين آدم وبين الطوفان ألفان ومائتان وأربعون سنة. وبين الطوفان ووفاة نوح ثلثمائة وخمسون سنة، وبين نوح وإبراهيم ألفان ومائتان وأربعون سنة، وبين إبراهيم وموسى تسعمائة سنة، وبين موسى وداود خمسمائة سنة، وبين داود وعيسى ألف ومائة سنة، وقال بعضهم: هذا لا يصح: يعني ما ذكر من مقدار السنين، لأن الله تعالى قال: {وقروناً بين ذلك كثيراً} فلا يعرف مقدار ذلك إلا الله تعالى، ثم انقطعت الرسل بعد عيسى عليه السلام إلى وقت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكان بينهما فترة كذلك قال الله عز وجل: {على فترة من الرسل} وإنما سمي فترة لأن الدين قد فتر ودرس. قال قتادة، كان بينهما خمسمائة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال مقاتل: ستمائة، وهكذا، قال الضحاك: قال وهب بن منبه: كان بينهما ستمائة وعشرين سنة، والكتب التي أنزل الله على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام التي هي معروفة عند الناس أربعة: التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: أنزل الله تعالى مائة كتاب وأربعة كتب: خمسون صحيفة نزلت على شيث بن آدم، وثلاثون صحيفة على إدريس، وعشرون صحيفة على إبراهيم، والتوراة والزبور والإنجيل والفرقان على ما ذكرنا. ثم اختلفوا في ذي القرنين ولقمان أكانا نبيين أم لا؟ وأكثر أهل العلم قالوا إن لقمان كان حكيماً ولم يكن نبياً، وكان ذو القرنين ملكاً صالحاً ولم يكن نبياً. وقال عكرمة: كان ذو القرنين نبياً وكذا لقمان. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذي القرنين فقال: كان رجلاً صالحاً. وقال بعضهم: إنما سمي ذا القرنين لأنه كان ملك الفرس والروم. وقال بعضهم: كان رأسه شبه القرن. وقال بعضهم: إنه سار إلى قرني الشمس مغربها ومشرقها. وقال بعضهم: إنه عاش قرنين، وقال بعضهم: لأنه رأى في المنام حال شبابه أنه دنا من الشمس فأخذ بقرنيها فأخبر قومه بذلك فسموه بذي القرنين، وكان اسمه إسكندر. ويقال خمسة من الأنبياء كان لسانهم عربياً. إسمعيل، وهود وصالح، وشعيب، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد اختلف الناس في الولد الذي أمر إبراهيم بذبحه. قال بعضهم هو: إسمعيل، وقال بعضهم: هو إسحاق. وروي عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن سلام وعكرمة ومقاتل وكعب الأحبار ووهب بن منبه أنهم قالوا إسحاق. وقال ابن عباس وابن عمر ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي والكلبي إنه كان إسمعيل. وهذا القول أشبه بالكتاب والسنة أما الكتاب فحيث قال: {وفديناه بذبح عظيم} ثم قال بعد قصة الذبح {وبشرناه بإسحق} الآية، وأما الخبر فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا ابن الذبيحين)) يعني أباه عبد الله وإسمعيل، واتفقت الأمة على أنه كان من ولد إسمعيل. وقال أهل التوراة: مكتوب في التوراة إنه كان إسحاق فإن صح ذلك في التوراة فنحن آمنا به ويقال لم يملك أحد من الملوك الدنيا كلها إلا أربعة: اثنان مسلمان واثنان كافران. فأما المسلمان فسليمان بن داود عليهما السلام، وذو القرنين. وأما الكافران فنمرود بن كنعان، وبختنصر الذي خرب بيت المقدس، وقتل منهم سبعين ألفاً، وأسر سبعين ألفاً وذهب بهم إلى بابل، وكان فيهم دانيال، وكان صغيراً وكان نبياً ولم يكن مرسلاً. ويقال لم يتكلم أحد من الناس وهو طفل إلا أربعة: أحدهم عيسى ابن مريم والثاني صاحب أصحاب الأخدود، والثالث صاحب جريج الراهب، والرابع صاحب يوسف عليه السلام حيث قال الله تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} واختلفوا فيه. قال بعضهم: كان الشاهد رجلاً كبيراً ولم يكن طفلاً. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: وجدت في كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن عمر آدم عليه الصلاة والسلام كان تسعمائة وثلاثين سنة وعمر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعمر إبراهيم عليه السلام مائة وخمس وتسعون سنة، وعمر إسماعيل مائة وسبع وثلاثون سنة، وعمر إسحق مائة وثمانون سنة، وعمر يعقوب مائة وتسع وأربعون سنة وعمر يوسف مائة وثلاث وعشرون سنة، وعمر داود سبعون سنة، وعمر سليمان مائة وثمانون سنة، وعمر شعيب مائتان وأربع وخمسون سنة، وعمر صالح مائة وثمانون سنة، وعمر هود مائة وخمس وستون سنة، وعمر عيسى ثلاث وثلاثون سنة، وعمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب التاسع والمائة: في صفة ما خلق الله تعالى من الخلق
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى خلق ثمانية عشر ألف عالم والدنيا منها عالم واحد)) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى خلق في الأرض ألف أمة من الخلق ستمائة في البحر وأربعمائة في البر)) وعن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: ((إن الله تعالى خلق أرضاً بيضاء مثل الدنيا ثلاثين مرة مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً محشوة خلقاً من خلق الله تعالى لا يعلمون إلا الله تعالى ولا يعصونه طرفة عين، قالوا: يا رسول الله أو من ولد آدم؟ قال: لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم. قيل يا رسول الله وأين عنهم إبليس؟ قال: لا يعلمون أن الله تعالى خلق إبليس ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ويخلق ما لا تعلمون})) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تعالى خلق ملكاً نصفه الأسفل نار ونصفه الأعلى ثلج لا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار وهو يقول سبحان من ألف بين الثلج والنار، اللهم كما ألفت بين النار والثلج ألف بين قلوب عبادك المؤمنين)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تعالى خلق ديكاً تحت العرش وله جناحان إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب فإذا كان آخر الليل نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح ويقول: سبحان الملك القدوس، فإذا فعل ذلك سبحت ديكة الأرض كلها مجيبة له وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ)) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تسبوا الديك الأبيض فإنه يدعو إلى الصلاة)) وعن عبد الله بن الحارث أنه قال: دخل كعب على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا كعب حدثني عن البيت المعمور أين هو؟ قال: هو بيت في السماء الرابعة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه قط ولا يدخلونه بعد ذلك حتى تقوم الساعة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه سئل أي الخلق أشد، فقال: أشد الخلق الجبال الرواسي والحديد أشد منها فتنحت به الجبال، والنار تغلب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب يحمل الماء، والريح يحمل السحاب. والإنسان يغلب الريح بالبنيان، والنوم يغلب الإنسان، والهم يغلب النوم، فأشد ما خلق الله تعالى الهم، وأشد خلق خلقه ربك الموت.
الباب العاشر بعد المائة: في بدء خلق السموات والأرض
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أول شيء خلقه الله تعالى القلم فأبعد ما شاء لله فنقط نقطة فسالت ألفاً فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق السمكة فكبس الأرض عليها، ويقال قبل أن يخلق الله الأرض كان موضع الأرض كلها ماء فاجتمع الزبد في موضع الكعبة فصارت ربوة حمراء كهيئة التل وكان ذلك يوم الأحد، ثم ارتفع بخار الماء كهيئة الدخان حتى انتهى إلى موضع السماء فجعله الله تعالى درة خضراء وخلق منها السماء فلما كان يوم الاثنين خلق الشمس والقمر والنجوم ثم بسط الأرض من تحت الربوة فذلك قوله تعالى: {خلق الأرض في يومين} وقال في موضع آخر: {أم السماء بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها} وخلق يوم الثلاثاء دواب البحر والبر والطير، وفجر يوم الأربعاء الأنهار وسخر البحار وأنبت الأشجار وقسم الأرزاق وقدر الأقوات فذلك قوله عز وجل: {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام} ويقال كانت الأرض تميد على الماء فخلق فيها الجبال الثوابت وجعلها أوتاداً للأرض فاستقرت، وخلق يوم الخميس الجنة والنار، ثم خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة، وخلق في السماء اثني عشر برجاً وهو قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً} وقال {والسماء ذات البروج} وأسماء البروج: حمل، ثور، جوزاء، سرطان، أسد، سنبلة، ميزان، عقرب، قوس، جدي، دلو، حوت. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: القمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، وكل نجم مثل جبل عظيم في الدنيا. وقال بعضهم: الشمس مثل عرض الدنيا ولولا ذلك لما أشرقت الدنيا كلها، وكذلك القمر. وعن ابن عباس أنه قال: النجوم معلقة بالسماء كهيئة القناديل. وقال بعضهم: هي مكوكبة في السماء بمنزلة الكواكب في الأبواب والصناديق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرعد اسم ملك يزجر السحاب، والصوت الذي يسمع الناس هو صوت الملك)) ويقال الصاعقة مخاريق في أيدي الملائكة يزجرون السحاب، ويقال ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين المشرق والمغرب مسيرة خمسمائة عام أكثرها مفاوز وجبال وبحار، وقليل منها العمران، ثم أكثر العمران الكفار وقليل منها الإسلام، وحول الدنيا ظلمة ثم وراء الظلمة جبل قاف وهو محيط بالدنيا، وهو من زمرد أخضر وأطراف السماء ملصقة به، ويقال ما من جبل في الدنيا إلا وعرق من عروقه يتصل بقاف، فإذا أراد الله تعالى إهلاك قوم أمر الملك فيحرك عرقاً من عروقها فخسف بهم. وروى ابن بريدة عن أبيه أنه قال: سماء الدنيا موج مكفوف، والثانية زمردة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من صفر، والخامسة من نحاس، والسادسة من فضة، والسابعة إلى الحجب من ذهب، وما بين السماء السابعة والتي قبلها بحار من نور. وعن كعب أنه قال: السابعة من ياقوتة، وهذا كله قول أهل التوحيد سوى أقاويل أهل النجوم، والله أعلم.
الباب الحادي عشر بعد المائة: في أسماء الجنان والنيران
(قال الفقيه) رحمه الله: الجنان أربع كما قال الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال بعد ذلك: {ومن دونهما جنتان} فتلك أربع إحداهن جنة الخلد، والأخرى جنة الفردوس، والثالثة جنة المأوى، والرابعة جنة عدن، وأبوابها ثمانية، وإنما عرف أن أبوابها ثمانية بالخبر وليس في كتاب الله تعالى ذكر عدد الأبواب. وقال بعضهم: في كتاب الله تعالى دليل على أن أبوابها ثمانية لأنه تعالى قال: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} بالواو وقال في ذكر النار {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} فلم يذكر الواو وذكرها في أبواب الجنة وذلك دليل على أنها ثمانية. لأن الواو تذكر عند الثمانية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم} فلم يذكر الواو في الرابع والسادس ثم قال: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} وقال تعالى: {التائبون العابدون} ثم قال عند ذكر الثامن: {والناهون عن المنكر} وقال: {خيراً منكن مسلمات مؤمنات} ثم قال: {وأبكاراً} فذكر الواو عند ذكر الثمانية، والصحيح أن يقال إنما عرف أن أبوابها ثمانية بالخبر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أسفل أهل الجنة منزلة الذي له من الجنة مسيرة خمسمائة عام وله خمسمائة حوراء، وإنه ليعانق الزوجة عمر الدنيا، وتوضع المائدة بين يديه فلا ينقضي شبعه عمر الدنيا، وفي الشرب كذلك، ويقال لكل شيء في الجنة نظير في الدنيا، فأهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون نظيره في الدنيا الولد في البطن، وأهل الجنة لهم خدم إذا تمنى الرجل شيئاً جاءوا به قبل أن يأمرهم فيعرفون حاجته قبل أن يتكلم نظيره في الدنيا أعضاؤه إذا اشتهى الإنسان شيئاً عرفت أعضاؤه ذلك ويفعلون من غير أن يأمرهم ويكلمهم، وفي الجنة شجرة يقال لها طوبى أصلها في دار محمد صلى الله عليه وسلم وأغصانها في كل دار وفي كل موضع من الجنة، نظيرها الشمس قد وصل ضوؤها في كل دار وفي كل موضع فدخل في كل شاهق وكوة وخرق وانتشر في جميع الدنيا، والجنة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منها ما أكلوا ولا ينقص منه شيء نظيره في الدنيا القرآن يتعلمه الناس ويعلمونه وهو على حاله لا ينقص منه شيء، وفي الجنة ظل ممدود نظيره في الدنيا الوقت الذي قبل طلوع الشمس وبعد غروبها إلى أن يدخل سواد الليل فالجنة كلها ظل ممدود فذلك قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا أنبئكم بساعة هي أشبه بساعة أهل الجنة ألا وهي الساعة التي قبل طلوع الشمس ظلها دائم ورحمتها باسطة وبركتها كثيرة، وخازن الجنة يقال له رضوان قد ألبس الرحمة والرأفة)) وأما النيران فسبعة بعضها فوق بعض وذلك لقوله تعالى: {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} فأولها جهنم وهي أعلى الأبواب وهي التي عليها ممر الخلق يوم القيامة قال الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} والثانية لظى، والثالثة الحطمة، والرابعة السعير، والخامسة سقر، والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية وهي أسفل النيران وفيها أشد العذاب، أعدت للزنادقة وهم المنافقون، وخازن النار يقال له مالك، ولقد ألبس الغضب والهيبة، اللهم أنقذنا منها بفضلك وجودك يا أرحم الراحمين آمين.
الباب الثاني عشر بعد المائة: في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأزواجه
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر نسبة نفسه فقال: ((محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتسب إلى عدنان وكان لا يتجاوز نسبه من عدنان. وروي عن كعب الأحبار وعن غيره أنه ذكر نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم وأنكر ذلك بعضهم. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: كذب النسابون لأن الله تعالى قال: {وقروناً بين ذلك كثيراً} وقال في موضع آخر: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} وأما الذين نسبوه إلى آدم فقالوا: عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن نبت بن سلامان بن محل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن تارخ بن ناخور بن أشرع بن أرغو بن فالغ بن عامر بن فالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام بن يرد بن مهلائيل بن أنوش بن شيث بن آدم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء من أولاده. وقد توفي أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه حامل به فكفله جده عبد المطلب، وتوفي عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، وكفله عمه أبو طالب وهو أبو علي رضي الله تعالى عنه حتى كبر. واسم أمه آمنة بنت وهب، وتوفيت أمه وهو ابن ستة أشهر، وظئره التي أرضعته امرأة من الطائف يقال لها حليمة، وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين سنة، وأقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة وأقام بها عشر سنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد مات عن تسع نسوة، وجميع ما تزوج من النساء أربع عشرة، أول امرأة تزوج بها خديجة بنت خويلد وهي سيدة النساء، وكانت أسبق الناس إسلاماً، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها ثم تزوج بهؤلاء الثلاثة بمكة وتزوج بالمدينة حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما، وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وكن تلك الست من قريش، وجويرية من بني المصطلق، وصفية بنت حيي بن أخطب، وزينب بنت جحش، وكانت امرأة زيد بن حارثة، وكان يقال لها أم المساكين لسخائها، وهي أول امرأة من نسائه ماتت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وميمونة بنت الحارث الأسلمية، وهي خالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزينب بنت خزيمة، وامرأة من بني هلال وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وامرأة من كندة وهي التي استعاذت منه فطلقها، وامرأة من كلب وكان له ثلاثة بنين وأربع بنات فأول أولاده القاسم وكان صلى الله عليه وسلم يكنى به، ثم ابنته زينب، ثم ابنه عبد الله واسمه طاهر، ولد بعد نزول الوحي ولذلك سمي طاهراً، ثم ابنته أم كلثوم، ثم ابنته فاطمة ثم ابنته رقية، فهؤلاء كلهم ولدوا بمكة من خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم ولد بالمدينة ابنه إبراهيم من سرية يقال لها مارية القبطية. فزوج فاطمة من علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وزوج رقية من عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فماتت بعد ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلما رجع من بدر زوجه أم كلثوم رضي الله تعالى عنها وبهذا سمي عثمان ذا النورين، وزوج زينب من أبي العاص بن الربيع. ومات أولاده كلهم قبله إلا فاطمة فإنها عاشت بعده ستة أشهر، وكانت نساؤه كلهن ثيبات إلا عائشة فإنها كانت بكراً تزوجها وهي ابنة ست سنين، فبنى بها وهي ابنة تسع سنين، وكانت عنده تسعاً واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع مرات، وحج حجة واحدة هي حجة الوداع، وكان فتح خيبر بعد هجرته بست سنين، وفتح مكة بعد الهجرة بثمان سنين. وكانت وفاته يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، والتاريخ الذي يؤرخ به الكتب إلى يومنا هذا إنما هو تاريخ للهجرة، وأمر عمر رضي الله تعالى عنه بأن يجعل التاريخ من وقت الهجرة بمشاورته الصحابة، وكان من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وكان لخديجة رضي الله تعالى عنها فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه ومنهم أبو رافع كان للعباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أسلم العباس بشر أبو رافع النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه فأعتقه ومنهم سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمه روحان أو مهران، ويقال رباح، وكان في بعض الأسفار فكل من أعطاه شيئاً من متاعه أخذه وحمله، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حمل أمتعة كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنت سفينة)) فسمي بذلك، ومنهم ثوبان وشيبان وشقران ويسار، وغيرهم من الموالي الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم .
