Download kitab pdf terlengkap AswajaPedia Klik di sini

المِنَحُ السَّنِيَّةِ على الوَصِيَّةِ المَتْبُولِيَّةِ || Minahus Saniyyah


المِنَحُ السَّنِيَّةِ
عَلَى
الوَصِيَّةِ المَتْبُولِيَّةِ

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى فرض التوبة وحرم الإصرار، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له كاتب الأثار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صفة الأخيار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه السادة الأبرار.
(وبعد) فهذا تعليق على وصية الشيخ العارف بالله تعالى أبى إسحاق إبراهيم المتبولى طيب الله ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، ونفعنا والمسلمين ببركاته، وأعاد علي وعليهم من صالح دعواته، والله تعالى أسأل أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه، إنه على كل شيء قدير.
 (اول الوصية : عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَخُ بِالْإِسْتِقَامَةِ فِى التَّوْبَةِ)
التوبة فى اللغة الرجوع، يقال  : تاب، اى رجع، وفى الشرع : الرجوع عما كان مذموما فى الشرع إلى ما هو محمود فى الشرع،
ولها بداية ونهاية،
فبدايتها التوبة من الكبائر، ثم الصغائر، ثم المكروهات، ثم من خلاف الأولى، ثم من رؤيته الحسنات، ثم من رؤيته أنه صار معدودا من فقراء الزمان، ثم من رؤيته أنه صدق فى التوبة، ثم من كل خاطر يخطر له فى غير مرضاة الله تعالى.
وأما نهايتها فالتوبة كلما غفل عن شهود ربه تعالى طرفة عين.
وذكر المحققون من أهل الطريق أن من ندم على ذنبه واعتىرف به فقد صحت توبته، لأن الله تعالى لم يقص علينا فى توبة أبينا السيد آدم عليه الصلاة والسلام إلا الإقتراف والندم، فلو كان ثم أمر زائد لقصه علينا.
وقول العلماء : أن من شرط التوبة الإقلاع، والعزم أن لا يعود: إنما أخذوه بطريق الإستنباط، إذ النادم على شيء من لوازمه الإقلاع، والعزم أن لا يعود،
ومعلوم أن بالتوبة تغفر حقوق الله تعالى وظلم العبد لنفسه بارتكاب المعاصى، دون الشرك بالله تعالى وإن كان هو يرجع الى ظلم النفس ايضا، ودون حقوق الخلق من مال وعرض، وسيأتى الكلام عليهما إن شاء الله تعالى،
وبدأ الشيخ بالتوبة لأنها أساس لكل مقام يترقى اليه العبد حتى يموت، فكما أن من لا أرض له لا بناء له، كذلك من لا توبة له فلا حال له ولا مقام.
ومن كلامهم "من أحكم مقام توبته حفظ الله تعالى من سائر الشوائب التى فى الأعمال" فهى نظير مقام الزهد فى الدنيا يحفظه صاحبه من سائر ما يحجب عن الحق تعالى،
وحث على "الإستقامة فى التوبة" لأنه متى ما كان فى التوبة اعوجاج انسحب حكمه فى كل مقام بعده فيصير بناؤه مهلهلا كمن بنى حائطه من اللبن اليابس بغير طين.
قال سيدى محمد ابن عنان رحمه الله تعالى : من إستقام فى توبته عن المعاصى ارتقى الى التوبة من كل ما لا يعنى، ومن لم يستقم فيها لا يشم من التوبة عن الفضول رائحة، ولا يقدر على رعاية خاطره أبدا، بل تغلب عليه خواطر المعاصى حتى فى صلاته،
وتأمل قوله تعالى للمعصوم الأكبر صلى الله عليه وسلم : "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك"
فأمره الله تعالى بالإستقامة فى التوبة، ومن تاب معه من جميع أتباعه وأمته"
وقال سيدى على الخواص رحمه الله تعالى : من استقام فى توبته وزهد فى الدنيا فقد انطوى فيه سائر المقامات والأحوال الصالحة.

(تنبيه)
ينبغى للعبد أن يفتش أعضاءه الظاهرة والباطنة صباحا ومساء هل حفظت حدود الله تعالى التى حدها لها أو تعدت؟ وهل قامت بما امرت به من غض البصر وحفظ اللسان والأذن والقلب وغير ذلك على وجه الإخلاص أو لم تقم؟
فإن رأى جارحة من جوارحه أطاعت شكر الله تعالى ولم ير نفسه لذلك، وإن رآها تلطخت بمعصية من المعاصى أخذ فى الندم والإستغفار، ثم يشكر الله تعالى إذا لم يقدر عليه أكثر من تلك المعصية، ولم يبتل جوارحه التى عصت بالأمراض والجراحات والدمامل والقروح، فإن كل عضو استحق نزول البلاء، فاعلم ذلك يا أخى والزم التوبة وابغض الدنيا تبعا لله تعالى فإن الله تعالى لم ينظر اليها منذ خلقها لشدة بغضه لها،
وفى الحديث "حب المال والسرف ينبتان النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل"
وقد كان أبو عبد الله سفيان الثورى رحمه الله تعالى يقول : لو أن عبدا عبد الله تعالى بجميع المأمورات إلا أنه يحب الدنيا إلا نودي عليه يوم القيامة على رؤس الجميع "ألا إن هذا فلان بن قلان قد أحب ما أبغض الحق تعالى" فيكاد لحم وجهه يسقط.
والمراد بالدنيا ما زاد على الحاجة الشرعية،
وكان ابو الحسن على بن المزين رحمه الله تعالى يقول : لو زكيتم رجلا حتى جعلتموه صديقا لا يعبأ الحق تعالى به وهو يساكن الدنيا بقلبه،
فقيل  له فإذا ساكنها لأجل إخوانه وعياله وغيرهم من الملازم لينفقها عليهم؟
فقال : دعونا من هذا الزلفات، والله ما هلك من هلك من أهل الطريق الا من حلاوة الغنى فى نفوسهم، والله الذى لا إله إلا هو إنى لأعرف من يدخل عليه عرض الدنيا فيقسمه على حقوق الله تعالى فيصير ذلك مع براءة ساحته حجابا قاطعا له عن الله تعالى،
وكان سيدى أبو الحسن الشالى رحمه الله تعالى يقول : "لا يترقى مريد قط إلا أن صحت له محبة الحق تعالى، ولا يحبه الحق تعالى حتى يبغض الدنيا وأهلها ويزهد فى نعيم الدارين".