الباب الثالث عشر بعد المائة: في أسماء الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وقالت المهاجرون: منا الأمير. وقال بعضهم: الخلافة لعلي رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: الخلافة لأبي عبيدة بن الجراح، ثم اتفقت آراؤهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكانت خلافته سنتين، واسمه عبد الله وكان قبل الإسلام عبد الكعبة لأنه كان في الجاهلية لا يخرج من الكعبة فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وكان يقال له خليفة رسول الله، ثم مات فولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال لهم: كنتم تقولون لأبي بكر خليفة رسول الله، فكيف تقولون لي؟ فقال بعضهم: نقول خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذا يطول ويثقل، ثم قال: ألستم أنتم المؤمنون؟ فقالوا: نعم، فقال ألست أنا أميركم؟ قالوا: نعم، قال: قولوا: أمير المؤمنين، فأول من سمي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكانت خلافته عشر سنين فقتله أبو لؤلؤة الملعون غلام المغيرة بن شعبة. ولي بعده عثمان رضي الله تعالى عنه، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة فقتله أهل الفتنة. ثم ولي بعده علي رضي الله تعالى عنه، وكانت خلافته ست سنين فقتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي ألجم الله تعالى فمه بلجام من نار، ثم ولي بعده معاوية بن أبي سفيان وكانت ولايته عشر سنين، ثم ولي بعده يزيد بن معاوية وكانت ولايته ثلاث سنين، فلما مات وقعت الفتنة فبايع أهل العراق عبد الله بن الزبير وأهل الشام بايعوا مروان بن الحكم وكانت ولايته مقدار تسعة أشهر، ثم ولي عبد الملك بن مروان فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير وكان بمكة فحاصره وأخذ وصلبه فصارت الولاية كلها لعبد الملك بن مروان وكانت ولايته عشر سنين، وكانت عامة الفتوح في ولايته إلى فرغانة، ثم ولي الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم العبد الصالح عمر بن عبد العزيز بن مروان، ثم هشام بن عبد الملك، ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد، ثم مروان بن محمد، فهؤلاء كلهم كانوا من بني أمية من وقت معاوية، وكان مقامهم بالشام. ثم انتقلت الولاية إلى ولد العباس فصار مقامهم بالعراق وهم الذين بنوا بغداد فولي أبو العباس واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ثم أخوه أبو جعفر الدوانيقي يقال له المنصور، ثم ابنه محمد بن عبد الله الذي يقال له المهدي، ثم ابنه موسى بن محمد، ثم ابنه الآخر يقال له هرون بن محمد الذي يقال له الرشيد بن محمد، ثم محمد بن هرون فلم يستقر عليه الأمر، ثم عبد الله بن هرون الذي يقال له المأمون.
الباب الرابع عشر بعد المائة: فيما يستحب من الأسماء
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((ما بعث الله رسولاً إلا كان حسن الوجه حسن الاسم حسن الصوت وكان يكتب إلى الآفاق إذا أبردتم إلي بريداً فأبردوا حسن الوجه حسن الاسم)) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: ((كنت أحب الحرب فلما ولد لي الحسن سميته حرباً، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: بل هو الحسن، فلما ولد لي الحسين سميته حرباً، فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال: بل هو الحسين، ((ثم قال صلى الله عليه وسلم : سميتهما باسم ابني هرون شبر وشبير)) وعن سعيد بن المسيب ((أن جده حزن بن بشير دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ فقال له: حزن بن بشير، قال بل أنت سهل، قال لا أغير اسمي عما سمانيه أبواي، قال سعيد بن المسيب لم تزل تلك الحزونة فينا إلى هذا اليوم)) وروي عن المهلب بن أبي صفرة عن أبيه ((أنه دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأله عن اسمه ونسبه فقال: أنا سارق بن قاطع بن ظالم بن فلان بن فلان حتى انتهى إلى جلند الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً، فقال المهلب: وكان على أبي إزار قد صبغه بالزعفران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع السارق والقاطع فأنت أبو صفرة، فقال يا رسول الله لم يكن أحد أبغض إلي منك والآن ليس أحد أحب إلي منك وإنه قد ولدت لي أمس بنت وقد سميتها صفرة حتى تكون كنيتي موافقة لاسمها)) وكانت العرب إذا ولد لأحدهم الولد كان يكنى به وامرأته أيضاً فيقال للزوج أبو فلان وللزوجة أم فلان كما قيل أبو سلمة وأم سلمة وأبو الدرداء وامرأته أم الدرداء وأبو ذر وامرأته أم ذر، وكان الرجل لا يكنى ما لم يولد له ولد. وروي عن معمر بن خثيم قال لي أبو جعفر بن محمد بن علي ما تكنى يا معمر؟ قلت: ما كنيت ولا ولد لي قال: وما يمنعك أن تكنى؟ فقلت: حديث بلغني عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: من اكتنى ولم يولد له ولد فهو أبو جعدة قال ليس هذا من حديث علي إنا لنكني أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ولا تسموا بأهلي)) ويقال هذا منسوخ لأن علياً رضي الله تعالى عنه سمى ابنه محمداً وهو ابن الحنفية وكناه بأبي القاسم، وقد استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك فأذن له. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((سموا أبناءكم بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن)). (قال الفقيه) رحمه الله: لا أحب للعجم أن يسموا عبد الرحمن أو عبد الرحيم لأن العجم لا يعرفون تفسيره فيسمونه بالتصغير فيصير ذلك مستنكراً، فإذا كان كذلك لا ينبغي أن يسمى بمثل ذلك الاسم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أنه نهى أن يسمى المملوك نافعاً أو يساراً أو بركة)) قال الراوي: لأنه لا يحب أن يقال ليس ههنا بركة وليس ههنا نافع إذا طلبه إنسان. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال لرجل ما اسمك؟ قال: جمرة قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب قال: ابن من؟ قال: ابن حرقة؟ قال: أين تسكن؟ قال: بالحرة قال له عمر: ويلك أدرك أهلك فقد أحرقوا فرجع الرجل إلى أهله فوجدهم قد احترقوا جميعاً. وروى مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((من يحلب هذه اللقحة؟ يعني الناقة، فقال رجل: أنا، قال: ما اسمك قال: مرة قال: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه الناقة اللقحة، فقام رجل آخر فقال: أنا قال: ما اسمك قال حرب؟ قال: اجلس ثم قال: من يحلب الناقة اللقحة؟ فقام رجل فقال: أنا قال: ما اسمك؟ قال: يعيش، قال له: أما أنت فاحلب فحلبها)).
الباب الخامس عشر بعد المائة: في ذكر الأيام والشهور
(قال الفقيه) رحمه الله: اعلم أن السنة اثنا عشر شهراً أولها محرم وإنما سمي محرماً لأن القتال فيه كان محرماً فيما بينهم في الجاهلية. ثم صفر وإنما سموه صفراً لأن الناس قد أصابهم المرض فاصفرت وجوههم فسموه صفراً لصفرة الوجوه فيه، ويقال سمي صفراً لأن إبليس صفر بجنوده حين خرج محرم وحل لهم القتال. ثم شهر ربيع الأول لأنه صادف أول الخريف فسمي الربيع الأول. ثم شهر ربيع الآخر لأنه صادف الخريف فسموه باسم الربيع. ثم جمادى الأولى. ثم جمادى الأخرى، وإنما سميا بذلك لأنهما صادفا أيام الشتاء حين اشتد البرد وجمد الماء. ثم رجب وإنما سموه رجباً لأن العرب كانت ترجبه. أي تعظمه، وكانوا يسمونه أصم لأنهم كانوا لا يسمعون فيه صوت الحرب. ثم شعبان وإنما سمي شعبان لأن قبائل العرب كانت تتشعب فيه أي تتفرق فيه، ويقال إنما سمي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان. ثم شهر رمضان ويقال إنما سموه رمضان لأنه صادف أيام الحر والرمضاء الحر الشديد ويقال إنما سمي رمضان لأنه ترمض فيه الذنوب. ثم شوال إنما سموه شوال لأن قبائل العرب كانت تشول فيه: أي تبرح عن موضعها، ويقال: إنما سموه شوال لأنهم كانوا يصيدون فيه من قولك أشليت الكلب إذا أرسلته لصيد. ثم ذو القعدة وإنما سموه ذا القعدة لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الحرب. ثم ذو الحجة لأنهم كانوا يحجون فيه. فهذه أسامي الشهور العربية بالشهور القمرية التي يعرف حسابها بدوران القمر، وهو حساب المسلمين لآجالهم وعباداتهم وأسماء الشهور الشمسية التي يعرف أسماؤها بدوران الشمس بحساب الرومية بلسان السريانية ويجعلون ابتداءها من أيام المهرجان. فأول الشهور تشرين الأول. ثم تشرين الثاني. ثم كانون الأول. ثم كانون الثاني. ثم شباط ثم آذار. ثم نيسان. ثم أيار ثم حزيران. ثم تموز، ثم آب. ثم أيلول. وأسماؤها بالفارسية ابتدؤها من نيروز أولها فروردين. ثم أرد بهشت، ثم خرداد. ثم يبر. ثم مرددا. ثم شهر بود. ثم مهر. ثم أبان. ثم خمسة أيام لا تعد من أيام السنة يقال لها الأيام المسروقة بينهم ثم أدر. ثم دي. ثم بهن. ثم اسفندار مديور. فكلما مضى من شهر من شهور الفارسية عشرة أيام دخل شهر من الشهور الرومية، وكل سنة يتأخر النيروز بيوم واحد من أيام الجمعة، فإن كان النيروز في هذه السنة يوم الخميس يكون في السنة القابلة يوم الجمعة، وفي السنة الثالثة يوم السبت، وما كان من شهور العربية ينقص في كل سنة عشرة أيام وربنا تنقص أحد عشر يوماً فستة منها ينقصان الشهور والأربعة هي الأيام المسروقة. واليوم والليلة أربع وعشرون ساعة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وكلما انتقص من الليل ازداد في النهار، وكلما انتقص من النهار ازداد في الليل، وأطول ما يكون النهار في نصف حزيران فيكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات وهو أقصر ما يكون في الليل، ثم يأخذ النهار في النقصان ويزاد في الليل حتى إذا كان أيام المهرجان استوى الليل والنهار فيصير كل واحد منهما اثنتي عشرة ساعة، حتى إذا كان بعد سبعة عشر يوماً من كانون الأول صار الليل خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون والنهار تسع ساعات وذلك أقصر ما يكون، ثم يأخذ الليل في النقصان حتى إذا كان قبل النيروز بسبعة عشر يوماً أو أقل استوى الليل والنهار، ثم يزداد إلى النصف من حزيران فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} وقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب السادس عشر بعد المائة: في صفة طبائع الإنسان
(قال الفقيه) رحمه الله: اعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق فركب فيه أربعة من الطبائع: اليبوسة، والرطوبة، والحرارة، والبرودة، وخلق في النفس أربعة أشياء لصلاح الجسد فلا يقوم الجسد إلا بها: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم. فجعل مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء، ومسكن الحرارة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم. فأيما جسد اعتدلت فيه هذه الأربعة كملت صحته فإذا علا واحد منها على غيره دخل السقم من ناحيته، فأيهن قل دخل الضعف من جهته، ثم قد تصير هذه الطبائع فطرة في الأخلاق فمن اليبوسة العزم، ومن الرطوبة اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناء، فإن زاد واحد منها أو قل دخل الفساد من جهته، وقد جعل الله تعالى في موضع الرأس من كل شيء نوعاً من المنفعة النظر في العين، والسمع في الأذن، والشم في الأنف، والكلام في اللسان، وكذلك في الجوف جعل لكل شيء معدناً فمعدن الضحك والسرور الطحال، وموضع الخوف والهيبة الرئة، وموضع الغضب الكبد، ومعدن العلم والفهم القلب ومعدن العقل الدماغ، وموضع الحزن والفرح الكلية، ويقال الصدر. وخلق في الجسد ثلثمائة وستين عرقاً للشد والوصل وخلق فيها مائتين وأربعين عظماً لمصلحة البدن فذلك قوله تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وقال علي رضي الله تعالى عنه: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة. وقال: ينتهي طول الغلام بإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين سنة، فلا يزيد بعد ذلك في عقله إلا التجاريب. وقال بعض الحكماء: موضع العقل في الدماغ، وموضع الحمق في العينين، وموضع الباطل في الأذنين، وموضع الحياء في الوجه، وطريق الروح في الأنف، وموضع الحياة في الفم، وموضع الهموم في الصدر، وموضع الضحك في الطحال، وموضع الرحمة والغضب في الكبد، وموضع الحزن والسرور في القلب، وموضع الكسب في اليدين، وموضع التعب والنصب في الرجلين والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب السابع عشر بعد المائة: في السباحة والفروسية والرمي
(قال الفقيه) رحمه الله: وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: علموا أولادكم السباحة والفروسية والرمي ومروهم بالاختفاء بين الأغراض. وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((علموا أولادكم السباحة والرمي والمرأة المغزل)) وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وكل شيء يلهو به الرجل باطل إلا ثلاثاً: رميه بقوسه، وتأديبه فرسه وملاعبته مع أهله، فإنهن من الحق)) والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الثامن عشر بعد المائة: في النهي عن اقتناء الكلب
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((من اقتنى كلباً إلا لماشية أو لصيد نقص من أجره كل يوم قيراطان)) وروى عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من اقتنى كلباً إلا لماشية أو لصيد أو لزرع نقص من أجره كل يوم قيراطان)) قيل يا أبا عبد الرحمن إنما كنا نسمع قيراطاً. فقال سمعته أذناي ووعاه قلبي، والذي لا إله إلا هو يقول قيراطان. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من اقتنى كلباً إلا لماشية أو لصيد أو لزرع نقص من أجره كل يوم قيراط)). (قال الفقيه) رحمه الله: ففي الخبر دليل أنه إذا أمسك الكلب للحاجة فلا بأس به وإن أمسكه للإغراء فهو مكروه. وروى إبراهيم النخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأهل بيت الوبر اقتناء الكلب. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: إن آدم صلى الله تعالى عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض قال إبليس للسباع: إن هذا عدوكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا: أنت أشجعنا وجعلوه أميراً عليهم، فلما رأى آدم ذلك تحير، فجاءه جبريل عليه السلام وقال له: امسح يدك على رأس الكلب ففعل ذلك، فلما رأت السباع أن الكلاب قد ألفت آدم تفرقوا فاستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقي معه ومع أولاده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب التاسع عشر بعد المائة: في الكلام في أمر المسخ
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في أمر الخلق الذين مسخهم الله تعالى. قال بعضهم: إن القردة والخنازير من نسل قوم قد مسخهم الله، وكذلك الفأرة والدعموص وغيرهما من الأشياء التي جاءت فيها الآثار أنهم مسخوا، وقال عامة أهل العلم: هذا لا يصح بل كانت القرود وغيرها قد خلقوا قبل ذلك والذين مسخهم الله تعالى قد هلكوا ولم يبق لهم نسل لأنهم قد أصابهم السخط والعذاب فلم يبق لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. وروى المسور بن الأحنف قال: قيل لعبد الله بن مسعود أرأيت القردة والخنازير من نسل القردة والخنازير التي كانت قبلها؟ قال عبد الله: لم تمسخ أمة فجعل لها نسل، ولكنها من نسل قردة وخنازير كانت قبل ذلك. وتكلموا في أمر الزهرة وسهيل وهما نجمان. قال بعضهم: هما ممسوخان وقد روي ذلك عن ابن عباس. وروى عطاء أن ابن عمر كان إذا رأى سهيلاً شتمه وإذا رأى الزهرة شتمها وقال: إن سهيلاً كان عشاراً باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت فمسخهما الله تعالى شهاباً. وقال مجاهد: كان ابن عمر إذا قيل له طلعت الحمرة قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً. يعني الزهرة، وقال بعضهم: هذا لا يصح فإن هذه النجوم خلقت حين خلقت السماء لأنه روي في الخبر أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارات: زحل والمشتري وبهرام والزهرة وعطارد والشمس والقمر، وهذا معنى قوله تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} وجعل مصلحة الدنيا بهذه السبعة الدوارات ولكل واحد منها سلطان في نوع من المصلحة فجعل سلطان الزهرة الرطوبة، فثبت بهذا أن قول من قال إنهما ممسوخان لا يصح فإن الزهرة وسهيلاً قد كانا قبل خلق آدم عليه السلام، والذي روي عن ابن عمر أن سهيلاً كان عشاراً باليمن وإن الزهرة فتنت هارون وماروت فمسخهما الله شهاباً فهو كما قالوا كان رجل اسمه سهيل وامرأة اسمها زهرة فمسخهما الله تعالى شهاباً ولكنهما لم يبقيا فهلكا وصارا إلى النار. وأما الذي قيل كان يشتمه فاحتمل أنه لم يشتم الكوكب وإنما شتم سهيلاً الذي كان عشاراً، وكذلك في الزهرة وإنما شتم المرأة التي كان اسمها الزهرة ولم يشتم الكوكب والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب العشرون بعد المائة: في الإيمان
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس أن يقول لنفسه أنا مؤمن إلا أن يستثني فيه فيقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. قالوا: لأن هذا اللفظ مدح ولا يجوز أن يمدح نفسه كما لا يجوز أن يقول أنا زاهد وأنا عابد وكذلك لا يجوز أن يقول أنا مؤمن. قال: ولأن الله تعالى وصف المؤمنين بعلامات فمن لم توجد فيه تلك العلامات لا يحوز أن يسمى مؤمناً وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} الآية، ولأن الله تعالى قال: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} فنهاهم أن يسموا أنفسهم مؤمنين وأمرهم أن يسموا أنفسهم مسلمين. وقال غيرهم: لا بأس به لما روي عن عطاء أنه قال: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: نحن المؤمنون المسلمون. وروى زياد بن علاقة عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: إذا سئل أحدكم عن إيمانه فلا يشكن فيه. وقال إبراهيم التيمي ما يكرهن أحدكم أن يقول أنا مؤمن فإن كان صادقاً فليؤجرن على صدقه وإن كان كاذباً فما دخل عليه من كفره أشد من كذبه لأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} وقال في موضع آخر: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} فمن شك أنه مؤمن ينبغي أن لا يلزمه الصيام والصلاة لأن الله تعالى أوجب ذلك على المؤمنين خاصة. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: لو قال أموت مؤمناً إن شاء الله تعالى لا يجوز لأن الاستثناء يستعمل للمستأنف ولا يستعمل للحال ولا للماضي لأنه لا يصح في الكلام أن يقال هذا ثوب إن شاء الله تعالى وهذه إسطوانة إن شاء الله. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إنه من عقل الرجل أن يقول أفعل كذا إن شاء الله ومن حمقه أن يقول قد فعلت كذا إن شاء الله، ولأنه لو استثنى في الطلاق والعتاق فإنه لا يقع الطلاق والعتاق فإذا استثنى في إيمانه يخاف عليه الخلل والقصور في إيمانه، وقد قال القائل:
وما الدهر إلا ليلة ونهارها # وما الناس إلا مؤمن ومكذب
فإن أنت لم تؤمن ولم تكن كافراً # فأين إذاً يا أحمق الناس تذهب
الباب الحادي والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان يزيد أم لا
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في الإيمان. قال بعضهم: يزيد وينقص وقال بعضهم: لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم: يزيد ولا ينقص، وبه نأخذ. أما حجة من قال: يزيد وينقص فقوله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} وقال في موضع آخر: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} الآية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أشفع يوم القيامة فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان، ثم أشفع فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من الإيمان، ثم أشفع فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان)) وأما حجة من قال بأن يزيد ولا ينقص فروي عن معاذ بن جبل أنه كان يورث المسلم من الكافر ولا يورث الكافر من المسلم، وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الإسلام يزيد ولا ينقص)). وفي روية أخرى: ((الإيمان يزيد ولا ينقص)) وأما حجة من قال بأنه لا يزيد ولا ينقص فما روى أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ((جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله الإيمان هل يزيد وينقص؟ قال عليه الصلاة والسلام: الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر)) وروي عن عون بن عبد الله أنه قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول على المنبر: لو كان الأمر على ما يقول هؤلاء الشكاك الضلال إن الذنوب تنقص الإيمان لأمسى أحدنا وكان لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أم ما بقي منه، ومعنى قوله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} قال أهل التفسير: يعني ليزدادوا يقيناً وقد ذكر الإيمان في القرآن على وجوه، وإنما تعرف معانيها بقول أهل التفسير. وقال أبو مطيع: إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد ليس فيهما زيادة ولا نقصان. وروى هشام عن أبي يوسف أنه قال: أنا مؤمن حقاً وأنا مؤمن عند الله، ولا أقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام. وقال محمد بن الحسن: أكره أن يقول الرجل إيماني كإيمان جبريل، ولكن ليقل آمنت بالذي آمن به جبريل وميكائيل ولا يقول إيماني كإيمان أبي بكر، ولكن يقول آمنت بالذي آمن به أبو بكر. وقال محمد بن الحسن: كان سفيان الثوري يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ثم رجع وترك الاستثناء فقال: أنا مؤمن. وقال محمد بن الحسن: لو كان الأمر إلي لملأت السجون بدل اللصوص ممن يقول إيماني كإيمان جبريل وأنا أقول آمنت بالذي آمن به جبريل عليه السلام.
الباب الثاني والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان عمل أم إقرار
(قال الفقيه) رحمه الله: تكلم الناس في الإيمان: قال بعضهم: الإيمان قول وعمل، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ومن تبعهما. وقال بعضهم: الإيمان هو المعرفة بالقلب، وهو قول جهم بن صفوان ومن تابعه. وقال بعضهم: الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب والعمل من شرائعه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وبه نأخذ. فأما من قال إن الإيمان قول وعمل فلأن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً لقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وأما من قال إن الإيمان قول فلأن الله تعالى قال: {فأثابهم الله بما قالوا} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) وأما من قال: إن الإيمان معرفة بالقلب فلأنه لو اعتقد الكفر ولم يتكلم به فإنه يصير كافراً فكذلك إذا اعتقد الإيمان ولم يتكلم به فإنه يصير مؤمناً. وأما من قال: إن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب فلأن جبريل عليه السلام دخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى، فقال جبريل: صدقت، فكان السائل جبريل والمجيب محمد صلوات الله عليهما بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم فأراد تعليمهم وإظهار الدين والشريعة، ولأن الله تعالى قال: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} فثبت أنه يصير مؤمناً بالقول ثم القول لا يصح إلا بالتصديق لأن الله تعالى ذكر في قصة المنافقين فقال: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} ثم قال: {وما هم بمؤمنين} فنفى عنهم الإيمان لأنه لم يكن منهم مع القول التصديق فإذا وجد القول مع التصديق صار مؤمناً. وقال محمد بن الفضل: سمعت يحيى بن عيسى قال: سمعت مسلم بن سالم يقول: ما يسرني أن ألقى الله تعالى بعمل من مضى وبعمل من بقي وأنا أقول الإيمان يزيد وينقص أو قول أو عمل، والله أعلم.
الباب الثالث والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان مخلوق أم لا
اختلف الناس في الإيمان. قال بعضهم: هو مخلوق، وقال بعضهم: هو غير مخلوق فأما من قال بأنه مخلوق فقد احتج بأن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب، والإقرار والتصديق من أفعال العباد لأن الإقرار فعل اللسان والتصديق فعل القلب، والعبد مع جميع أفعاله مخلوق لأن الله تعالى قال: {والله خلقكم وما تعملون} وأما من قال بأنه غير مخلوق فقد احتج بأن الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وقول أشهد أن لا إله إلا الله كلام الله وكلام الله غير مخلوق فمن زعم أنه مخلوق فقد زعم أن القرآن مخلوق. قال الفقيه رحمه الله: فالحاصل أنه لا اختلاف في هذه المسألة لأن من قال إنه مخلوق أراد فعل العبد ولفظ لسانه ولا نأخذ به. ومن قال إنه غير مخلوق أراد به كلمة الشهادة وبه نأخذ، والله أعلم.
الباب الرابع والعشرون بعد المائة: في الكلام في القرآن
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: تكلم الناس في القرآن. قال بعضهم: هو مخلوق وهو مكتوب في المصاحف، وهو قول بشر المريسي وحسين النجار ومن تابعهما. وقال بعضهم: هو غير مخلوق وهو غير مكتوب في المصاحف، وهو قول أبي عبد الله بن كرام والكلابي ومن تابعهما. وقال بعضهم: هو وحيه وتنزيله ولا نقول هو مخلوق ولا غير مخلوق، وهو قول الجهمي ومن تابعه. وقال بعضهم: هو مكتوب في المصاحف وهو غير مخلوق، وهو قول إبراهيم بن يوسف وشقيق الزاهد ومذهب مشايخنا. فأما من قال بأنه مخلوق فلأن الله تعالى قال: {الله خالق كل شيء} وقال: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} وقال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} وأما من قال بأنه غير مخلوق فذهب على ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} قال غير مخلوق. وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال في قول الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} قال الخلق هو المخلوق والأمر هو القرآن، وهو غير مخلوق ولا تباين فيه. وروى محمد بن أبي بكر الملائي عن أبي عبد الله محمد بن جعفر عن محمد بن الأزهر قال: سمعت أبا بكر محمد بن عسكر ببغداد يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله، ومن قال باللفظ ووقف فهو جهمي. وروي عن سفيان الثوري أنه قال: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر. وروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجلاً سأله عمن قال القرآن مخلوق قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر فاقتلوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: ((أعوذ بكلمات الله التامات كلها)) وقد نهى عن الاستعاذة بغير الله فلما استعاذ بكلام الله ثبت أنه غير مخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تغني من شيء. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أول شيء خلق الله تعالى القلم فلو كان كلامه مخلوقاً لقال ابن عباس أول شيء خلق الله القول أنه خلق الأشياء بقوله كن. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: ترك المنازعة والخوض في هذه المسألة ونحوها أفضل من غير أن يقول بالخلق أو بالوقف، لأن الجدال والخصومة فيه أمر صعب فالسكوت عنه أسلم لأمر دنياك وأمر آخرتك.
الباب الخامس والعشرون بعد المائة: في الكلام في الرؤية
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: تكلم الناس في الرؤية. قال بعضهم: لا يرى الباري سبحانه وتعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة وقال بعضهم: يراه أهل الجنة في الآخرة بغير كيف ولا تشبيه كما أنهم يعرفونه في الدنيا بغير تشبيه وكذلك أهل الجنة يرونه بغير كيف ولا تشبيه كما شاء الله سبحانه وتعالى وبه نأخذ، وهذا القول أصح وأبعد من البدعة. فأما من قال: إنه سبحانه لا يرى فذهب إلى قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} الآية وقوله تعالى لموسى عليه السلام: {لن تراني} وأما من قال بالرؤية فاحتج بقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناظرة، إلى ربها ناظرة} وقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} الآية، قال ابن عباس: الزيادة النظر إلى الله بلا كيف، وقال في آية أخرى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وروى جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم تلا: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها}. (قال الفقيه) رحمه الله: سمعت محمد بن الفضل قال: سمعت فارس بن مردويه قال: سمعت محمد بن الفضل يقول: قال علي بن عاصم: أجمع أهل السنة أن الله تعالى لم يره أحد من خلقه في الدنيا وأن أهل الجنة يرونه في الآخرة، والله أعلم.
الباب السادس والعشرون بعد المائة: في القول في الصحابة
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يحسن القول في الصحابة ولا يذكر أحداً منهم بسوء ليسلم دينه. وروى عبد الله بن مغفل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر، والله لو شئت لسميت الثالث. قال بعضهم: إنما عنى به عثمان وقال بعضهم: إنما عنى به نفسه، وقال محمد بن الفضل: أجمعوا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. واختلفوا في عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما، فنحن نقول ثم عثمان ثم علي ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أخيار صالحون، لا نذكر أحداً منهم إلا بخير. وروي عن إبراهيم النخعي أنه سئل عن القتال الذي وقع بين الصحابة فقال: تلك دماء قد سلمت منها أيدينا فلا نلطخ بها ألسنتنا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن)) يعني حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم. وروى أبو إسحق الهمداني عن قصيع عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى أمرني أن أتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وعلياً ظهيراً أربعة أخذ الله ميثاقهم في أم الكتاب لا يحبهم إلا مؤمن تقي ولا يبغضهم إلا فاجر شقي فهم خلائف نبوتي وعقد ديني ودنياي وعصمة أمري ومعدن حكمتي فلا تقاطعوا ولا تحاسدوا)) وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((أبو بكر وزيري والقائم في أمتي بعدي وعمر حبيبي وعثمان مني وعلي أخي وصاحب لوائي)) وروى محمد بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم ((أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بأمر فقالت: أرأيت إن لم أجدك قال: إن لم تجديني فائتي أبا بكر)) وروي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله فقلت: من أهل السنة والجماعة؟ قال: ((من فضل أبا بكر وعمر وأحب عثمان وعلياً، ورأى المسح على الخفين، ولم يكفر أحداً من الأمة بذنب، وآمن بالقدر خيره وشره من الله عز وجل، ولا ينطق في الله بشيء، ولا يحرم نبيذ التمر)) والله أعلم.
الباب السابع والعشرون بعد المائة: في القول في القدر
(قال الفقيه) رحمه الله: إن استطعت أن لا تخاصم في مسألة القدر فافعل فإنه نهى عن الخوض فيها. وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)) وذكر في الخبر أن عزيراً النبي عليه السلام سأل ربه عن القدر فقال: يا رب إنك قدرت الخير والشر وتعاقبهم على الشر إن فعلوه، فأوحى الله تعالى إليه يا عزير لا تسألني عن هذه المسألة فإنك إن سألتني بعد ما نهيتك عن ذلك محوت اسمك من ديوان الأنبياء. وقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((القدر خيره وشره من الله تعالى)). وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ((أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى)) وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في ملأ من الناس، فلما دنوا سلما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال بعض القوم: يا رسول الله القدر خيره وشره من الله أم الخير من الله والشر منا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كلاهما من الله تعالى. قال أبو بكر: الحسنات من الله والسيئات منا، وقال عمر الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى، فتابع بعض القوم أبا بكر وتابع بعض القوم عمر، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: سأقضي بينكما بما قضى الله به بين جبريل وميكائيل، فأما جبريل فقال مثل مقالتك يا عمر، وأما ميكائيل فقال مثل مقالتك يا أبا بكر. قال جبريل: إذا اختلف أهل السماء واختلف أهل الأرض فهلم نتحاكم إلى إسرافيل، فقصا عليه القصة فقضى بينهما أن القدر خيره وشره من الله تعالى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهكذا أقضي بينكما ثم قال: يا أبا بكر لو شاء الله أن لا يعصى في أرضه لم يخلق إبليس)) والله أعلم.
الباب الثامن والعشرون بعد المائة: في الرفض
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: يهلك فيّ اثنان محب مفرط ومبغض مفرط. وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه: يخرج في آخر الزمان قوم ينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا لهم نبز يقال لهم الروافض، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يكون في آخر الزمان قوم ينبزون بالروافض يرفضون الإسلام ويلفظونه فاقتلوهم فإنهم مشركون)) وقالوا: من شتم هؤلاء: يعني الصحابة، فهو كافر، ومن أبغضهم فهو رافضي. ويقال: إن هرون الرشيد قتلهم بهذا الحديث. وقال عامر الشعبي: الرفض سلم الزندقة، فما رأيت رافضياً إلا رأيته زنديقاً.
الباب التاسع والعشرون بعد المائة: فيمن حضره العشاء وأقيمت الصلاة
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا وضع الرجل الطعام بين يديه وأقيمت الصلاة فلا بأس أن يفرغ من الأكل ثم يصلي إذا كان لا يخاف فوت الوقت، لأنه لو قام إلى الصلاة بعد ما أخذ في الطعام قبل أن يأكل يكون قلبه مشغولاً، فلو كان في الطعام وقلبه في الصلاة كان أفضل من أن يكون في الصلاة وقلبه مع الطعام، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حضرته الصلاة وأحضر العشاء فقال: نبدأ بالنفس اللوامة. وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا كان أحدكم على طعام فلا يعجلن حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة)) وروي عن عبد الله بن أرقم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا حضرت أحدكم الصلاة وحضر الغائط فابدأوا بالغائط)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يصلي أحدكم وهو زناء)) يعني به بول، والمعنى في ذلك أن قلبه يكون مشغولاً.