وقال أيضا : كل مريد أحب الدنيا فالحق تعالى يكرهه على حسب محبتها له كثرة وقلة، فيجب على المريد أن يرمى الدنيا من يده ومن قلبه أول دخوله فى الطريق، ومتى تلقن على شيخ أو أخذ عليه العهد وهو يميل إلى الدنيا فلا بد أن يرجع من حيث جآء، وترفضه الطريق، فإن أقل أساس يضعه المريد فى الطريق الزهد فى الدنيا، فمن لم يزهد فى الدنيا لا يصح له بناء شيء فى الآخرة.
وكان سيدى عبد القادر الجيلى رحمه الله تعالى يقول : "من أراد الآخرة فعليه بالزهد فى الدنيا، ومن أراد الله تعالى فعليه بالزهد فى الآخرة".
وما دام فى قلب العبد شهوة من شهوات الدنيا او لذة من لذاتها من مأكول أو ملبوس أو منكوح أو ولاية أو رياسة أو تدقيق فى فن من فنون العلم الزائد عن الفرض كروا ية الحديث الآن وقرآءة القرآن بالقراآت السبع وكالنحو والفقه والفصاحة، فليس هذا محبا فى الآخرة، إنما هو راغب فى الدنيا تابع لهواه.
وكان أبو عبد الله المغربى رحمه الله تعالى يقول : الفقير المجرد عن الدنيا وإن لم يعمل شيأ من أعمال الفضائل أفضل من هؤلاء المتعبدين ومعهم الدنيا، بل ذرة من عمل الفقيء المجرد أفضل من الجبال من أعمال أهل الدنيا.
وكان سيدى أبو المواهب الشاذلى رحمه الله تعالى يقول : "العبادة مع محبة الدنيا شغل قلب وتعب جوارح، فهى وإن كثرت قليلة، وإنما هى كثيرة فى وهم صاحبها، وهى صورة بلا روح واشاح خالية غير حالية"
ولهذا ترى كثيرا من أرباب الدنيا يصومون كثيرا، ويصلون كثيرا، ويحجون كثيرا، وليس لهم نور الزهاد، ولا حلاوة العبادة،
وحقيقة الزهد هو ترك الميل إليها بالمحبة، لا بخلو اليد من الدنيا لعدم نهى الشارع عن التجارة وعن عمل الحرف، ولا قائل بذلك، وإنما درج جمهور الصحابة والتابعين عن حلو اليد من الدنيا ليقتدى بهم المحجوبون عن مشاهدة الأكابر، فلذلك أظهروا لهم الزهد فى الدنيا بخلو اليد ونهوهم عن التبسط فى الدنيا خوفا عليهم أن يدخلوا فى محبتها فلا يهتدون بعد ذلك للخروج عن حبها والمزاحمة عليها، فإن الكاملين لا يشغلهم عن الله تعالى شيء فى الكونين بخلاف القاصرين،
فسلم يا أخى لكل من تراه متجملا بالثياب من القوم إلا إن خفت على أتباعه أن يتبعوه مع الجهل بمقصده، فلك أن تنهاه عن ذلك خوفا عن تلامذه، أو تأمره بأن يقول لهم لا تقتدوا بى فى حسن الملابس والمناكح والمراكب فإن هذا ليس لكم الآن، هذا إن وجد ذلك من مال حلال وإلا فالإنكار على ذلك الشيخ واجب فافهم،
ثم لا يخفى ان الزاهدين ما زهدوا حقيقة إلا فى ما لم يقسم، وأما ما قسم لهم فلا يصح لأحد الزهد فيه بأن يتركه، وإنما الزهد فيه يكون بترك الميل إليه عادة بحيث لا يبخل به عن مستحقه ولا يشتغل به عن ربه فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَاتْرُكِ الْمُبَاحَاتِ طَلَبًا لَتَرَقِّى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ)
قال سيدى على المرصفى رحمه الله تعالى : "لايصح لمريد قدم فى الإرادة حتى يترك فعل المباحات ويجعل مكان كل مباح تركه مأمورا شرعيا من مندوب أو أولى ويجتنب المباح كأنه منهي عنه كراهة تنزيه"
وقد أجمعوا على أن كل من مهد لنفسه ارتكاب الرخص دون العزائم لا يجيء منه شيء فى الطريق.
وقال سيدى على الخواص رحمه الله تعالى : ما جعل الله تعالى المباح إلا تنفيسا لبنى آدم عليه الصلاة والسلام من مشقة التكليف حين ركب الله تعالى فى ذواتهم الملل من التكاليف، ولو أن الله تعالى لم يركب فى ذواتهم الملل لم يشرع لهم المباح كما فعل بالملائكة لأنهم لايعرفون الملل طعما، فلذلك كانوا يسبحون الليل والنهار (لَا يَفْتُرُوْنَ
قال ولما كان القوم من شأنهم الأخذ بالعزائم دون الرخص طلبا للترقى كما هو معلوم من أحوالهم طلبوا من المريدين العمل على تقليل المباحات جهدهم ويجعلون مكان ذلك طاعة يثابون عليها،
فإن لم يجدوا طاعة نووا بالمباح من أكل وكلام خيرا كالتقوى على العبادات بأكل تلك الشهوة وزوال العبوسة بمباسطة اخوانهم ببعض كلامهم ونحو ذلك، وأخذوا المريد بالنوم من غير ضرورة، وبالأكل من غير جوع، وبالكلام من غير حاجة، وبمخالطة الناس ألا لضرورة، فأرادوا أن يثاب مريدهم ثواب الواجبات فى سائر أحواله، فيأكل حين يجب عليه الأكل، ويتكلم حين يجب عليه الكلام مثلا، فإن نزل على ذلك فلا ينزل عن الإستحباب، فيأكل حين يستحب الأكل، ويتكلم حين يستحب الكلام،
وكذلك آخذوا المريد بالنسيان وبالاحتلام ويمد الرجل فى ليل او نهار إلا لحاجة، وآخذوه بالخواطر ولو لم تستقر، وآخذوه بأكل الشهوات المباحات لكونها توقف على الترقى.
وفى زبور السيد داود عليه السلام : "يا داود حذر وأنذر قومك عن أكل الشهوات، فإن قلوب أهل الشهوات محجوبة عنى"
وكما أن أكل الشهوات يطرد العبد عن حضرة الله تعالى فكذلك مد الرجل من غير حاجة بجامع سوء الأدب.