الباب الثلاثون بعد المائة: في كراهية الدخول على أهله من السفر ليلاً
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا رجع الرجل من سفره فإنه يستحب له أن يدخل على أهله نهاراً، ولا ينبغي أن يأتيهم ليلاً في حال غفلتهم. وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا جاء أحدكم من الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً)) وفي خبر آخر: ((أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجع من غزاة له وقال لأصحابه: لا يطرقن أحدكم على أهله ليلاً. فطرق اثنان فوجد كل واحد منهما مع امرأته رجلاً)). (قال الفقيه) وهذا النهي نهي استحباب وليس بنهي تحريم فالأفضل أن يعلم أهله حتى يتهيئوا له، وإن لم يعلم وقد دخل بغير علمهم فقد ترك السنة، ولا يكون حراماً، والله أعلم.
الباب الحادي والثلاثون بعد المائة: في الصلاة في رحله عند المطر
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا كان الرجل منزله بعيداً من المسجد فخاف على نفسه المطر أو خاف على ثيابه الفساد فلا بأس أن يصلي في بيته، وجاء في ذلك رخصة، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال)) وإنما رخص لهم في ذلك لأن نعالهم كانت عربية فلو خرجوا في المطر لفسدت نعالهم، وكان أيضاً في ثيابهم قلة فربما يؤذيهم البرد فرخص لهم في الصلاة في البيت. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مؤذناً كان يؤذن في يوم مطر، فقال له: قل في أذانك الصلاة في الرحال، فجعل الناس ينظرون إليه فقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا وجد البرد الشديد في السفر صلى في رحله، وأمر المؤذنين أن يؤذنوا بالصلاة ويقولوا في آخر ذلك صلوا في الرحال في الليلة المطيرة، والله أعلم.
الباب الثاني والثلاثون بعد المائة: في كراهية الجرس
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن ابن عمر عن أم حبيبة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة)). وروى خالد بن معدان: ((أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى راحلة عليها جرس فقال: تلك مطية الشيطان)). وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن امرأة دخلت عليها ومعها صبي على رجله جلاجل، فقالت: أخرجوا منفر الملائكة، فأخرجوه. وروى عامر بن عبد الله عن امرأة يقال لها ريحانة قالت: دخلت على عمر ومعي صبي في رجله أجراس، فقال عمر أخبري مولاك بأن هذا للشيطان. (قال الفقيه) رحمه الله: قد أجاز العلماء الجرس للدواب إذا كان فيه منفعة أو مصلحة والخبر إنما ورد في الذي هو للهو وأما إذا كانت فيه منفعة أو مصلحة فلا بأس به.
الباب الثالث والثلاثون بعد المائة: في التعزية
(قال الفقيه) رحمه الله: التعزية لصاحب المصيبة حسن وهو مأجور في ذلك. وقد جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حق المسلم على المسلم أن يعزيه إذا أصابته مصيبة)). وروى معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أن رجلاً من أصحابه غاب عنه فسأل عنه فقالوا إنه مات ابن له فقال: قوموا أن نعزيه فقمنا فعزيناه)) ولا بأس لأهل المصيبة أن يجلسوا في البيت أو في المسجد ثلاثة أيام والناس يأتونهم ويعزونهم. وقد روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((أنه لما بلغه قتل جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة جلس في المسجد والناس يأتونه ويعزونه)) ويكره الجلوس على باب الدار فإن ذلك عمل الجاهلية، ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك.
الباب الرابع والثلاثون بعد المائة: في المسابقة
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: لا بأس بالمسابقة. والمسابقة أن تجري الخيل لينظر أيها يسبق صاحبه، فإن كان ذلك بغير عوض فلا بأس به وإن استبقا على شرط العوض فهو على وجهين: إن قالا أينا يسبق صاحبه فله كذا فلا يجوز وهو قمار، وإن قال إن سبق فرسي فلي كذا وإن سبق فرسك فلا شيء لك، فهذا جائز فإن كان العوض من أحد الجانبين جاز وإن كان من الجانبين لا يجوز، وإن أرادا أن يجوز العوض في الجانبين فليدخلا بينهما محللاً وليقل إن سبق فرسي فلي عليك كذا وإن سبق فرسك فلك علي كذا وإن سبق هذا الثالث فلا شيء له، فهذا جائز إذا كان الثالث يعدو معهما وله قوة. وروى مجاهد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((لا تحضر الملائكة شيئاً من لهوكم إلا النضال والرهان)) يعني الرمي وسبق الخيل. وروي عن الزهري أنه قال: كانوا يستبقون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الخيل والركاب، ويستبق الرجال على أرجلهم. وروي عن أنس أنه قال: ((كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)). وروى هشام بن عروة عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سابق عائشة رضي الله تعالى عنها فسبقته، فلما أسنت وأخذها اللحم سابقها فسبقها، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((يا عائشة هذه بتلك)) وروى مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه قال: ليس برهان الحبل بأس إذا دخل فيها المحلل. (قال الفقيه) رحمه الله: الفائدة في المسابقة أن القوم كانوا يحتاجون إلى الغزو فكان في المسابقة إظهار الجلاد ورياضة النفس والاستعداد لأمر القتال. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((أنه سابق مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فسبق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر)). ومعنى قوله صلى أبو بكر، يعني كان رأس فرسه عند صلوى فرس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والصلوان موضع العجز.
الباب الخامس والثلاثون بعد المائة: في نثر السكر
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا نثر السكر في العرس أو نثر على الأمراء والعساكر. قال بعضهم: لا بأس بأن ينتهب، وقال بعضهم: لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز في العرس ولا يجوز في نثر الأمراء. فأما من كره ذلك فاحتج بما روى حميد عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النهبة وقال: ((من انتهب فليس منا)) وروى عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن المثلة والنهبة. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا نثر على الصبيان منع صبيانه عن النهب واشترى لهم مثل ذلك، وأما من قال بأنه لا بأس به فلأن صاحبه قد أباح ذلك. وروى عبد الله بن قرط قال: ((أتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخمس أو بست بدن فجعل البدن يزدلفن بأيهن يبدأ فنحرهن، فلما وجبت جنوبها قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلمة لم أفهمها، فسألت من بجنبي فقال: قال من شاء فليقطع)) يعني أباح له اللحم وأذن لهم بالنهب. وروي عن الحسن وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأساً بنهب السكر في العرس. وعن الشعبي أنه قال: إنما كره من النهبة ما أخذ من غير طيبة نفس صاحبه، وأما ما أخذ بطيبة نفس صاحبه فلا بأس به. وأما من أجاز في العرس وكره في نثر الأمراء فذهب إلى ما روى خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال: ((شهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ملاك شاب من الأنصار، فلما زوجوه جاءت الجواري بالأطباق عليها اللوز والسكر فأمسك القوم. قال: ألا تنتهبون؟ فقالوا: يا رسول الله إنك نهيت عن النهبة فقال تلك نهبة العساكر، وأما العرس فلا بأس به)). (قال الفقيه): وبهذا نأخذ إذا كان النثر في العرس، أو في وليمة، أو في رجل ذبح جزوراً وأباح لحمه للناس، أو قدم رجل من السفر فنثر عليه شيء فلا بأس بأن ينتهب منه، وإذا كان النثر على الأمراء مكروهاً فلا يجوز أن ينتهب لأن النثر عليهم بمعنى الرشوة، ألا ترى أن هدية الأمراء مكروهة وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((هدايا الأمراء غلول)) فكذلك النثر عليهم، وكذلك البقر إذا ذبح لأجل الأمير، فإنه يكره أخذ ذلك اللحم إلا لأهل السجن.
الباب السادس والثلاثون بعد المائة: في الهدية والمكافأة بها
(قال الفقيه) رحمه الله: اعلم أنه إذا أهدى إليك إنسان هدية فإن لم يكن الذي أهدى إليك ظالماً ولم يكن ماله حراماً فالأفضل أن تقبل الهدية وتكافئه بأفضل منه أو مثله فإن عجزت عن المكافأة بالمال فبالدعاء وحسن الثناء. وقد روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((من لم يشكر
الناس لم يشكر الله تعالى)) وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((من أهدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى يعلم أنكم قد كافأتموه)) وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية)) وروى أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((الهدية تذهب السمع والقلب والعداوة)). وروى عطاء الخراساني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تصافحوا فإن التصافح يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، فإن الهدية تذهب بالشحناء)). وروى جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((أشكر الناس لله تعالى أشكرهم لعباده، ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من أهدي إليه خبر فليجز عليه، فإن عجز عن جزائه فليثن عليه، فإن لم يثن عليه فقد كفر النعمة)) وروى ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه)). (قال الفقيه) رحمه الله: تكلم الناس في معنى هذا الحديث وتأويله. قال بعضهم: الحديث على ظاهره فكل من أهدي إليه هدية فجلساؤه شركاؤه، وقال أهل الفقه: الخبر على وجه الاستحباب يستحب له أن يشاركهم على سبيل الكرم والمروءة فإن لم يفعل فلا يجبر عليه. وروي عن أبي يوسف القاضي رحمه الله أنه أهدي إليه شيء فروى هذا الحديث بعض أصحابه فقال أبو يوسف: إن الحديث في الفاكهة ونحوها: قال الفقيه سمعت الفقيه أبا جعفر يقول: أهدي إلى أبي القاسم أحمد بن أحمد فذكر له هذا الحديث قال فيه: إنهم شركاء في السرور لا في الهدية ثم قال: الخبر في مثل أصحاب الصفة والخانقاهات، فأما إذا كان فقيهاً من الفقهاء اختص بهدية فلا شركة لأصحابه إلا أن يشركهم فيها كرماً وجوداً منه.
الباب السابع والثلاثون بعد المائة: في تشميت العاطس
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روى أنس بن مالك قال: ((عطس رجلان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقيل يا رسول الله شمت هذا ولم تشمت هذا فقال: إن هذا حمد الله وهذا لم يحمد الله)). (قال الفقيه): يستحب للعاطس أن يخفض صوته بالعطاس ويرفع صوته بالتحميد ليسمع الناس لأن التشميت إنما يجب عليهم إذا سمعوا بعد ما حمد. وروي عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عطس، فقال له ابن عمر: يرحمك الله إن كنت حمدت الله. وروي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عطس ثلاث عطسات فقد استقر الإيمان في قلبه)) وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((إن عطس الرجل فشمته، ثم إن عطش فشمته، ثم إن عطس فقل له: إنك لمضنوك)) قال عبد الله: لا أدري النهي بعد الثالثة أو الرابعة. وقال أبو هريرة: شمت العاطس ثلاثاً فإن زاد فهو مزكوم. وقال الشعبي: تشميت العاطس مرة كالسجدة يسجدها مرة فإن عاد لم يسجد. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ((أنه كان إذا عطس نكس رأسه وخمر وجهه وخفض صوته)). (قال الفقيه) رحمه الله: إذا عطس الرجل فحمد الله غيره فهو حسن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من سبق العاطس بالحمد لله أمن من الشوص واللوص والعلوص)) قال أهل اللغة: الشوص وجع الضرس، ويقال وجع الظهر، واللوص وجع الأذن، ويقال وجع الجنب، والعلوص وجع البطن.
الباب الثامن والثلاثون بعد المائة: في مداراة الناس
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للرجل أن يداري الناس ويترك المنازعة والخصومة ما أمكنه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر وملاحاة الرجال)) وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مداراة الناس صدقة)) وروى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس)) وقال بعض الحكماء: من عصى والديه لم ير السرور من ولده، ومن لم يستشر في الأمور لم يصل إلى حاجته، ومن لم يدار مع أهله ذهبت لذة عيشه، ويستحب للرجل إذا دخل منزله أن يسلم على أهله، ولا يتكلم حتى يستكمل الجلوس وإذا تكلم تكلم بالرفق والمداراة والمودة لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ((خيركم خيركم لأهله)) وقال الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف}، وعن سفيان الثوري أنه قال: إذا غضبت امرأتك وجهلت عليك فاضرب كفك بين كفيها وقل اخرج أيها الرجس الخبيث من جسد طيب فيخرج بإذن الله تعالى. وقال عمرو بن ميمون: ثلاثة من العواقر، وثلاثة لا يستجاب لهم، وثلاثة لا يدخلون الجنة. فأما العواقر فأمير إن أحسنت إليه لم يشكر لك وإن أسأت لم يغفر لك، وجار إن رأى منك حسنة لم يفشها وإن رأى سيئة لم يدفنها، وزوجة إن شاهدتها لم تقر عينك بها وإن غبت عنها لم تطمئن إليها. وأما الذين لا يستجاب لهم فرجل دعا على ذي رحم محرم منه، ورجل تداين بدين إلى أجل مسمى ولم يشهد عليه، ورجل يقول لزوجته اللهم أرحني منها يقول الله تعالى بيدك أمرها فإن شئت فطلقها وإن شئت فأمسكها. وأما الذين لا يدخلون الجنة فعاق والديه، ومدمن خمر، ومنان، والله أعلم.
الباب التاسع والثلاثون بعد المائة: في الأمثال
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما تكلم به مما لم يسبق إليه الإصار مثلاً فمن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا يجني على المرء إلا يده)) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((الشديد من غلب نفسه)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الآن حمي الوطيس)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ليس الخبر كالمعاينة)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((يرى الشاهد ما لا يرى الغائب)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ساقي القوم آخرهم شرباً)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لو بغى جبل على جبل لدكه الله تعالى)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الحرب خدعة)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((البلاء موكل بالمنطق)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((المسلم مرآة المسلم)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الناس كأسنان المشط)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الغنى غنى النفس)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ترك الشر صدقة)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((سيد القوم خادمهم)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((عدة المؤمن أخذه بالكف)) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((نية المؤمن خير من علمه)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يُرحم)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الدال على الخير كفاعله)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((حبك الشيء يعمي ويصم)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((كل معروف صدقة)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا يؤوي الضالة إلا الضال)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((السفر قطعة من العذاب)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((المؤمنون عند شروطهم)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا تفقهوا)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وعلى بغض من أساء إليها)) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((عدل الملوك أبقى للملك)) أي يبقى ملك العادل وإن كان كافراً ولا يبقى ملك الجاهل وإن كان مسلماً. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: قال بعض الحكماء: من أبصر عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن تعرى من لباس التقوى لم يستتر بشيء، ومن رضي برزق الله لم يحزن على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قطع به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيه، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورته، ومن نسي زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن كابد الأمور عطب ومن استغنى بعقل نفسه زل، ومن تكبر في الناس ذل، ومن تعمق في العلم مل، ومن فخر على الناس قصم، ومن سفه عليهم شتم، ومن صاحب الأراذل حقر، ومن جالس العلماء وقر، ومن دخل مدخل السوء اتهم، ومن تهاون بالدين ارتطم، ومن اغتنم أموال الناس افتقر، ومن انتظر العاقبة اصطبر، ومن جهل موضع قدمه مشى في ندامة، ومن خشي الله فاز، ومن لم يجرب الأمور خدع، ومن صارع أهل الحق صرع، ومن احتمل ما لا يطيقه عجز، ومن عرف أجله قصر أمله، ومن استعان بالجهل ترك طريق العدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقال جزية المسلم كراء بيته. وفك رقبته وفاء دينه، وذل رقبته دينه، وعذابه سوء خلق امرأته. وقال بعض الحكماء: لقاء الإخوان تلقيح العقول. وروى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها)). (قال الفقيه): إنما أراد بالأترجة أترجة أهل الحجاز يكون طعمها طيباً وريحها طيباً وهو حلو في الأكل وأما الأترجة التي في بلادنا فلا يكون لها طعم وإن كان ريحها طيباً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الأربعون بعد المائة: في العمارة والبناء
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس أن ينفق ماله في البناء واحتجوا بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا أراد الله بعبد شراً أهلك ماله في اللبن)) وفي خبر آخر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((من بنى فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة حامله على عنقه)) وروي عن الحسن البصري أن رجلاً قال له إني بنيت داراً فادخلها وادع بالبركة، فقام الحسن مع أصحابه ونظر في الدار فقال: أخربت دار نفسك وعمرت دار غيرك؟ غرك من في الأرض ومقتك من في السماء، فقال بعضهم: لا بأس به لأن الله تعالى قال: {تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله} فأخبر جل جلاله أن بناء القصور من نعم الله تعالى، وقال في آية أخرى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} وذكر أن ابناً لمحمد بن سيرين بنى داراً فأنفق فيها مالاً كثيراً فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال: ما أرى بأساً بأن يبني الرجل بماله ما ينفعه. وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى عليه أثر النعمة)) وآثار النعم البناء الحسن والثياب الحسنة، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك فكذا البناء. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: الأفضل أن يصرف ماله في أمر آخرته فإن أنفق في أمر دنياه في البناء والثياب فهو غير حرام بعد أن يجتنب ثلاثة أشياء: أولها أن لا يكتسب المال من حرام أو شبهة، والثاني أن لا يظلم مسلماً ولا معاهداً، والثالث أن لا يضيع فريضة من فرائض الله تعالى، والله تعالى أعلم.
الباب الحادي والأربعون بعد المائة: في المعاملة مع أهل الكفر
(قال الفقيه) رحمه الله: لا بأس للمسلم أن يكون بينه وبين أهل الذمة معاملة إذا كان مما لا بد منه، ولا بأس بأن يعوده وهو مريض ويلقنه كلمة التوحيد، وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً وعرض عليه الإسلام فأسلم ومات فلما خرج قال: ((الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار)) وروى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أنه دخل على نصراني وهو في النزع فقال له: تب إلى الله تعالى فلم يعمل لسانه فأومأ بعينيه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل يا رسول الله لم تبسمت؟ فقال: لما أومأ بعينيه قال الله تعالى: يا ملائكتي أشهدكم أني قبلته لما أومأ إلي ولا أضيع إيمانه)) ولا بأس للمسلم إذا كانت له قرابة من أهل الذمة أن يهدي إليهم ويكرمهم وقد أهدى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى خاله جارية وهو كافر بمكة. وروي عن صفية زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنها لما ماتت أوصت بالثلث لإخوتها من اليهود. وروي عن ميمون بن مهران أنه قال: من الناس من أحبه في الله وأبغضه لنفسي، ومن الناس من أبغضه في الله وأبغضه لنفسي، ومنهم من أحبه في الله وأحبه لنفسي. فأما الذي أحبه في الله وأحبه لنفسي فهو مؤمن ينفعني، وأما الذي أبغضه في الله ولنفسي فهو كافر يؤذيني، وأما الذي أبغضه في الله وأحبه لنفسي فكافر ينفعني أبغضه لكفره وأحبه لمنفعتي.
الباب الثاني والأربعون بعد المائة: فيما قيل في مباركة الغداء
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: في مباكرة الغداء ثلاث خصال: يطيب النكهة، ويطفئ المرة، ويزيد في المروءة. قيل: وكيف يزيد في المروءة؟ قال: إذا تغديت في منزلي لم تطمع نفسي في طعام غيري. وذكر أن رجلاً دخل على معاوية بن أبي سفيان وهو يتغدى باكراً فدعاه إلى الطعام الذي بين يديه فقال: قد فعلت، فقال له معاوية: إنك لنهم إذا فعلت قبل هذا الوقت. قال: ولكن فعلت ذاك لخصال أربع: أولها لخلوف الفم، والثاني إذا عطشت شربت، والثالث إذا أردت حاجة كنت فيها وأنا فارغ القلب، والرابع إذا رأيت طعاماً رأيته ومعه غرضي. ويقال الندامة أربعة: ندامة يوم، وندامة سنة، وندامة عمر، وندامة الأبد. فندامة اليوم أن يخرج من منزله قبل أن يتغدى ثم عرض له عارض فلم يقدر على الرجوع إلى منزله فيبقى نادماً في يومه كله، وأما ندامة السنة فهو أن الزارع ترك الزراعة في وقتها فبقي نادماً إلى آخر السنة، وأما ندامة العمر فهو أن يتزوج امرأة غير موافقة فيبقى في الندامة إلى آخر العمر، وأما ندامة الأبد فهو أن يترك أمر الله ويعصيه فهو في الندامة أبداً وفي الآخرة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: من أراد البقاء ولا بقاء -فليباكر الغداء وليخفف الرداء وليقل غشيان النساء، قيل ما خفة الرداء؟ قال: قلة الدين.
الباب الثالث والأربعون بعد المائة: في كلام الحكماء
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن يزيد الرقاشي أنه قال: خمسة لا تحسن من خمسة: الكذب من الأمراء، والحرص من الزهاد، والسفه من ذوي الأحساب، والبخل من ذوي الأموال، والاستطالة من الفقراء. (قال الفقيه) رحمه الله: هذه الأشياء لا تحسن من جميع الناس ولكن من هؤلاء أقبح. ويقال عشرة أشياء قبيحة من عشرة أصناف من الناس الحدة في السلطان، والبخل في الأغنياء، والطمع في العلماء، والحرص في الفقراء، وقلة الحياء في ذوي الأحساب، وإتيان الزهاد أبواب أهل الدنيا، والفتوة في الشيوخ، والجهل في العباد، والجبن في الغزاة، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. وقال بعض الحكماء: التفكر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، وأنقص الناس من ظلم من دونه، وقال إبراهيم بن زياد العدوي: ثلاث تفرح القلب وتنمي العقل: الزوجة الجميلة، والكفاف من الرزق، والأخ المؤنس. وقال بعض الحكماء: وجدت العلم في الطلب، والحكمة في البطن الجائع، ونور الإسلام في صلاة الليل، وهيبة الخلق في هيبة الخالق. وروى جعفر بن محمد أنه قال: تكلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بست كلمات لم يسبقه بها أحد في الجاهلية والإسلام. أولها: من لانت كلمته وجبت محبته، والثانية: ما هلك امرؤ عرف قدره، والثالثة: إن لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه، والرابعة سل من شئت فأنت أسيره، والخامسة أعط من شئت فأنت أميره، والسادسة استغن عمن شئت فأنت نظيره. ويقال مكتوب في بعض الكتب: الكفالة مذمومة ملعونة، وفيها ست خصال: الكفران، والخسران، والغرم، والصرم، والملامة، والندامة، فمن لم يصدق فليجربها حتى يعرف البلية من السلامة. وقال: مكتوب على باب ملك الروم إن في الكفالة ثلاث خصال: أولها: ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة. ويقال: أربعة أشياء إذا أفرط فيها الرجل أهلكته واستهوته: النساء، والصيد، والقمار، والخمر. وقال بعض الحكماء: من صحب ضالاً لم يصلح له دينه، ومن مدح فاسقاً ذهب ماء وجهه، ومن طمع في مال غيره نزعت البركة من ماله، ومن تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه. وقال بعض الحكماء: من قنع بما أعطي استغنى عما لم يعط، ومن عمل بما علم وفق لما لم يعلم، ومن ترك ما لا يعنيه تفرغ لما يعنيه، ومن ذكر ما أصابه لم يخاطر بنفسه. وقال بعض الحكماء: إياك والمزاح، فإن للمزاح سبع خصال مذمومة، أولها ذهاب الورع، والثاني ذهاب الهيبة، والثالث قساوة القلب، والرابع خيانة الجليس، والخامس يهدم الصداقة ويجلب العداوة، والسادس يذمه العقلاء ويستهزئ به السفهاء، والسابع عليه وزر من اقتدى به. ويقال أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يسئل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح في بيت من لا يستعمله، ومسجد بين قوم لا يصلون فيه، ومصحف في بيت من لا يقرؤه، ومال في يد من لا يتفقه، وخيل عند من لا يركب، وعلم الزهد عند من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود منه لسفر يوم القيامة. وقال رجل لابن عباس: يا ابن عباس ما رأس العقل؟ قال: أن يعفو الرجل عمن ظلمه، وأن يتواضع لمن دونه، وأن يتدبر ثم يتكلم. قال: وما رأس الجهل؟ قال: عجب المرء بنفسه، وكثرة الكلام فيما لا يعنيه، وأن يعيب الناس في الشيء الذي يأتيه. أي يفعله. قال: فما زين الرجال؟ قال: حلم من غير ضعف، وجود بغير ثواب، واجتهاد في العبادة بغير طلب من الدنيا. وقيل لبعض الحكماء: من العاقل قال: من تمسك بثلاثة أشياء فهو العاقل حقاً: من تمسك بالصدق والإخلاص فيما بينه وبين الله تعالى من الطاعات، ومن تمسك بالبر والمروءة فيما بينه وبين الخلق في المعاملات، ومن تمسك بالصبر والقناعة فيما بينه وبين الخلق في النوائب والبليات. وقال بعض الحكماء: الناس أربعة أصناف: جواد، وبخيل، ومسرف، ومقتصد. فالجواد الذي يجعل نصيب دنياه لآخرته، والبخيل الذي لا يعطي واحداً منهما نصيبه، والمسرف الذي يجعل نصيب آخرته لدنياه، والمقتصد الذي يعطي كل واحد منهما نصيبه. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بالدون من الدنيا مع الذين كما رضي أهل الدنيا بالدون من الدين مع الدنيا.
الباب الرابع والأربعون بعد المائة: في البول في حال القيام
(قال الفقيه) رحمه الله: رخص بعض الناس أن يبول الرجل قائماً وكرهه بعضهم إلا من عذر وبه نقول. فأما من أباحه فقد ذهب إلى ما روى حذيفة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه)) وأما من كرهه فقد ذهب إلى ما روي عن عائشة أنها قالت: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً منذ نزل عليه القرآن فمن أخبرك أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً فكذبه. وروى نافع عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما بلت قائماً منذ أسلمت. وروى ابن أبي بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أربعة من الجفاء: أن يبول الرجل وهو قائم، وأن يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، وأن يسمع النداء ولا يشهد مثل ما شهد، وأن أذكر عنده فلم يصل علي)) وأما الخبر الذي رواه حذيفة فاحتمل أنه فعله لعذر نجاسة المكان أو غير ذلك، فإذا احتمل ذلك فالأخذ بالأخبار المشهورة أولى. ويقال البول في حال القيام يكره ويحرم لأنه تشبه بالمشركين، وحرام على المسلمين التشبه بالمشركين لما روي ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
الباب الخامس والأربعون بعد المائة: في خصاء الحيوان
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس خصاء الحيوانات كلها واحتج بما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ((لا خصاء في الإسلام، ولا كنيسة سوى ما كان في القديم)) وذكر في قوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} يعني الخصاء. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه نهى أن تخصى الإبل والبقر والخيل، وكان ابن عمر يقول: منها نشأة الخلق فلا تصلح الإناث إلا بالذكور: يعني أن الله خلق الذكور والإناث للنسل، وفي الخصاء قطع النسل، فلا يجوز أن يقطع النسل. وقال بعضهم: يجوز خصاء الأنعام كلها إلا الخيل لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه نهى عن خصاء الفرس. وقال بعضهم: خصاء البهائم سوى بني آدم جائز، وبه نقول لأن في ذلك منفعة للناس والناس قد احتاجوا إلى ذلك، فكما يجوز ذبح الحيوانات للحاجة إلى لحمها فكذلك يجوز الخصاء إذا كان في ذلك منفعة للناس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين خصيين فلولا أن في ذلك الخصي من المنفعة ما لم يكن في غيره لما اختار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للأضحية الخصي، فلما اختار الخصي دل على أن الخصي أطيب لحماً وأكثر شحماً، فعند ذلك ثبت أن الخصاء جائز في الغنم فكذلك في سائر الحيوانات. وأما الخبر الذي قال: ((لا خصاء في الإسلام)) فالمراد به عند أكثر أهل العلم خصاء بني آدم. وقال بعضهم: معناه أن يخصي الرجل نفسه بيده فالنهي يصرف إليه. فإن قيل لم لا يجوز خصاء بني آدم وفيه أيضاً منفعة؟ قيل: لا منفعة فيه لأنه لا يجوز للخصي أن ينظر إلى النساء كما لا يجوز للفحل، وهكذا روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن غيرها أنه لا يجوز نظر الخصي كما لا يجوز نظر الفحل. وقد كره بعض الناس سمة البهائم لأن فيها تعذيباً من غير فائدة. وقال بعضهم: لا بأس بها إذا كان فيها منفعة وتكون علامة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشعر بدنة في صفحة سنامها فإنما أشعرها لأجل العلامة، فكذلك السمة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كي الحيوان على الوجه، ففيه دليل على أنه في غير الوجه جائز.
الباب السادس والأربعون بعد المائة: في السمر بعد العشاء
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس السمر بعد العشاء وأجازه بعضهم. فأما من كرهه فقد احتج بما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه نهى عن النوم قبل العشاء والحديث بعدها. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان لا يدع مسامراً بعد العشاء ويقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاة أو تهجداً. وأما من أباحه فقد ذهب إلى ما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ربما سمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليلة في الأمر الذي يكون من أمر المسلمين. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومسور بن مخرمة أنهما سمرا إلى طلوع الثريا. (قال الفقيه) رحمه الله تعالى: السمر على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون في مذاكرة العلم فهو أفضل من النوم. والثاني أن يكون السمر في أساطير الأولين والأحاديث الكاذبة والسخرية والضحك فهو مكروه. والثالث أن يتكلموا للمؤانسة ويجتنبوا الكذب والقول الباطل فلا بأس به والكف عنه أفضل للنهي الوارد فيه، وإذا فعلوا ذلك فينبغي أن يكون رجوعهم على ذكر الله تعالى والتسبيح والاستغفار حتى يكون ختمه الخير، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لا يسمر إلا المسافر أو المصلي. ومعنى ذلك أن المسافر يحتاج إلى ما يدفع النوم عنه للمشي فأبيح ذلك وإن لم يكن فيه قربة وطاعة، والمصلي إذا سمر ثم صلى فيكون نومه على الصلاة وختم سمره بالطاعة.
الباب السابع والأربعون بعد المائة: في عدد سور القرآن
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روي عن ابن مسعود أنه قال: جميع سور القرآن مائة واثنتا عشرة سورة. وإنما قال ذلك لأنه كان لا يعد المعوذتين: {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} من القرآن، وكان لا يكتبهما في المصحف، وكان يقر بأنهما منزلتان من السماء وهما من كلام رب العالمين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقي بهما ويعوذ بهما فاشتبه عليه أنهما من القرآن أم ليستا من القرآن فلم يكتبهما في المصحف. وقال مجاهد جميع سور القرآن مائة وثلاث عشرة سورة وإنما قال ذلك لأنه كان يعد سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة. وقال أبي بن كعب: جميع سور القرآن مائة وست عشرة سورة، وإنما قال ذلك لأنه كان يعد القنوت سورتين إحداهما اللهم إنا نستعينك إلى قوله من يكفرك، والأخرى اللهم إياك نعبد إلى قوله ملحق. وقال زيد بن ثابت: جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وهذا قول عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه وفي مصاحف أهل الأمصار وعامة العلماء على هذا والعمل به واجب، والله أعلم.
الباب الثامن والأربعون بعد المائة: في عدد آيات القرآن وكلماته
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: اختلف القراء في عدد آي القرآن، والمختار من الأقوال وهو عدد الكوفيين وهو العدد المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وقد قالوا غير هذا. وروى عبد الله بن مسعود أنه قال: آيات القرآن ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة آية. وروي عن ابن عباس أنه قال: جميع القرآن ستة آلاف ومائتان وست عشرة آية. وفي عدد إسمعيل بن جعفر المدني ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية. وفي عدد المكيين ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة آية وفي عدد البصريين ستة آلاف ومائتان وأربع آيات. وفي عدد أهل الشام ستة آلاف ومائتان وست وعشرون آية. وعن إبراهيم التيمي أنه قال: ستة آلاف وتسع وتسعون آية، وقال بعض أهل الشام: ستة آلاف ومائتان وخمسون آية. وفي قول العامة ستة آلاف وستمائة وست وستون آية. ثم اختلفوا في عدد كلمات القرآن قال حميد الأعرج: عدد كلمات القرآن سبعون ألفاً وستة آلاف وأربعمائة وثلاثون كلمة. وقال مجاهد بل هي سبعة وسبعون ألفاً ومائتان وخمسون كلمة. وقال إبراهيم التيمي: هي سبعة وسبعون ألفاً وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. وقال عطاء بن يسار: هي سبعة وسبعون ألفاً وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وهذا موافق للأول. وعن عبد العزيز بن عبد الله قال: عدد كلمات القرآن تسعة وسبعون ألفاً وأربعمائة وست وثلاثون كلمة. (قال الفقيه): قد قالوا هذه الأقاويل وقد قالوا غير هذا، والله أعلم.