وقال أيضا : لايبلغ  المريد مقام الصدق  حتى يزيد فى تعظيم أمر الله تعالى ونهيه فيفعل المندوب كأنه واجب، ويجتنب المكروه كأنه حرام، ويجتنب الحرام كأنه كفر وينوى بجميع المباحات خيرا ليثاب على ذلك، فينوى بالنوم فى القيلولة التقوى على قيام الليل، ويتناول بعض الشهوات لمداواة نفسه إذا نفرت من العبادات بالكلية، فإن لسان حال النفس يقول لصاحبها : كن معى فى بعض اغراضى وإلا صرعتك، وكذلك ينوى بلباس الثياب الفاخرة إظهار نعمة الله تعالى دون الحظوظ النفسانية، وكذلك يأكل الزائد من الطعام البارد الحلو من الشراب لأجل استجابة أعضائه ليشكر الله تعالى بعزم،
وقد كان أبو الحسن الشاذلى رحمه الله تعالى يقول لأصحابه :"كلوا من أطيب الطعام واشربوا من ألذ الشراب وناموا على أوطاء الفراش والبسوا ألين الثياب فإن أحدكم إذا فعل ذلك وقال الحمد لله يستجيب كل عضو فيه للشكر، بخلاف ما إذا أكل خبز الشعير بالملح ولبس العباءة ونام على الأرض وشرب الماء المالح السخن وقال الحمد لله فإنه يقول ذلك وعنده اشمئزاز وبعض سخط على مقدور الله تعالى، ولو أنه نظر بعين البصيرة  لوجد الاشمئزاز والسخط الذى عنده يرحج فى الإثم على من تمتع بالدنيا بيقين، فإن المتمتع بالدنيا  فعل ما أباحه الحق تعالى، ومن كان عنده اشمئزاز وسخط فقد فعل ما حرمه الحق عز وجل" وافعل ذلك يا أخى.
 (وَاحْذَرْ مِنْ دَقَائِقِ الرِّيَاءِ)
خوفا من ضياع الأجور وظلمة القلب،
ومن دقائق الرياء استحلاء العبادة.
قال صاحب الوصية : "سم قاتل محبط للعمل" ولو لا شهود الضعفاء تعظيم مقامهم عند الناس بسهر الليالى الكاملة مااستطاعوا سهر ليلة كاملة فضلا عن دوام السهر.
وقد أجع العارفون على ان من عللامة الرياء استحلاء العبادة، لأن النفس لا تستلذ العبادة إلا إن وافقت هواها، ولو أنها خلصت من الهوى لثقل عليها،
ومنها العمل لله تعالى ولشيء آخر.
قال سيدى عبد القادر الدشطوطى رحمه الله تعالى : عليك بإخلاص القصد لله تعالى ولا تتهاون فى ذلك وترضى بتلبيس نفسك عليك فتهلك : كأن يكون الباعث لك فى فعل العبادات أمرين : "فان" و "باق" وهذا من أصعب طرق الرياء على المبتدئين، لأنه يشبه عليهم ويعسر عليهم الإخلاص منه، بخلاف الرياء المجرد فإنه يفهم بأدنى تأمل.
قال : ولو غلب الباقى على الفانى فهو رياء
وقول بعضهم إذا غلب الباعث الباقى كان الحكم له إنما هو فى حق العوامل الذين لا يقدرون على سلوك الطريق أما من يقدر على سلوك الطريق من العلماء العاملين فلا يسامح بمثل ذلك،
ومثال الفانى والباقى أن يكون لك عند أمير أو معظم حاجة وذلك الأمير أو المعظم يصلى الجمعة او غيرها فى صف الاول او فى مكان معروف به فتهجد فى الصلاة إلى جانبه لتحصل مرادك منه لا لتؤدى الفريضة فى ذلك المكان على تلك الصفة، ومعلوم أن الباعث على ذلك العمل هو ذلك القصد الأول لا قصد إتقان أمور الصلاة،
وقد أجمعوا على أن توحيد القصد واجب ليجعلوا لهم هما واحدا متعلقا بواحد لا يشم من توحيد الحق تعالى رائحة،
ومنها العبادة بقصد التقرب من حضرة الله تعالى، فإن ذلك كالعمل بأجرة.
قالوا وهذا العلة أخفى العلل، وربما ترقى صاحبها إلى قريب من حضرة الله تعالى فيقال له ارجع لست من أهلها إنما أهلها من يعبد الله تعالى أمتثالا لأمره ووفاء بواجب حقه تعالى.
ومنها ادعاء المقامات قبل بلوغها أو بعد بلوغها ولم يؤذن لهم فى إظهارها، ثم أن ذلك المدعى يعاقب بحرمان ما ادعاه فلا ينال بعد ذلك أبدا كما جرب.
ومنها محبة اطلاع الناس على العبادة وغيرها.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رحمه الله تعالى : "من أضر شيء على المريدين الإكثار من الأعمال الصالحات لعله يحمد على ذلك إذ لا يزداد بكثرتها إلا طردا ومقتا"
وهذا يخفى على كثير من المريدين، ومن هنا أوجبوا على المريد الإسرار بعمله حسب طاقته حتى يقوى ويتمكن.
وقال أيضا : ربما يفعل المريد أمرا يحمد عليه ولا يقصده فيظن أنه مخلص والحال أنه مراء وذلك كأن يرد مثلا ما يعطيه له الناس تعففا فيحمده الناس على ذلك فيصغى إلى مدحهم فيرجع عمله إلى الرياء ولو لم يقصد ذلك أولا.
ومنها : ترك العمل من أجل الناس.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الحق تعالى منها"
ومعنى ذلك أن من عزم على عبادة وتركها مخفة  أن يراها الناس فهو مراء، لأنه تركها من أجل الناس. أما لو تركها ليفعلها فى الخلوة فها مستحب إلا أن تكون فريضة أو زكاة واجبة أو يكون ممن يقتدى به فالجهر فى ذلك أفضل.
ومنها حكاية الأعمال الصاحات التى وقعت فى أزمان مضت ولم يشعر بها أحد إلا لغرض شرعي، فإن حكايتها بغير غرض شرعي يردها إلى صورة الرياء بها حال عملها.
ومن وصية سيدى على الخواص رحمه الله تعالى لأصحابه : احذروا من التسميع بأعمالكم فإنه يبطلها كالرياء على حد سواء كما صرح بذلك الحديث،
لكن لتسميع دواء، وهو أن يندم العبد على ذلك ويتوب من ذلك توبة صادقة بأنه لا يعود يسمع أحد من الناس من أعماله، إذ التوبة الصادقة تمحو تلك الزلة، فإذا تاب كذلك رجع العمل صحيحا بمشيئة الله تعالى. ومثل ذلك كمثل رجل كان صحيح الجسم ثم طرأ عليه مرض أفسد صحته فاستعمل دواء نافعا فأزال الله تعالى به ذلك المرض وعاد الجسم بفضل الله تعالى إلى حال صحته، فعلم  أن للتسميع دواء، بخلاف الرياء لأنه يفسد من أصله.