الباب التاسع والأربعون بعد المائة: في عدد حروف القرآن
(قال الفقيه) رحمه الله: قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: حروف القرآن ثلثمائة ألف واثنان وعشرون ألفاً وستمائة وسبعون حرفاً، ولتالي القرآن بكل حرف عشر حسنات. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: جميع حروف القرآن ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفاً وستمائة وأحد وعشرون أو سبعون حرفاً. وقال مجاهد: ثلثمائة ألف وأحد وعشرون ألفاً وستمائة وأحد وعشرون حرفاً. وقال إبراهيم التيمي: هو ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفاً. وعن عبد العزيز بن عبد الله قال: حروف القرآن ثلثمائة ألف وأحد وعشرون ألفاً ومائتا حرف. وقيل القرآن ثلثمائة ألف وأحد وعشرون ألفاً ومائتا حرف. وعدد ما في القرآن من الألف ثمانية وأربعون ألفاً وثمانمائة واثنان وسبعون ألفا، وعدد الباء أحد عشر ألفاً وأربعمائة وثمان وعشرون حرفاً، وعدد التاء عشرة آلاف ومائة وتسعة وتسعون حرفاً، وعدد الثاء سبعة وعشرون ألفاً ومائتان وستة وسبعون حرفاً، وعدد الجيم ثلاث آلاف ومائتان وثلاثة وتسعون حرفاً، وعدد الحاء ثلاثة آلاف وتسعمائة وثلاثة وتسعون حرفاً، وعدد الخاء ألفان وأربعمائة وستة عشر حرفاً، وعدد الدال خمسة آلاف وستمائة واثنان وسبعون حرفاً، وعدد الذال أربعة آلاف وستمائة وسبعة وتسعون حرفاً، وعدد الراء أحد عشر ألفاً وسبعمائة وثلاثة وتسعون حرفاً، وعدد الزاي ألف وخمسمائة وتسعون حرفاً، وعدد السين خمسة آلاف وثمانمائة وأحد وتسعون حرفاً، وعدد الشين ألفان ومائتان وثلاثة وخمسون حرفاً، وعدد الصاد ألفان وثلاثة عشر حرفاً، وعدد الضاد ألف وستمائة وسبعة عشر حرفاً، وعدد الطاء ألف وأربعمائة وسبعون طاء، وعدد الظاء ثمانمائة واثنان وأربعون ظاء، وعدد العين تسعة آلاف ومائتان وعشرون حرفاً، وعدد الغين ألفان ومائتان وثمانية عشر حرفاً، وعدد الفاء ثمانية آلاف وأربعمائة وتسعة وتسعون حرفاً، وعدد القاف ستة آلاف وثمانمائة وثلاثة عشر حرفاً، وعدد الكاف تسعة آلاف وخمسمائة حرف، وعدد اللام ثلاثون ألفاً وأربعمائة واثنان وثلاثون حرفاً، وعدد الميم ستة وعشرون ألفاً ومائة وخمسة وثلاثون حرفاً، وعدد النون ستة وعشرون ألفاً وخمسمائة وستون حرفاً، وعدد الواو خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة وستة وثلاثون حرفاً، وعدد الهاء عشرة آلاف وسبعون حرفاً، وعدد لام ألف أربعة آلاف وسبعمائة وعشرون حرفاً، وعدد الياء خمسة وعشرون ألفاً وتسعمائة وتسعة عشرة حرفاً. (قال الفقيه) رحمه الله: وفي هذا اختلاف كثير لأن جماعة من القراء قالوا بهذا التفسير والله أعلم.
الباب الخمسون بعد المائة: في ذكر أثلاث القرآن وأرباعه وأنصافه
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن حميد الأعرج أنه حسب القرآن بالحروف فوجد النصف في سورة الكهف عند قوله تعالى: {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} الذي بعده {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} وقال غيره: وجدت النصف عند قوله تعالى: {تستطيع} وقد تم النصف الأول وصار {معي صبراً} في النصف الثاني. وقال بعض المتقدمين: حسبت القرآن بالحروف فوجدت النصف عند قوله تعالى في سورة الكهف {وليتلطف} فاللام الوسطى في النصف الأول والطاء والفاء في النصف الثاني. وقال بعضهم: عند قوله تعالى: {فهل نجعل لك خرجاً} وقال جماعة من القراء: النصف عند قوله تعالى: {لقد جئت شيئاً نكراً} وعند العامة النصف عند آخر السورة. وروي عن بعض المتقدمين أنه قال: الثلث الأول ينتهي إلى قوله تعالى في سورة التوبة: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا} والثلث الثاني عند قوله تعالى في سورة العنكبوت {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} والثلث الثالث إلى آخر السور. وعند العامة الثلث الأول عند قوله تعالى: {وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} والثلث الثاني عند قوله تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون}. وقال بعض المتقدمين: الربع الأول ينهي عند رأس ثلاث آيات من سورة الأعراف والربع الثاني عند آخر موضع في النصف، والربع الثالث عند قوله تعالى في سورة الصافات: {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} والربع الرابع إلى آخره، وعند العامة الربع الأول عند آخر سورة الأنعام، والثاني عند آخر سورة الكهف، والثالث عند آخر والصافات، والرابع إلى آخره، والله أعلم.
الباب الحادي والخمسون بعد المائة: في فضل المعلمين
(قال الفقيه) رحمه الله تعالى: روى زيد بن أسلم عن أبيه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحب العباد إلى الله تعالى بعد الأنبياء والشهداء المعلمون، وما في الأرض من بقعة بعد المساجد أحب إلى الله تعالى من البقعة التي يتلى فيها الكتاب. وعن إبراهيم النخعي قال: معلم الصبيان تستغفر له الملائكة في السموات والدواب في الأرض والطيور في الهواء والحيتان في البحار. ويقال إن الصبي إذا دخل الكتاب وتعلم بسم الله الرحمن الرحيم غفر الله بذلك لثلاثة أنفس الأب والأم والمعلم. قال أبو سعيد الخدري: من علم ابنه أو ابنته شيئاً من القرآن فله بكل درهم أعطاه للمعلم وزن جبل أحد، وإذا خرج الصبي من بيته إلى الكتاب يكثر الخير في بيت والده، ويقل الشر فيه، ويهرب الشيطان منه. وقال الحسن البصري: من علم ولده القرآن كساه الله يوم القيامة ثلاث حلل من حلل الجنة الحلة منها خير من الدنيا وما فيها والناس عراة، ثم له بكل حرف من كتاب الله درجة. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضلكم من تعلم القرآن ثم علمه)) وقال أبو عبد الرحمن فهذا الحديث أجلسني هذا المجلس، وكان يعلم الناس، وكان معلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وروى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: ((اللهم اغفر للمعلمين وأطل أعمارهم وبارك لهم في كسبهم ومعاشهم)) وعن أنس بن مالك في خبر آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أغن العلماء وأفقر المعلمين)). (قال الفقيه) والذي قال بارك لهم في كسبهم: يعني قوت يوم بيوم، والذي قال أفقرهم: يعني لا تكثر أموالهم، لأنه لو كثرت أموالهم لتركوا التعليم. (قال الفقيه) إذا أراد المعلم أن ينال الثواب ويكون عمله عمل الأنبياء فعليه أن يحفظ خمسة أشياء: أحدها أن لا يشارط على الأجرة ولا يستقصي بها، فكل من أعطاه شيئاً أخذه ومن لم يعطه شيئاً تركه، وإن شارط على تعليم الهجاء والكتابة وحفظ الصبيان جاز. والثاني أن يكون أبداً على الوضوء لأنه يمس المصحف في كل وقت وفي كل ساعة. والثالث أن يكون ناصحاً في تعليمه مقبلاً على أمره. والرابع أن يعدل بين الصبيان إذا تنازعوا وينصف بعضهم من بعض، ولا يميل إلى أولاد الأغنياء دون أولاد الفقراء. والخامس أن لا يضرب الصبيان ضرباً مبرحاً أي موجعاً ولا يجاوز الحد فإنه يحاسب به يوم القيامة. وروي عن حبيب بن أبي ثابت قال: المعلمون ولدوا بنجم الملوك يحاسبون كما يحاسب الملوك. وروي عن بعض المتقدمين أن ابنه أتاه يبكي فقال ما بالك؟ قال ضربي المعلم، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أنه قال: معلم صبيانكم شراركم عند الله أقلكم رحمة لليتيم وغلظة على المساكين. وروى بعض الصحابة أنه قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: معلم كتاب يكلف اليتيم ما لا يطيق من الأجور، ورجل يجلس عند السلطان يتكلم بهواه، ورجل يسأل الناس وهو مستغن عن السؤال. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: ما من رجل يحفظ القرآن إلا كان حقه في بيت المال كل سنة مائتي دينار أو ألفي درهم إن حرمه في الدنيا لم يحرمه في الآخرة، وإن حفظ نصف القرآن فمائة دينار أو ألف درهم يؤاخذ به الوالي على بيت المال يوم القيامة، فإن كان له حسنات أخذت من حسناته وإن لم تكن له حسنات أخذ من أوزار هذا العبد، فحمل على الوالي.
الباب الثاني والخمسون بعد المائة: في قلة الأكل
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي للرجل أن لا يكثر الأكل ولا يأكل فوق الشبع، فإن ذلك مذموم عند الله وعند الناس وهو مضر بالبدن. وقد روي عن بعض الأطباء أنه قيل له: هل تجد الطب في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قد جمع الله تعالى الطب كله في هذه الآية: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} يعني الإسراف في كثرة الأكل يتولد منه الأمراض. وقال الحسن البصري: حلية الرجل في أربعة أشياء: أن يكون قادراً على خلقه، ويتكلم بالوزن، ويعامل برأس ماله، ويحفظ المدخل والمخرج. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن من السرف أن يأكل الرجل كل ما يشتهي. وروي عن سمرة بن جندب: أن ابناً له أكل حتى أتخم فتقيأ فقال سمرة: لو مت ما صليت عليك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) ويقال في كثرة الأكل خمس خصال مذمومة: أولها أن يذهب خوف الله من قلبه. والثاني أن يثقل عليه الطاعات. والثالث إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة. والرابع إذا تكلم بالحكمة والموعظة لا يقع كلامه في قلوب الناس. والخامس يهيج منه الأمراض. ويقال: أربع خصال في الطعام فريضة، وأربع سنة، وأربع آداب واثنان دواء، واثنان مكروهة. فأما الأربع التي في الفريضة فأولها أن لا يأكل إلا من حلال. والثاني أن يعلم أنه من الله تعالى. والثالث أن يكون به راضياً. والرابع أن لا يعصي الله ما دامت قوة ذلك الطعام فيه. وأما الأربع التي هي سنة: فأولها أن يسمي الله تعالى في الابتداء. والثاني أن يحمده في الانتهاء. والثالث أن يغسل يديه قبل الطعام وبعده. والرابع أن يثني رجله اليسرى وينصب اليمنى عند الجلوس. وأما الأربع التي هي آداب: فأولها: أن يأكل ما يليه. والثاني: أن يصغر اللقمة. والثالث: أن يمضغها مضغاً ناعماً. والرابع: أن لا ينظر إلى لقمة غيره. وأما اللذان هما دواء فأحدهما أن يأكل ما سقط من المائدة. والثاني: أن يلحس القصعة. يعني ينقيها. وأما اللذان نهى عنهما فأحدهما أن لا يشم الطعام وأن لا ينفخ فيه ولا يأكله حاراً حتى يبرد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا بركة في الحار)) والله أعلم.
الباب الثالث والخمسون بعد المائة: في التحية
(قال الفقيه) رحمه الله: تحية المسلمين فيما بينهم التسليم وهو تحية أهل الجنة، فينبغي للمسلم أن يفشي السلام على جميع المسلمين فإن ذلك من أخلاق المؤمنين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأنس بن مالك: ((إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد من أهل في قبلتك إلا سلمت عليه تدخل حلاوة الإيمان قلبك، وإذا دخلت بيتك فسلم تكثر بركتك وبركة بيتك)) وذكر بعض الصالحين: أن رجلاً من أصدقائه استقبله وقال له: كيف أصبحت؟ فقال له الرجل: ويحك ما هذا فهلا قلت السلام عليكم فيكون لك عشر حسنات فأرد عليك فيكون لي عشر حسنات، وإذا اجتمعت عشرون حسنة يرجى عند ذلك نزول الرحمة؟ وسئل بعض الصالحين عن قول الرجل لصاحبه أطال الله بقاءك؟ قال: هذه تحية الدهرية وتحية المسلمين: السلام عليكم. وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يخرج إلى السوق فقيل له ماذا تصنع في السوق فأنت لا تبيع ولا تشتري؟ قال إنما أخرج لأجل السلام فكان لا يمر على أحد إلا سلم عليه وقال لقمان لابنه يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام يعني فسلم عليهم ثم اجلس ولا تنطق ما لم ترهم قد نطقوا فإن أفاضوا في خبر فادخل معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم، والله الموفق.
الباب الرابع والخمسون بعد المائة: فيما قيل في النكاح
(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)) وروي أن رجلاً جاء إلى الحسن البصري ليستشيره في تزويج ابنته فقال: زوجها من تقي فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. وقال الحسن: جهد البلاء أربعة: كثرة العيال، وقلة المال، وجار السوء، وزوجة تخونك. وقيل لمالك بن دينار حين ماتت أم يحيى يا أبا يحيى: لو تزوجت؟ فقال: لو استطعت لطلقت نفسي. وقال بعض الأعراب: التزوج فرح شهر، وترح دهر، ووزن مهر، وقطع ظهر، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح يستعف عن محارم الله، والمكاتب يريد الأداء)) وروي في الخبر أن رجلاً من بني إسرائيل قال: لا أتزوج حتى أشاور مع مائة إنسان فشاور مع تسعة وتسعين وبقي واحد، فعزم أن أول من لقيه غداً يشاوره ويعمل برأيه، فلما أصبح وخرج من منزله لقي مجنوناً راكباً على قصبة فاغتم لذلك ولم يجد بداً من الخروج من عهده فتقدم إليه فقال له المجنون: احذر فرسي كيلا تضربك، فقال له الرجل: احبس فرسك حتى أسألك عن شيء، فأوقفه فقال: إني قد عاهدت الله تعالى أن أستشير أول من يستقبلني وأنت أول من استقبلني فإني أريد أن أتزوج فكيف أتزوج؟ فقال له المجنون النساء ثلاثة: واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة عليك أو لك، ثم قال: احذر الفرس كيلا تضربك ومضى، فقال الرجل: إني لم أسأله عن تفسيره فلحقه فقال يا هذا احبس فرسك فحبسه فدنا منه وقال: فسره لي فإني لم أفهم مقالتك، فقال: أما التي لك فهي المرأة البكر فقلبها وحبها لك ولا تعرف أحداً غيرك، وأما التي عليك فالمتزوجة ذات ولد تأكل مالك وتبكي على الزوج الأول، وأما التي لك أو عليك فالمتزوجة التي لا ولد لها فإن كنت خيراً لها من الأول فهي لك وإلا فعليك، ثم مضى فلحقه الرجل فقال له: ويحك تكلمت بكلام الحكماء وعملك عمل المجانين؟ فقال: يا هذا إن بني إسرائيل أرادوا أن يجعلوني قاضياً فأبيت فألحوا علي فجعلت نفسي مجنوناً حتى نجوت منهم. وروي في الخبر أن رجلاً جاء إلى داود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أتزوج فكيف أتزوج؟ فقال: اذهب إلى سليمان ابني واسأله وكان سليمان ابن سبع سنين، فخرج الرجل إلى سليمان فوجده يلعب مع الصبيان وهو راكب على قصبة، فأتاه وقال له: إني أريد أن أتزوج فكيف أتزوج؟ قال سليمان عليه السلام: عليك بالذهب الأحمر والفضة البيضاء، واحذر الفرس كيلا تضربك فلم يفهم جوابه، وكان داود عليه السلام أمر الرجل أن يرجع إليه ويخبره بجوابه، فرجع إليه فأخبره بمقالته فقال له داود: أما الذهب الأحمر فالبكر، وأما الفضة البيضاء فالثيب الشابة، وقوله احذر الفرس كيلا تضربك: يعني إياك والعجوز أو ذات الأولاد. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً ويقول: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إن الله تعالى لعن أربعة وأمنت عليه الملائكة: رجل تحصر ولم يجعله الله حصوراً، وامرأة تذكرت وإنما جعلها الله امرأة، ورجل تحنث والله تعالى خلقه ذكراً، والذي يضل الأعمى عن الطريق)).
الباب الخامس والخمسون بعد المائة: في ابتداء أمر النبي صلى الله عليه وسلم
(قال الفقيه) رحمه الله: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ خمساً وعشرين سنة قال له عمه أبو طالب: يا ابن أخي والله مالي مال كثير فأزوجك من مالي ولا ترك أبوك شيئاً فهل لك أن تأتي خديجة بنت خويلد فتؤاجر نفسك منها فإنها تعطي من آجرته بكرين فلعلها تزيدك بكراً آخر فجاء به إلى خديجة فقالت: نعم حباً وكرامة وسأزيدك بكراً مع بكريك، فخرج مع غلام لها يقال له ميسرة إلى ناحية الشام في سوق بصرى فأصاب ربحاً كثيراً، وألقى الله تعالى محبته في قلب ميسرة، فلما رجعا من سفرهما ونزلا عند مر الظهران قال له ميسرة: يا محمد تقدم فبشر خديجة بما ربحنا فلعلها تزيدك بكراً آخر ففعل ذلك فزادته بكراً آخر، ثم إن ميسرة أخبر خديجة بأنه قد رأى من محمد صلى الله عليه وسلم في الطريق من العجائب والعلامات والبركات ما لا يحصى فوقعت محبته في قلب خديجة فرغبت فيه، فصنعت طعاماً ودعت رؤساء قريش وطلبت من أبيها أن يزوجها من محمد صلى الله عليه وسلم فأبى وغضب فسقته الخمر حتى سكر ثم طلبت منه فزوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أفاق الشيخ رأى على ثيابه أثر الخلوق فقال لها: ما هذا؟ فقالت: زوجتني من محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لها: قد خطبك أشراف قومك فأبيت ونكحت رجلاً ليس له مال قالت: إنه لفي حسب ونسب، ولا حاجة لي إلى ماله فبنى بها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة رأى شيئاً في الهواء كأنه ظلة تهوي إليه ففزع من ذلك فسمع صوتاً منه يقول: لا تخف فإني جبريل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة حزيناً وقال: إني رأيت شيئاً خفته، وقال لا تخف فإني جبريل وأخاف على نفسي الجنون، فقامت خديجة وأتت إلى ورقة بن نوفل وكان ابن عمها وكان قد قرأ الكتاب وتبصر في العلوم، فقالت: يا بن العم إن صاحبي قد رأى شيئاً وخاف منه وقال أنا جبريل، فقال ورقة بن نوفل: سبحان الله القدوس: جبريل ناموس الله الأكبر وسفيره إلى الأنبياء. (قال الفقيه): الناموس هو صاحب خبر الخير، والجاسوس هو صاحب خبر الشر، والسفير رسول يصلح بين الاثنين. قال ورقة: فإن كان صاحبك قد رأى هذا فهو نبي فرجعت إليه فأخبرته بذلك، فبينما هو جالس مع خديجة ذات يوم إذ رأى شخصاً بين السماء والأرض، فقال: يا خديجة إني أرى شخصاً بين السماء والأرض، فقالت: ادن مني فدنا منها فكشفت رأسها وجعلت رأسه على بطنها فقالت: هل تراه قال: لا، أعرض عني، فقالت له: أبشر فإنه ملك لو كان شيطاناً ما استحى، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام على جبل حراء إذ ظهر له جبريل عليه السلام وبسط له بساطاً كريماً، ثم مسح قدمه بالأرض فنبع الماء وعلمه الوضوء ثم صلى به ركعتين وأخبره بالنبوة وقرأ عليه: {اقرأ باسم ربك} إلى قوله: {ما لم يعلم} فرجع إلى خديجة وأخبرها بذلك فآمنت به، وعلمها الوضوء والصلاة ثم أسلم أبو بكر، ثم علي. وقال بعضهم: أسلم علي ثم أبو بكر ثم بلال، ثم أسلم رفقاء أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وغيرهم، فلما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه تم به أربعون رجلاً.
الباب السادس والخمسون بعد المائة: في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
(قال الفقيه) رحمه الله: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى منى ويعرض على أهل الموسم الإسلام فمر على نفر من أهل المدينة فعرض عليهم الإسلام، فأسلم معاذ بن عفراء وأسلم القوم كلهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لكم أن تنصروني حتى أبلغ رسالات ربي؟ فقالوا: يا رسول الله كان بيننا قتال في العام الأول ونحن متباغضون ولكن موعدك الموسم من العام الثاني، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى المدينة فدعوا الناس في السر فلم تأت سنة حتى أسلم أهل بيت كبير في المدينة، فلما حضر الموسم خرج من المدينة ناس كثير ونزلوا بمنى فخرج منهم سبعون رجلاً من الأنصار وامرأة فنزلوا بقعة من منى عن يمين الجمرة، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالهم ومعه العباس بن عبد المطلب فقاموا إليه وحيوه بالسلام وسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً وأنا آخذ منكم النقباء كما أخذ موسى من قومه، فبايعوه وقالوا: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك؟ قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم، قالوا: فإن فعلنا فما لنا؟ قال: لكم الجنة فقالوا: ربح البيع، فصاح إبليس لعنه الله بمنى فقال: يا معشر قريش هذا محمد يحالف أهل يثرب عليكم، فجاءوا يطلبونه فلم يجدوه، فلما رجع النقباء إلى المدينة بعث معهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. فلما علم أهل مكة أن محمداً صلى الله عليه وسلم وجد أنصاراً ومهاجرين مكروا به وأرادوا قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل أبي بكر فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقبل رأسه وقال: ما لك يا رسول الله؟ قال: إن قريشاً قد أرادوا قتلي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه دمي دون دمك ونفسي دون نفسك، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أذن لي بالهجرة، فقال أبو بكر: عندي بعيران حبستهما للخروج فخذ أحدهما، فقال: لا آخذه إلا بثمن فاشتراه منه، فلما أمسى خرج هو وأبو بكر راجلين فسارا نحو جبل يقال له ثور وانتهيا إلى الغار وأمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن فهيرة بأن يرعى غنمه بثور وتخلف تلك الليلة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت قريش ودخلوا عليه فوجدوا علي بن أبي طالب فقالوا له أين محمد؟ فقال: لا أدري فخرجوا على أثره حتى أتوا ثوراً ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه في الغار فعمي عليهم مكانه فأرسلوا في كل مكان يطلبونه فلم يقدروا عليه فرجعوا، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيه بأخبار أهل مكة كل ليلة، وكان عبد الله بن فهيرة يأتي بالغنم ويحلبون ويذبحون ما أرادوا فمكثنا فيه ثلاث ليال، ويقال: أكثر من ذلك حتى سكن الهرج من أهل مكة، ثم خرجا من الغار واستأجرا رجلاً يدلهما على الطريق يقال له عبد الله بن أريقط حتى قدما المدينة يوم الاثنين لليلتين مضتا من ربيع الأول.
الباب السابع والخمسون بعد المائة: في ذكر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم
(قال الفقيه) رحمه الله: روي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا ستاً وثلاثين غزوة ثمانية عشر منها خرج بنفسه وثمانية عشر بعث السرية ولم يخرج بنفسه. وقد روي أيضاً في بعض الأخبار أنه غزا أربعين غزوة وروي أكثر من ذلك. فكان أول غزواته أنه بلغه أن جمعاً من قريش خرجوا من مكة فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه في صفر بعد هجرته باثني عشر شهراً، فساروا حتى نزلوا موضعاً يقال له ودان فبعث منها عبيدة بن الحارث مع جماعة من المهاجرين فلقيهم جماعة من قريش فكان بينهم رمي ولم يكن بينهم قتال غير ذلك. ومن غزواته صلى الله عليه وسلم غزوة النخلة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش بعد هجرته بستة عشر شهراً في أحد عشر رجلاً من المهاجرين إلى عمرو بن الحضرمي مع أصحابه من قريش وقد حملوا أديماً وزبيباً ومتاعاً فنزلوا تحت نخلة، فلما مر بهم عير قريش خرجوا إليهم وقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين منهم وهرب الباقون وأخذوا ما معهم من المال في آخر جمادى الآخرة وجاءوا إلى المدينة. ومن غزواته صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وبدر اسم موضع كان القتال فيه في شهر رمضان في السنة الثانية بعد الهجرة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش خرجت من الشام فيهم أبو سفيان بن حرب مع أربعين رجلاً من تجار قريش، ويقال سبعون رجلاً من تجار قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثلثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فبلغ ذلك الخبر إلى مكة فخرج منها ألف ومائتان وخمسون رجلاً، فلما وجدوا العير رجع ثلثمائة وبقي تسعمائة وخمسون رجلاً فالتقى الجمعان فهزم الله المشركين ونصر المسلمين، وقتلوا من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين ولم يكن في الدنيا وقعة أعظم من وقعة بدر، وذلك أن إبليس لعنه الله جاء بنفسه وحضرت الشياطين وحضر كفار الجن كلهم، وحضر تسعمائة وخمسون من صناديد قريش، وحضر ثلثمائة وثلاثة عشر من المؤمنين وهم أهل الإسلام جميعاً وهم أفضل الخلق وتسعون من مؤمني الجن، وألف من الملائكة. وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ سورة الأنفال يقول: طوبى لجيش قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومبارزهم أسد الله، وجهادهم طاعة الله ومددهم ملائكة الله، وثوابهم رضوان الله. ومن غزواته صلى الله عليه وسلم غزوة السويق، وذلك أن أبا سفيان خرج مع جماعة من أصحابه بعد بدر إلى المدينة وحلف أن لا يرجع حتى يقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى بعض نواحي المدينة سراً ونزل في بيت يهودي ثم خرج وأخذ فرسين وحرق بيتين وقتل رجلين من الصحابة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه في طلبه فخشي أبو سفيان أن يدركه الرسول صلى الله عليه وسلم فألقى ما معه من الزاد في الطريق وهرب مع أصحابه، وكان أكثر ما ألقوه من الزاد السويق فسميت غزوة السويق، فرجعوا ولم يكن بينهم قتال. ومنها غزوة بني قينقاع، وهي من بعض نواحي المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفع إليه عبد الله بن أبي سلول مع جماعة من أهل المدينة فتركهم. ومنها غزوة أحد، وذلك أن قريشاً لما رجعوا من بدر جمعوا جموعاً كثيرة في السنة الثانية وخرجوا إلى المدينة وكان القتال عند جبل أحد، وكانت الهزيمة على الكفار حتى تركت الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغلوا بالغارة فرجعت الكرة عليهم فقتل من المسلمين يومئذ سبعون وجرح كثير منهم وانهزم الباقون، ثم صرف الله تعالى عنهم الكفار فرجعوا فذلك قوله تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} يعني تقتلونهم بإذنه {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ما بعد ما أراكم من تحبون} إلى قوله: {ثم صرفكم عنهم} يعني رجع الأمر عليكم. ومن غزواته صلى الله عليه وسلم غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال حين رجع من أحد إن الموعد بيننا وبينكم بدر الصغرى، وكان هناك سوق فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سبعين رجلاً من أصحابه فانتهى إلى ذلك الموضع فلم يخرج أحد من الكفار فرجعوا سالمين فذلك قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول} إلى قوله: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء}. ومنها غزوة بطن الرجيع، وذلك أنه بعث مرثد بن مرثد مع سبعة نفر منهم عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حتى نزلوا بطن الرجيع، فخرج إليهم جمع المشركين فقتلوهم وأسروا خبيباً ورجلاً آخر وحملوهما إلى مكة وقتلوهما هناك، ولم ينج منهم إلا رجل واحد حسبوا أنه مات وتركوه ونجا. ومنها أنه بعث محمد بن مسلمة مع جماعة من أصحابه فخرج إليهم المشركون فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة ظنوا أنه مات فنجا من بين القتلى. ومنها غزوة بئر معونة، وذلك أن عامر بن مالك كان فارساً من فرسان العرب وكان يلقب بملاعب الأسنة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلي رجالاً يعلموننا القرآن ويفقهوننا في الدين وهم في ذمتي وجواري، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، فلما ساروا ليلة بلغهم أن عامر بن مالك قد مات فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمدهم بأربعة نفر، فساروا كلهم حتى انتهوا إلى بئر معونة فخرج إليهم عامر بن الطفيل مع بعض قبائل العرب منهم رعل وذكوان وبنو لحيان وعصية فقتلوهم كلهم عند بئر معونة إلا عمرو بن أمية الضمري وسعد بن وقاص ورجلاً آخر قد كانوا تخلفوا عن القوم، فلما علموا بقتلهم رجعوا إلى المدينة. فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً يدعو على تلك القبائل. ومنها مقتل كعب بن الأشرف بعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة مع ثلاثة نفر فقتلوه. ومنها غزوة بني النضير، وكان سببها أن عمرو بن أمية الضمري لما رجع من بئر معونة ودنا إلى المدينة خرج رجلان من بني كلاب قد كساهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلهما ولم يعلم بأنهما مسلمان، فجاء بنو كلاب وطلبوا ديتهما فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير مع أبي بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم يستعين على دية الكلابيين، وقد كان بينهم عهد أن يعينوا على معاقلهم فهمت بنو النضير بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل فأخبره فخرج من بين ظهرانيهم وأتى المدينة وجمع العسكر وأتاهم وحاصرهم وقطع نخيلهم وخرب بنيانهم حتى اصطلحوا على أن يتركهم ليخرجوا ويتركوا أموالهم، وحمل كل رجل مقدار ما يحمل على بعير وأجلاهم إلى الشام فذلك قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم}. ومنها غزوة بني المصطلق، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العسكر وحمل معه عائشة رضي الله تعالى عنها، وتكلم فيها أهل الإفك بما قالوا حتى نزل قوله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة} إلى قوله: {والطيبون للطيبات} وهي سبع عشرة آية نزلت في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها. ومنها غزوة ذي قرد، وذلك أن ناساً من الأعراب قدموا وقد ساقوا الإبل من بعض نواحي المدينة فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستردها منهم ورجعوا. ومنها غزوة الحديبية، خرجوا وقدم أبو قتادة الأنصاري مع جماعة من أصحابه إلى العمرة فنزلوا بعسفان ثم نزلوا بالحديبية وهي اسم لبئر فسميت تلك المحلة باسم بئرها، وكان بينهم وبين المشركين الرمي بالحجارة. ومنها غزوة الخندق، وذلك أن أهل مكة جمعوا الأعراب وأتوا المدينة مقدار ثمانية عشر ألف رجل وهم الأحزاب، وحاصروا المدينة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق لكيلا يدخلها المشركون في حال غفلتهم فكانوا هناك خمسة عشر يوماً أو أكثر، فأرسل الله عليهم ريحاً باردة فانهزموا فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود} إلى قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال}. ومنها غزوة بني قريظة، كانت بقرب المدينة. كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد بقدوم الأحزاب، فلما هزم الله الأحزاب أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ. فحكم بأن تقتل مقاتلتهم وهم أربعمائة وخمسون ويقال أكثر وفيهم حيي بن أخطب بن أسيد، وذلك قوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} يعني من حصونهم {وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً}. ومنها غزوة ذات الرقاع، وقد صلى في تلك الغزوة صلاة الخوف، وقد كان أصحاب الصفة حفاة، وكانوا يلفون الخرق بأقدامهم من شدة الطريق، فكان يسقط منهم الرقاع والخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. ومنها غزوة خيبر، كانت في سنة ست من الهجرة حتى فتحها واستولى عليها. ومنها غزوة مؤتة بعث النبي عليه الصلاة والسلام رجالاً من المهاجرين والأنصار وأمر عليهم زيد بن حارثة وجعفراً الطيار وعبد الله بن رواحة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. ومنها غزوة أنمار خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ولم يكن بينهم قتال. ومنها فتح مكة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار, وذلك بعد ثمان سنين من الهجرة ففتحها وأظهر بها الإسلام. ومنها غزوة بني خزيمة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد ما دخل مكة إلى بني خزيمة فقتلهم وسباهم وقد كانوا ادعوا الإسلام فلم يصدقهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد ما أخذ منهم وضمن دية قتلاهم. ومنها غزوة حنين، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومعه اثنا عشر ألف رجل إلى هوازن فأعجبوا بأنفسهم لكثرتهم فابتلاهم الله بالهزيمة، ثم أعانهم ونصرهم حتى ظفروا بالمشركين وهزموهم وغنموا غنائم كثيرة، وهو الذي يسمى يوم أوطاس فذلك قوله تعالى: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم} الآية. ومنها غزوة الطائف رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين من أوطاس إلى الطائف وحاصرهم أربعين يوماً حتى فتحها. ومنها غزوة دومة الجندل، بعث عبد الرحمن بن عوف إليها مع سبعمائة رجل فاصطلحوا وأسلموا فأقام عندهم وتزوج بها امرأة يقال لها عاطر ابنة أصبغ بن عمرو الكلبي، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن. ومنها غزوة تبوك نحو الروم، ظفروا بهم وغنموا غنائم كثيرة. ومنها أنه بعث خالد بن الوليد في ثلثمائة إلى دومة الجندل قبل مقدم عبد الرحمن، وغنم منها غنائم كثيرة. ومنها غزوة قبل نجد. ومنها غزوات سواها لم نذكرها، فمن أرادها فليقرأ المغازي.