ومنها قطع المزح المباح إذا دخل من يستحيا منه،
وقد كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى يقول : "لو قيل أن أمير المؤمنين داخل عليك الساعة فسويت لحيتى بيدي لخفت أن أكتب فى جريدة المنافقين"
فلا تقطع يا أخى المزح المباح لأجل داخل عليك إلا بنية صالحة، فإن خرق ناموس العبد عند من يستحيا منه أولى من ارتكابه صفة النفاق.
ومنها الزيادة فى الإطراق والخشوع لدخول أحد من الأكابر وغيرهم،
وقد كان سيدى على الخواص رحمه الله تعالى يقول : "إذا دخل على أحدكم أمير وفى يديه سبحة يسبح بها فلا يدمها فى يده إلا بنية صالحة، واليحذر من أن يكون جالسا يضحك وهو غافل عن الله تعالى فيدخل عليه أمير فيأخذ السبحة بيده فيسبح بها إلا بنية صالحة هروبا من الوقوع فى الرياء المحبط للأعمال"
ودقائق الرياء كثيرة مذكورة فى كتب القوم فاعلم ذلك يا أخي .
 (وَ) احذر أيضا (مِنَ أذَى الْخَلْقِ) فإنه من السموم القاتلة.
قال الإمام سهل رحمه الله تعالى : "إنما حجب الخلق عن الوصول ومشاهدة الملكوت بشيئين : سوء الطعمة، وأذى الخلق"
وقال أيضا : "أصولنا سبعة : التمسك بكتاب الله تعالى، والإقتداء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، واجتناب المعاصى، والتوبة، وأداء الحقوق، وكف الأذى،
وهو على نوعين : أحدهما كف الأذى الجوارح الظاهرة، ثانيهما كف القلب عما يخطر فيه من سوء الظن بالناس فإنه من السموم القاتلة ولا يشعر به كل أحد، لاسيما سوء الظن بالأولياء والعلماء وحملة القرآن.
وفى وصية سيدى على بن وفا رحمه الله تعالى : "إياكم أيها المريدون أن تقعوا فى حق أحد من أقران شيخكم فإن لحوم الأولياء سم ولو لم يؤاخذوكم، وإياكم ثم إياكم من الإستهانة بغيبة أحد ولو لم تبلغه تلك الغيبة بل خافوا منها أكثر مما تخافون إذا بلغته فإنه وليه الله تعالى" فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَ) احذر أيضا (مِنْ أكْلِ غَيْرِ الْحَلَالِ)
فإن أكل غير الحلال يقسى القلب ويظلمه ويحجبه عن دخول حضرة الله تعالى ويخلق الثياب.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى : "لو أن عبدا عبد الله تعالى حتى صار مثل هذه السارية ثم أنه لم يدر ما يدخل جوفه أ حلال أم حرام ما تقبل منه"
وقال أبو إسحاق إبراهم بن أدهم رحمه الله تعالى : "أطيب مطعمك وما عليك بعد ذلك أن لا تصوم النهار ولا تقوم الليل" يعني نفلا
وقال أبو بكر الترمذى رحمه الله تعالى : "ما منع القوم من الوصول إلا الاستدلال بغير الدليل، والركض فى الطريق على حد الشهوة، وأكل الحرام والشبهات"
وقال الإمام سهل رحمه الله تعالى : "من لم يكن مطعمه من حلال لم يكشف عن قلبه حجاب وتسارعت اليه العقوبات ولا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا صدقته"
وقال الإمام سفيان رحمه الله تعالى : "عليكم بأكل الحلال، وإياكم وأكل الحرام فإنى كنت وأنا آكل الحلال أقرأ الآية فيفتح لى سبعون بابا من العلم فلما أكلت من طعام من لا يتورع صرت أقرأ الآية وأرددها فلا يفتح لى باب واحد"
وقال الشيخ على الشاذلى رحمه الله تعالى : "من أكل الحلال لان قلبه ورق ونار وقل نومه ولم يحجب عن حضرة الله تعالى، ومن أكل غير الحلال قسا قلبه وغلظ وأظلم ويحجب عن حضرة الله تعالى وكثر نومه،
وذلك من جملة رحمة الله تعالى، لأن أكل غير الحلال يحرك الأعضاء للمعاصى، فيطلب كل عضو منه أن يعصى فيتفضل الله تعالى عليه بالنوم ليريحه من المعاصى كما أنه يتفضل على الطائع بأكل الحلال ليقيمه بين يديه ليلا ونهارا .
وقال سيدى على الخواص رحمه الله تعالى : "من أكل الحرام وأطال العبادة فهو كالحمام الذى رقد على بيض فاسد فهو يتعب نفسه فى طول المقام ثم لا يفرخ شيئا بل يخرج مذرا،
ومن مفسد أكل الحرام استحاله نارا فيذهب شجية الفكر، ولذة الذكر ويحرق نبات إخلاص النيات ويعمى البصر، ويظلم البصر ويوهن الدين والبدن والعقل ويورث الغفلة والنسيان ويمنع من ذوقان الحكم والمعارف،وأطال فى ذلك، ثم قال : "وبالجملة فجميع المعاصى التى يفعلها العبد إنما سببها أكل الحرام، فمن أكل الحرام وطلب أن يعمل الطاعة فقد رام المحال"
وأطال فى ذلك، ثم قال : "وبالجملة فجميع المعاصى التى يفعلها العبد إنما سببها أكل الحرام، فمن أكل الحرام وطلب أن يعمل الطاعة فقد رام المحال"
 (تنبيه)
يجب على من أكل شيئا ثم وجد بعده علامة من علامات الحرام أن يأخذ فى القيء إن أمكنه وإلا أخذ فى التوبة والإستغفار.
ومن العلامات أن يكون للشرع على ذلك الطعام اعتراض من حيث وضع اليد.
ومنها وجود الظلمة فى القلب والثقل فى الطبيعة حتى كأن من أكله أكل رصاصا.
ومنها أن يقوم من النوم فيمكث ساعة حتى يستيقظ كما يقع لمن يأكل الربا.
ومنها أن تلعب النفس فيتقايأه قهرا عليه من غير معالجة.