الباب الثامن والخمسون بعد المائة: فيما يكره
(قال الفقيه) رحمه الله: يكره الكلام في خمسة مواضع: أولها خلف الجنازة، والثاني عند قراءة القرآن، والثالث عند الخطبة وفي مجلس الذكر، والرابع في الخلاء، والخامس في حال الجماع. ويكره النظر في خمسة مواضع: في الصلاة يميناً وشمالاً، وفي أبواب الناس، وإلى عورات الناس في الحمام وغيره وإلى من فوقه في أمر الدنيا على وجه الرغبة وإلى من دونه في أمر الدين. ويكره الاستماع إلى خمسة أشياء أحدها اللهو والغناء والثاني النائحة والثالث إلى كلام الباطل والفضول والرابع إلى اثنين يتناجيان والخامس إلى أبواب الناس. ويكره الضحك في خمسة مواضع: عند الجنازة، وعند المقابر، وعند المتوجع بالمصيبة وعند قراءة القرآن، وعند ذكر الله تعالى. ويقال الضحك من غير عجب نوع من الجنون، واختلفوا في اتخاذ الأنف من الذهب والأسنان من الذهب. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا بأس، بأن يتخذها من الفضة، ولا يجوز من الذهب. وقال محمد بن الحسن رحمه الله: لا بأس وبهذا القول نأخذ. وروي في الخبر أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتخذ أنفاً من ذهب. ويكره الصوم في خمسة أيام: يوم الفطر ويوم النحر، وثلاثة أيام بعده. وتكره صلاة التطوع في خمس ساعات: بعد صلاة العصر إلى أن يصلى المغرب، وبعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، وبعد صلاة الفجر إلى أن ترتفع الشمس، وعند استواء الشمس، وعند خطبة الجمعة. وتكره صلاة الفريضة في ثلاث ساعات، عند طلوع الشمس، وعند استوائها، وعند غروبها إلا عصر يومه، والله أعلم.
الباب التاسع والخمسون بعد المائة: في الدعوات
(قال الفقيه) رحمه الله: يستحب للعابد أن يدعو الله في كل وقت ويرفع إليه جميع حوائجه فإن ذلك علامة العبودية، وإن أحب العباد إلى الله تعالى من يسأله، وأبغض العباد إلى الله تعالى من استغنى عنه، وأحب العباد إلى الناس من استغنى عنهم ولم يسألهم شيئاً، وأبغض العباد إلى الناس من يسألهم. وقال الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله # وبني آدم حين يسئل يغضب
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) وقال صلى الله عليه وسلم : ((الدعاء هو العبادة ثم تلا قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي} أي دعوتي إلى قوله تعالى: {داخرين} وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل: وكيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت فلم يستجب لي. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما دعا عبد بدعوة إلا أعطاه الله ما سأل أو صرف عنه من البلاء ما هو أعظم منه أو ادخر له ما هو خير منه)) وروي عن الأعمش عن إبراهيم قال: إذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه في منامه فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسوله من شر رؤياي هذه التي رأيت أن تضرني في دنياي أو في آخرتي، فإنه لا يضره ذلك بإذن الله تعالى. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا حلم أحدكم حلماً فليبزق عن شماله ثلاث مرات، وليستعذ بالله من شره فإنه لا يضره)) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا بنيت بأهلك فمرها فلتصل ركعتين ثم خذ برأسها وقل: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي في، وارزقني منهم وارزقهم مني، واجمع بيننا ما جمعت في خير، وفرق بيننا ما فرقت في خير. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا أتى أحدكم أهله فليقل: اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن ولد بينهما ولد لم يضره الشيطان بإذن الله تعالى. وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أنعم الله على عبد من نعمة في أهل أو مال أو ولد وقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت، ثم قرأ: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله}. وعن مجاهد قال: إذا دخلك شيء من الطيرة فقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يدفع السيئات إلا الله ثم امض لوجهك. وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من ضل له ضالة فليصل ركعتين ثم ليقل بعد ما يفرغ من التشهد اللهم يا هادي الضالين ويا راد الضالة اردد علي ضالتي بعزتك وسلطانك فإنها من فضلك وعطائك. وروى سفيان الثوري بإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا عسرت على المرأة ولادتها فليكتب بسم الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم سبحان رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} قال سفيان: يكتب في جام ويغسل الجام وتسقى ماءه. وروى أبان عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أصبح وقال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يصبه بلاء حتى يمسي، فإن قالها حين يمسي لم يصبه حتى يصبح)). وعن عثمان بن أبي العاص قال: ((أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بي وجع كاد أن يهلكني فقال: امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد)) فقلت ذلك فبرئت. وروى أبو هريرة: ((أن رجلاً من أسلم قال: ما نمت البارحة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أي شيء؟ قال: لدغتني عقرب: فقال: أما إنك لو قلت أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم يضرك إن شاء الله تعالى)). وعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه قال: من قال كلما عطس الحمد لله رب العالمين على كل حال أمن من وجع الضرس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من سبق العاطس بالحمد لله رب العالمين أمن من الشوص واللوص والعلوص)) يعني إذا قال غير العاطس الحمد لله قبل حمد العاطس أمن من وجع السن ووجع الأذن ووجع البطن. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة أربع آيات من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخر السورة، فإن قرأها في أول النهار لا يدخل الشيطان في ذلك البيت حتى يمسي، وإن قرأها أول الليل لا يدخله حتى يصبح، وإن قرئت على مجنون أفاق. قال بعض المتقدمين: من تضافرت عليه النعم فليكثر من: الحمد لله، ومن كثرت همومه فليكثر: الاستغفار، ومن ألح عليه الفقر فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وروي عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: عجبت لمن يبتلى بأربع كيف يغفل عن أربع: عجبت لمن يبتلى بالهم كيف لا يقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لأن الله تعالى يقول: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} وعجبت لمن يخاف شيئاً كيف لا يقول حسبي الله ونعم الوكيل لأن الله تعالى يقول: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} وعجبت لمن خاف الناس كيف لا يقول وأفوض أمري إلى الله لأن الله تعالى يقول: {فوقاه الله سيئات ما مكروا} وعجبت لمن رغب في الجنة كيف لا يقول: {ما شاء الله لا قوة إلا بالله} لأن الله تعالى يقول: {فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك} وبالله التوفيق، وهو حسبي في كل ضيق. أسأله الهداية للرشد والتحقيق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وآله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين.
الفهرس:
الباب الأول: في طلب العلم
الباب الثاني: في كتابة العلم
الباب الثالث: في الفتوى
الباب الرابع: فيمن يجوز له الفتوى
الباب الخامس: من الاختلاف
الباب السادس: في رواية الحديث بالمعنى
الباب السابع: في رواية الحديث والإجازة
الباب الثامن: في أخذ العلم من الثقات
الباب التاسع: في إباحة مجلس العظة
الباب العاشر: في آداب المذكر
الباب الحادي عشر: في آداب المستمعين
الباب الثاني عشر: في الحث على طلب العلم وتفضيل الفقه على غيره
الباب الثالث عشر: في مناظرة العلم
الباب الرابع عشر: في آداب المتعلم
الباب الخامس عشر: في قبول القضاء وعدم قبوله
الباب السادس عشر: في آداب القاضي
الباب السابع عشر: في فضل تعلم القرآن وتعليمه
الباب الثامن عشر: في تفسير السبع المثاني
الباب التاسع عشر: فيما نزل من القرآن بمكة والمدينة
الباب العشرون: في الكلام في سورة براءة
الباب الحادي والعشرون: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على أبي بن كعب
الباب الثاني والعشرون: في الشعر وإنشاده
الباب الثالث والعشرون: فيما قيل في أشعار النبي صلى الله عليه وسلم
الباب الرابع والعشرون: في عبارة الرؤيا
الباب الخامس والعشرون: في الرؤيا الصالحة وحسن العبارة
الباب السادس والعشرون: في الكلام في الطب والرقى
الباب السابع والعشرون: في الأطعمة التي فيها الدواء
الباب الثامن والعشرون: في تفضيل اللسان العربي على غيره
الباب التاسع والعشرون: في نزول القرآن على سبعة أحرف
الباب الثلاثون: في الكلام في تفسير القرآن
الباب الحادي والثلاثون: في حسن المعاشرة ومعرفة الحقوق
الباب الثاني والثلاثون: في زيارة الإخوان
الباب الثالث والثلاثون: في التسليم
الباب الرابع والثلاثون: في التسليم على الصبيان
الباب الخامس والثلاثون: في التسليم على أهل الذمة
الباب السادس والثلاثون: في التسليم عند دخول البيت
الباب السابع والثلاثون: فيما يستحب من اللباس
الباب الثامن والثلاثون: في الجمال
الباب التاسع والثلاثون: فيما يجوز لبسه من الثياب وما لا يجوز
الباب الأربعون: في العلم في الثوب
الباب الحادي والأربعون: في افتراش الديباج
الباب الثاني والأربعون: في لبس الحمرة
الباب الثالث والأربعون: في جلود السباع
الباب الرابع والأربعون: في أكل اللحم
الباب الخامس والأربعون: في أكل الفالوذج
الباب السادس والأربعون: فيما جاء في الأطعمة
الباب السابع والأربعون: في أكل الثوم
الباب الثامن والأربعون: ما قيل في المروءة
الباب التاسع والأربعون: فيما قيل في العقل
الباب الخمسون: في الآداب
الباب الحادي والخمسون: في آداب الوضوء والصلاة
الباب الثاني والخمسون: في آداب النوم
الباب الثالث والخمسون: في آداب الأكل
الباب الرابع والخمسون: في إجابة الدعوة
الباب الخامس والخمسون: في آداب الضيافة
الباب السادس والخمسون: في الخلال
الباب السابع والخمسون: في آداب الشرب
الباب الثامن والخمسون: في تقديم اليمين على الشمال
الباب التاسع والخمسون: في الخروج من المنزل والصحبة
الباب الستون: في البيع والشراء
الباب الحادي والستون: في طاعة الولاة
الباب الثاني والستون: في الأخذ من الأمراء
الباب الثالث والستون: في النهي عن النظر في بيت غيره
الباب الرابع والستون: في النهي عن التعرض للتهمة
الباب الخامس والستون: في الرفق
الباب السادس والستون: في فضل العصا
الباب السابع والستون: في زوال الدنيا عن المؤمن
الباب الثامن والستون: في علامة الساعة
الباب التاسع والستون: في حد الكلام
الباب السبعون: في النهي عن التصاوير
الباب الحادي والسبعون: في تزويج الزانية
الباب الثاني والسبعون: في تفضيل الفقير على الغني
الباب الثالث والسبعون: في الاستدانة
الباب الرابع والسبعون: في العزل
الباب الخامس والسبعون: في القول في عذاب الميت ببكاء أهله
الباب السادس والسبعون: في البكاء على الميت
الباب السابع والسبعون: في إكرام أهل الفضل والشرف
الباب الثامن والسبعون: في الغيرة
الباب التاسع والسبعون: فيما جاء في السخاء والبخل
الباب الثمانون: في الشفاعة
الباب الحادي والثمانون: في قتل العمد
الباب الثاني والثمانون: في القبلة للولد الصغير
الباب الثالث والثمانون: في ضرب الدف
الباب الرابع والثمانون: في الأمر بالمعروف
الباب الخامس والثمانون: في النكاح
الباب السادس والثمانون: في الكسب
الباب السابع والثمانون: في الطب
الباب الثامن والثمانون: في الامتناع عما يضر بالبدن من المأكولات وغيرها
الباب التاسع والثمانون: في الجماع
الباب التسعون: في دخول الحمام
الباب الحادي والتسعون: في الحجامة
الباب الثاني والتسعون: في آداب الخلاء
الباب الثالث والتسعون: في كراهة الوحدة
الباب الرابع والتسعون: فيما جاء في ذكر الحفظة
الباب الخامس والتسعون: في قتل الجراد
الباب السادس والتسعون: في نقش المسجد
الباب السابع والتسعون: في كراهية البصاق في المسجد
الباب الثامن والتسعون: في كراهية صلاة الرجل وهو ناعس
الباب التاسع والتسعون: في العلم والأدب
الباب المائة: في الخاتم
الباب الحادي والمائة: في نقش الخاتم والكتابة عليه
الباب الثاني والمائة: في معاريض الكلام
الباب الثالث والمائة: في الرسالة
الباب الرابع والمائة: ما قيل في المزاح
الباب الخامس والمائة: في الفوائد
الباب السادس والمائة: في المرأة إذا كان لها زوجان في الدنيا
الباب السابع والمائة: في القول في أطفال المشركين
الباب الثامن والمائة: في ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الباب التاسع والمائة: في صفة ما خلق الله تعالى من الخلق
الباب العاشر بعد المائة: في بدء خلق السموات والأرض
الباب الحادي عشر بعد المائة: في أسماء الجنان والنيران
الباب الثاني عشر بعد المائة: في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأزواجه
الباب الثالث عشر بعد المائة: في أسماء الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم
الباب الرابع عشر بعد المائة: فيما يستحب من الأسماء
الباب الخامس عشر بعد المائة: في ذكر الأيام والشهور
الباب السادس عشر بعد المائة: في صفة طبائع الإنسان
الباب السابع عشر بعد المائة: في السباحة والفروسية والرمي
الباب الثامن عشر بعد المائة: في النهي عن اقتناء الكلب
الباب التاسع عشر بعد المائة: في الكلام في أمر المسخ
الباب العشرون بعد المائة: في الإيمان
الباب الحادي والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان يزيد أم لا
الباب الثاني والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان عمل أم إقرار
الباب الثالث والعشرون بعد المائة: في أن الإيمان مخلوق أم لا
الباب الرابع والعشرون بعد المائة: في الكلام في القرآن
الباب الخامس والعشرون بعد المائة: في الكلام في الرؤية
الباب السادس والعشرون بعد المائة: في القول في الصحابة
الباب السابع والعشرون بعد المائة: في القول في القدر
الباب الثامن والعشرون بعد المائة: في الرفض
الباب التاسع والعشرون بعد المائة: فيمن حضره العشاء وأقيمت الصلاة
الباب الثلاثون بعد المائة: في كراهية الدخول على أهله من السفر ليلاً
الباب الحادي والثلاثون بعد المائة: في الصلاة في رحله عند المطر
الباب الثاني والثلاثون بعد المائة: في كراهية الجرس
الباب الثالث والثلاثون بعد المائة: في التعزية
الباب الرابع والثلاثون بعد المائة: في المسابقة
الباب الخامس والثلاثون بعد المائة: في نثر السكر
الباب السادس والثلاثون بعد المائة: في الهدية والمكافأة بها
الباب السابع والثلاثون بعد المائة: في تشميت العاطس
الباب الثامن والثلاثون بعد المائة: في مداراة الناس
الباب التاسع والثلاثون بعد المائة: في الأمثال
الباب الأربعون بعد المائة: في العمارة والبناء
الباب الحادي والأربعون بعد المائة: في المعاملة مع أهل الكفر
الباب الثاني والأربعون بعد المائة: فيما قيل في مباركة الغداء
الباب الثالث والأربعون بعد المائة: في كلام الحكماء
الباب الرابع والأربعون بعد المائة: في البول في حال القيام
الباب الخامس والأربعون بعد المائة: في خصاء الحيوان
الباب السادس والأربعون بعد المائة: في السمر بعد العشاء
الباب السابع والأربعون بعد المائة: في عدد سور القرآن
الباب الثامن والأربعون بعد المائة: في عدد آيات القرآن وكلماته
الباب التاسع والأربعون بعد المائة: في عدد حروف القرآن
الباب الخمسون بعد المائة: في ذكر أثلاث القرآن وأرباعه وأنصافه
الباب الحادي والخمسون بعد المائة: في فضل المعلمين
الباب الثاني والخمسون بعد المائة: في قلة الأكل
الباب الثالث والخمسون بعد المائة: في التحية
الباب الرابع والخمسون بعد المائة: فيما قيل في النكاح
الباب الخامس والخمسون بعد المائة: في ابتداء أمر النبي صلى الله عليه وسلم
الباب السادس والخمسون بعد المائة: في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
الباب السابع والخمسون بعد المائة: في ذكر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم
الباب الثامن والخمسون بعد المائة: فيما يكره
الباب التاسع والخمسون بعد المائة: في الدعوات