فاعلم ذلك يا أخى ولا تغفل عن تفتيش هذه اللقمة فإنه العطب ولا تأكل طعام من لا يتورع فى كسبه ولو أنه غضب منك ولا تلتفت اليه ولا لقوله "كسرت خاطرنا"
وهذا الامر قل من يتنبه له من مشايخ هذا العصر، بل بعضهم يأكل من طعام المساكين وإذا لاموه قال : خفت أن أكسر خاطره، وما عبد الحق تعالى بشيء أفضل من جبر الخواطر، وهذا من الجهل بقواعد الشريعة، ولا فرق حينئذ بينه وبين من عزم عليه شخص بأن يشرب معه الخمر، فلو قال : إنما شربت جبرا لخاطره حددناه ولم نقبل منه عذرا وحكمنا بفسقه، فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَ) احذر أيضا (مِنَ الْحَيَاءِ الطَّبِيْعِى)
فإنه معدود من جملة الكبر عند القوم
وقد أشار سيدى عمر بن الفارض رحمه الله تعالى اليه بقوله :
تمسك بأيال الهوى واخلع الحيا # وخل سبيل الناسكين وإن جلو
 (وَهُوَ) اى الحياء الطبيعى (أَنْ يَسْتَحِىَ الشَّخْصُ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى بِرَفْعِ الصّْوتِ) بحضرة الناس، وأكثر من يترك ذلك بحضرة الناس أصحاب الأنفس كالقضاء والمباشرين والشيوخ وغيرهم، فإذا كلف أحدهم أن يذكر الله تعالى بحضرة الناس حصل عنده خجل كأنه ارتكب معصية فمثل هؤلاء يجب عليهم الذكر برفع الصوت حتى يخرجوا عن الكبر،
وكان سيدى محمد رحمه الله تعالى يأمر أصحابه برفع الصوت بالذكر فى الأسواق والشوارع والمواضع الخربة المهجورة، ويقول "اذكروا الله تعالى فى هذه الأماكن حتى تشهدكم يوم القيامة وتخرقوا ناموس طبع النفس فإنكم فى حجاب ما لم تخرقوه" فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَ) احذر أيضا (مِنْ غِشِّ الْحِرْفَةِ)
فإن الغش فى الحرفة مذموم شرعا.
وقد روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم مر فى السوق على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت بللا، فقال : ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال يا رسول الله أصابته السماء، أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس! ثم قال صلى الله عليه وسلم ، "من غشنا فليس منا"
ومعلوم أن كل إنسان يعرف فى حرفته ما يقع به التقوى وما به يقع الغش.
وقد جعل الله تعالى العبد أمينا على نفسه فى حرفته، فإذا غش خان دينه ونفسه والناس أجمعين.
وقد قالوا : كل من نصح فى حرفته ولم يعتمد عليها بارك الله له فى رأس ماله من حيث لا يشعر حتى يصير من أوسع الناس مالا، ومن غش حرفته انكشف حاله وتبددت بركته وصار عن قريب يضرب به المثل فى الخمول لأن الله تعالى جعل الفقر فى الغش والبركة فى التقوى،
وقد حث المشايخ سلفا وخلفا على عمل الحرفة تبعا للقرآن العظيم والسنة الشريفة، وأشهدهم فى ذلك السادة الشاذلية، فكان الشيخ أبو الحسن الشاذلى رحمه الله تعالى يقول : "من اكتسب وقام بفرائض ره تعالى عليه فقد كملت مجاهدته"
وكان الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى يقول : "عليكم بالسبب وليجعل أحدكم مكوكه سبحته وقدومه سبحته والسفر سبحته، وقدومه سبحة، والخياطة سبحة، والسفر سبحة".
وقد أجمع العلماء على أن الكسب واجب وجوبا مؤكدا ملحقا برتبة الإيمان، ومعلوم أن من لا كسب له فهو كالمرأة لا حظ له فى الرجولة.
وكان صاحب الوصية رحمه الله تعالى يقول : "حكم الفقير الذى لا حرفة له حكم البومة الساكنة فى الخراب، ليس فيها نفع لأحد"
ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة لم يأمر من أصحابه بترك الحرفة التى بيده بل أقرهم على حرفهم وأمرهم بالنصح فيها.
وكان قدس الله سره يقول : الكامل من يسلك الناس وهم فى حرفهم لا من يأمرهم بترك الحرفة حتى يسلكهم، فإنه ما من أمر مشروع إلا ويمكن العارف أن يوصل صاحبه إلى حضرة الله تعالى منه، بخلاف الأمور التى لم تشرع.
وكان يقول : المؤمن المحترف أكمل عندى من المجاذيب من مشايخ الزوايا الذين يأكلون بدينهم وليس بيدهم حرفة دنيوية تعفهم عن صدقات الناس وأوساخهم.
وقد أكرم الله تعالى المحترفة بأمور فضلوا بها على المتعبدين من غير حرفة؛
الأول : أن أعمال أحدهم له لكونه يأكل من كسبه لا من صدقات الناس وأوساخهم،
الثانى : عدم دعواه العلم وتكبره على الجاهلين فيشهد حقارة نفسه وتعظيم غيره،
الثالث : سلامته من الشبه العقلية فى الله تعالى وفى رسله وأحكامه،
الرابع : إذا وقع فى معصية يصيريشهد قبحها ولا يرى أنه فعل شيئا يكفرها وغير ذلك.
وكان سيدى على الخواص يقول : "عندى أن الذى يأكل من كسبه ولو مكروها كالحجام والقنواتى أحسن من المتعبد الذى يأكل بدينه ويطعمه الناس بصلاحه"
ثم لا يخفى أن الكسب للتكاثر والتفاخر مذموم شرعا
وفى الحديث "من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقى الله تعالى وهو عليه غضبان"
وكان الإمام الشافعى رحمه الله تعالى يقول : "طلب الزيادة من الحلال عقوبة ابتلى الله بها أهل التوحيد" فاعلم ذلك.
 (وَجَاهِدْ نَفْسَكَ)
اى خواطرها فى الشرع
قال الإمام سهل التسترى رحمه الله تعالى : "أسوأ المعاصى حديث النفس ولعل غالب الناس لا يعدون ذلك ذنبا، وإذا اتقى المريد الإصغاء إلى حديث النفس وكان ملازما للذكر اتقد القلب بالذكر، وصار القلب سرا محفوظا وهناك يبعد عنه الشيطان كل البعد، وتبعد عن العبد الخواطر الشيطانية، ولا يصير معه إلا خواطر نفسانية وحينئذ يسعى فى قطعها وإتقانها بميزان العلم" فاعلم ذلك يا أخى
وجاهد نفسك (بِالْجُوْعِ) بطريقه الشرعى وهو تقليل الأكل شيئا فشيئا
وقدم الجوع على غيره لأنه معظم أركان الطريق، ولأنه ليس للنفس فبدايته أمرها شيء أسرع لانقيادها من الجوع، لأنه مذل الملوك فضلا عن غيرهم، ولأنه يحل من الأجزاء الترابية والمائية بقدر ما يكون فيصفو القلب، ولأن باقى الأركان تابع له بالخاصة، ولأن خواطر النفس لا تضعف إلا به.
وذكر الشيخ محي الدين بن العربى رحمه الله تعالى فى الفتوحات المكية : أن الله تعالى لما خلق النفس قال لها : "من أنا؟" فقالت : "من أنا؟"، فأسكنها فى بحر الجوع ألف سنة، ثم قال تعالى : "من أنا؟" فقالت : "أنت ربى".
وكان الشيخ أبو سليمان الدارانى رحمه الله تعالى يقول : "مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع" يعنى أعمالهما.
ولما خلق الدنيا جعل فى الجوع العلم والحكمة، وجعل فى الشبع الجهل والمعصية،
وكان يحى بن معاذ الرازى رحمه الله تعالى يقول : "الشبع نار والشهوة مثل الحطب يتولد منه الإحراق ولا تنطفئ ناره حتى تحرق صاحبها"
وكان سهل بن عبد الله التسترى رحمه الله تعالى يقول : "من أراد أن يأكل فى اليوم مرتين فليبن له (مِعْلَفًا)"،
وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول : "من أراد أن يفر الشيطان من ظله فليقهر شهوته"
وأقاويل السلف فى ذلك كثيرة فاعلم ذلك يا اخى.
وجاهد نفسك بالجوع والسهر المفرطين (وَإِتْعَابِهَا فِى الْأعْمَالِ الشَّاقَةِ) تعذيبا لها لتنقاد لك إذا دعوتها لمرضاة الله تعالى، وذلك لأنها قبل الرياضة تشبه الدابة الحرون، وكالعجل الذى يعلمون الطحين فى الطاحون، فتراهم يجوعونه ويغمون عينيه ويدورونه بالضرب فى الطاحون أو غيرها على الفارغ فلا يزال كذلك حتى يظهر لهم منه كمال الإنقياد فهناك يطعمونه ويفكون الغما عن عينيه. فاعلم ذلك يا أخى.
(وَقِلَّ النَّوْمَ مَا أَمْكَنَكَ)
لأنه ليس فيه فائدة دنيوية ولا أخروية فهو أخو الموت، وقد عدوا من اتباع الهوى إيثار النوم على قيام الليل فى مثل ليالى الصيف، وذلك دليل على عدم محبة الحق تعالى.
وقال "السهر الدائم يذيب الأركان الأربعة ويحلها : الماء، والتراب، والهواء، وانار، وهناك ينظر إلى عالم الملكوت فيشتاق إلى مرضاة الله تعالى"
وكان الشيخ أبو الحسن العزاز رحمه الله تعالى يقول : "بني هذا الأمر على ثلا ثة أشياء : أن لا يأكل إلا عند الفاقة، ولا ينام إلا عند الغلبة، ولا يتكلم إلا عند الضرورة"
وكان ابن الحوارى رحمه الله تعالى يقول : "كل مريد لا يكون فيه ثلاث خصال فهو كذاب : ترك المال، والطعام، والمنام، فلا يأخذ من كل واحد إلا بقدر الضرورة، وهناك يصلح لمجالسة الحق تعالى، فما كل ذاكر مجالس". فاعلم ذلك يا أخى.
(وَالْزَمْ الْعُزْلَةَ)
فإن فيها خيرى الدنيا والآخرة،
وقد روى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى رضي الله تعالى عنه "أن رجلا قال : أى الناس أفضل يا رسول الله؟ قال رجل يجاهد بنفسه وماله فى سبيل الله تعالى، قال ثم من؟ قال رجل يعتزل فى شعب من الشعاب يعبد ربه"،
وكان السرى رحمه الله تعالى يقول : "من أراد أن يسلم له دينه وأن يستريح بدنه ويقل غمه فليعتزل الناس"،
ويؤيده حديث "ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه إلا من فر بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر كالثعلب الذي يروع"
وكان الشيخ أبو بكر الوراق رحمه الله يقول : "ما ظهرت الفتنة من عهد السيد آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقتنا هذا إلا من الخلطة، ومن جانب الناس كان إلى السلامة أقرب"،
وقد أجمعوا على أنه لابد للمريد من العزلة عن أبناء جنسه فى البداية ثم الخلوة فى النهاية،
وكان سيدى الشيخ محمد المنير رحمه الله تعالى يقول : قد غلط قوم فظنوا أن من اعتزل الناس خرج عن كون المؤمن آلف مألوف والحالة أنها أولى بمقام الألفة، لأنه إذا اعتزل الناس صفت نفسه واشتاقت الناس إلى رؤيته فألفوه كثير من المخالط، وأصل الإئتلاف إنما هو بالروح لحديث "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"،
فعلم مما قررناه أنه لايقال العزلة أفضل مطلقا ولا الخلطة أفضل مطلقا لكن العارف أواخر عمره يحن إلى الوحدة كالبداية فلا يصير له وقت يسع الناس كما وقع له صلى الله عليه وسلم فى أواخر عمره حين انزل سورة النصر،
وسئل سيدى على الخواص رحمه الله تعالى عن الفرق بين العزلة والخلوة؟ فقال : "الخلوة تكون عن الأغيار الذين يشغلون عن الله تعالى، والعزلة تكون عن النفس وما تدعو إليه، ويفرق أيضا بأن العزلة ليس من لوازمها الإشتغال بالله تعالى بخلاف الخلوة، فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَ) الزم (الصُّمْتَ)
إلا لضرورة شرعية.
قال صلى الله عليه وسلم "من سره أن يسلم فليلزم الصمت"
وكان الأستاذ القشيرى رحمه الله تعالى يقول : "إنما آثر القوم السكوت لما علموا أن الكلام من الآفات ثم لما فيه من حظ النفس وإظهار صفات المدح والميل إلى من يميز عن أشكاله بحسن النطق وغير هذا من آفات الكلام"
وكان الشيخ أبو بكر بن عياش رحمه الله تعالى يقول : "كثرة الكلام تنشف الحسنات كما تنشف الأرض بعد الماء"
وكان الفضيل رحمه الله تعالى يقول : "من عد كلامه من عمله قل كلامه، وما ورثوا الحكمة إلا بالصمت والتفكر، والورع فى النطق أشد منه فى اللقمة والثياب"
وقد أجمعوا على أن الأنوار الربانية تخرج من قلب المريد إذا تكلم بلغو ويصير قلبه مظلما، وأنه متى انهدم ركن من أركان الطريق تبعه الباقى، وذكروا أن معظم الأركان أربعة : الجوع، والسهر، والعزلة، والصمت، وما زاد على هذه فهو من التوابع،
وأنشدوا :
بيت الولاية قسمت أركانه # ساداتنا فيه من الأبدال
ما بين صمت واعتزال دائما # والجوع والسهر النزيه الغالى
فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَلَا تَتْرُكْ قِيَامَ اللَّيْلِ)
فإنه نور المؤمن يوم القيامة يسعى من بين يديه ومن خلفه،
وفى كلامهم : من طال وقوفه بين يدي الله تعالى فى الظلام ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم تزلزل الأقدام،
وقد روى مسلم فى صحيحه "أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة فى جوف الليل"
وروى البيهقى والنسائى : "يحشر الناس فى صعيد واحد يوم القيامة فينادى مناد فيقول : أين الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنه بغير حساب، ثم يؤمر بسائر الناس إلى الحساب"
وروى الترمذى : "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومكفرة السيئات ومنهاة عن الإثم" وفى رواية للطبرانى "ومطردة للداء عن الحسد".
وروى ابن أبى الدنيا والبيهقى : "أشراف أمتى حملة القرآن وأصحاب الليل"
وروى الطبرانى فى الكبير : "من بات ليلة فى خفة من الطعام والشراب يصلى تداركت حوله الحور العين حتى يصبح"
وكان سيدى أحمد بن الرفاعى رحمه الله تعالى يقول لأصحابه : "عليكم بالقيام فى الثلث لآخر من الليل ولا تفرطوا فى ذلك فإنه ما من ليلة من ليالى السنة إلا وينزل فيها رزق من السماء فيفرق على المستيقظين ويحرم منه النائمون"
وقد أوحى الله تعالى إلى السيد داود عليه الصلاة والسلام : "يا داود كذب من ادعى محبتى فإذا جن الليل نام عنى"
وكان سيدى على الخواص رحمه الله تعالى يحث أصحابه كثيرا على نية قيام الليل ويقول : "إن الشارع قد رتب الثواب على النيات لا على العمل، فمن عزم على خير ولا يقسم له أعطاه الله تعالى أجر نيته فإنه قال فى الحديث "إنما لكل امرئ ما نوى" ولم يقل لكل امرئ ما فعل".
فعلم أن من واظب على ترك قيام الليل ليس له فى طريق الصالحين نصيب،
وتأمل يا أخى أن من يعكس فى حضوره موكب السلطان كيف يقطعون جامكيته تبصرة وذكرى لأولى الألباب، فاعلم ذلك يا أخى.
ولا تترك قيام الليل، فقد ورد أن أم السيد سليمان عليه السلام قالت : "يا بنى لا تترك قيام الليل، فإن ترك قيام الليل يدع فقيرا يوم القيامة"
 (وَلْيَكُنْ) اى قيام الليل (فِى بَيْتِكَ)
لما ورد "صل فى زوايا بيتك يكن نور بيتك فى السماء كنور الكواكب والنجوم لأهل الدنيا"
وفى الصحيحين "أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة"
وقال بعض السلف : "إن فضل صلاة النافلة فى البيت كفضل الفريضة فى المسجد"
وعن أبى الجلد قال : "لقي عيسى عليه الصلاة والسلام إبليس، فقال له : يا إبليس، أسألك بالحي القيوم ما الذى يسل جسمك ويقطع ظهرك؟
فقال إبليس : يا نبي الله، لولا أنك سألتنى بالحي القيوم ما أخبرك. أما الذى يسل جسمى فصهيل الخيل فى سبيل الله تعالى، وأما الذى يقطع ظهرى فصلاة الرجل الفريضة فى مسجد والنافلة فى بيته"، فاعلم ذلك يا أخى.
ولا تشرع فى قيام الليل إلا (بَعْدَ انْقِضَاءِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ) من الليل، وذلك لأن نصب الموكب الإلهى لا يكون إلا بعد دخول النصف الثانى من الليل، وهو اول وقوف كبراء الحضرة الإلهية،
ومن الأدب أن لا يقف العبد بين يدى سيده إلا بعد وقوف من هو أكبر منه عادة، وعلى ذلك أهل حضرة ملوك الدنيا، فلا يقف الأدون إلا بعد وقوف الأكبر،
وقد كان سيدى على الخواص رحمه الله تعالى إذا جاء إلى الجامع لصلاة الصبح ولم ير فى الجامع أحدا يقف على بابه خاضعا ذليلا ويقول : "مثلى لا يدخل إلى حضرة سيده الخاصة إلا تبعا لغيره"
(تنبيه)
ينبغى لمن ثقل عليه قيام الليل وترادف عليه الكسل أن يفتش نفسه، فربما يكون ذلك من وقوع فى المعاصى الباطنة كرياء وكبر وعجب وحقد وحسد ومكر وحب محمدة ودنيا وغير ذلك، فيبادر إلى التوبة من مثل ذلك، وإلا فعل الأمور المكفرة للذنوب فإن الذنوب إذا كفرت عن العبد فقد طهرت ذاته وما بقي لها مانع من الوقوف بين يدى ربها فى تلك المواكب الشريفة إلا عدم القسمة,
وكان سيدى أفضل الدين رحمه الله تعالى ونفعنا ببركته : إذا وجد فى قلبه شيئا من الأمراض الباطنة يترك قيام الليل ويقول : "أستحى أن أقف بذاتى المتلطخة بالقذر بين أصفياء الله تعالى"،
وكان بعضهم إذا نام عن حضور الموكب الإلهى فى ليلة من الليالى يقول : "لك الفضل يا رب الذى لم توقف هذه الذات النجسة القذرة بين أهل حضرتك الطاهرين المطهرين".
قلت : وهذا وإن كان فيه خير كثير من جهة هضم النفس فينبغى للعبد أن يندم ويحزن على فوات حظه من الوقوف بين يدى ربه تعالى فى تلك المواكب الشريفة وقت تفرق الغنائم، فاعلم ذلك يا أخى.
(وَ) لا تترك أيضا (صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ)
فقد قالوا : مااجتمع جماعة إلا وفيهم ولي الله تعالى يشفعه الله تعالى فى رفقته،
وثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة : أن رجلا أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ليس لى قائد يقودنى إلى المسجد فهل لى رخصة أن أصلي فى بيتى؟ فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال : "هل تسمع النداء بالصلاة؟" قال : نعم، قال : "فأجبه".
وقد كان السلف يعدون فوات صلاة الجماعة مصيبة، وقد وقع أن بعضهم خرج إلى حائط له "يعنى حديقة نخل" فرجع وقد صلى الناس بصلاة العصر، فقال : إنا لله فاتتنى صلاة الجماعة أشهدكم على أن حائطى على المساكين صدقة.
وفاتت عبد الله بن عمر رضى الله عنهما صلاة العشاء فى الجماعة فصلى تلك الليلة حتى طلع الفجر جبرا لما فاته من صلاة العشاء فى الجماعة،
وعن عبيد الله بن عمر الفواريرى رحمه الله تعالى قال : لم تكن تفوتنى صلاة فى الجماعة فنزل بى ضيف فشغلت بسببه عن صلاة العشاء فى المسجد فخرجت أطلب المسجد لأصلى فيه مع الناس فإذا المسجد كلها قد صلى أهلها وغلقت فرجعت إلى بيتى وأنا حزين على فوات صلاة الجماعة فقلت : ورد فى الحديث "إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذ سبعا وعشرين" فصليت العشاء سبعا وعشرين مرة ثم نمت فرأيتنى فى المنام على فرس مع قوم على خيل وهم أمامى، وأنا أركض فرسى خلفهم فلا ألحقهم، فلتفت إلى واحد منهم وقال : تتعب فرسك فلست تلحقنا، فقلت : ولم يا أخى؟ قال : لأنا صلينا العشاء فى الجماعة وأنت صليت وحدك فاستيقظت وأنا مهموم حزين.
وقال بعض السلف : "ما فاتت أحدا صلاة الجماعة إلا بذنب أصابه"
وقد كانوا يعزون أنفسهم سبعة أيام إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، وقيل ركعة، ويعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى مع الإمام، فاعلم ذلك يا أخى.
 (وَتَبَاعَدْ عَنِ الْوُقُوْعِ فِى مَظَالِمِ الْعِبَادِ)
مطلقا لأنه ديوان لا يتركه الله تعالى.
وأما ظلم العبد لنفسه بارتكاب المعاصى دون الشرك بالله تعالى وإن كان هو يرجع إلى ظلم النفس أيضا فإنه ديوان لايعبأ الحق تعالى به يغفر بالتوبة.
قال سيدى على الخواص رحمه الله تعالى : مظالم العباد على ثلاثة أقسام، قسم يتعلق بالنفوس، وقسم يتعلق بالأموال، وقسم يتعلق بالأعراض.
فأما النفوس فلها أحكام عديدة فى مثل قتل العمد والخطأ ووجوب القود والدية والكفارة وغير ذلك مما هو مذكور فى كتب الفقه.
وأما الأموال فإنه لا بد من ردها إلى المظلوم أو وارثه وإن تعذر ذلك لم يبق غير التصدق بها عن صاحبها على مذهب من يرى ذلك، فإن عجز عن رد المظالم فليستكثر  من الحسنات التى يوفى منها الغرماء عند الميزان وإلا فليتأهب لتحمل أثقال المظلوم وأوزاره يوم القيامة كما ورد فى الصحيح "أن من كانت له حسنات أخذ من حسناته وأعطى المظلوم، ومن لم يكن له حسنات طرح عليه من سيئات المظلوم وكتب له كتاب إلى النار"
وأما الأعراض، فقد ذكر بعض محققي الأئمة فيها تفصيلا حسنا لعله أحوط الوجوه فى هذا الباب، وهو أن تلك المظلمة إن كانت غيبة أو نميمة فلا يخلو الأمر فيها من أحد حالين : إما أن تكون قد بلغت المظلوم أو لم تبلغه فإن بلغت تعين التحلل منها، وإن لم تبلغه كان تبليغها له أذى جديدا فيورث من الحقد وانقطاع المودة ونحو ذلك ما هو أصعب من تلك المظلمة فالطريق فى ذلك كثرة الإستغفار له دون تبليغه وطلب التحلل منه،
ثم لا يخفى عليك يا أخى أن من الذنوب ما يشبه أمره من جهة كونه من مظالم النفس أو مظالم العباد كالزنا واللواط مثلا، فإن الأمر فى ذلك يحتاج إلى تفصيل ليظهر بواسطة رجائه الصواب، وهو أن يقال : إن كان المفعول به مبتدئا كانت تلك المظلمة من مظالم النفس، وإن كان الفاعل قد راوده وعاوده كان ذلك من مظالم العباد الصعبة، لأنه آذى تلك الصورة وقهرها وجرها إلى المعصية، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأيضا فإنه هتك عرضها وآذى أهلها وحملهم العار وغير ذلك .
 (تنبيه)
الأعراض أشد من الأموال . قال العلماء : لو أن شخصا أخذ مال شخص ثم تورع فجاء به بعد موته إلى ورثته وإلى جميع أهل الأرض فجعلوه فى حل ما كان فى حل فعرض المؤمن أشد من ماله،
ومن كلام الشيخ أبى المواهب الشاذلى رحمه الله تعالى : "مما يوقف المريد عن الترقى وقوعه فى غيبة أحد من المسلمين"، ومن ابتلي بوقوعه فى ذلك فليقرأ الفاتحة وسورة الإخلاص والمعوذتين ويجعل ثوابهن فى صحائف ذلك الشخص، فإنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وأخبرنى بذلك وقال : "إن الغيبة والثواب يقفان بين يدي الله تعالى وأرجو أن يتوازنا" فاعلم ذلك يا أخي .
 (وَأَكْثِرْ مِنَ الْإِسْتِغْفَارِ)
تبعا للقرآن العظيم،
وفى الحديث من رواية البخارى : " إنى لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه فى اليوم سبعين مرة".
ولمسلم : "وإنى ليغان علي قلبي وإنى لأستغفر الله تعالى مائة مرة".
ولابن حبان : "إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى المجلس الواحد رب اغفرلي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة".
وفى وصية سيدى أبى الحسن الشاذلى رحمه الله تعالى : عليك بالإستغفار وإن لم يكن هناك ذنب واعتبر باستغفار المعصوم الأكبر صلى الله عليه وسلم بعد البشارة واليقين بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
وينبغي كثرة الإستغفار عند أول الليل وآخره وأول النهار وآخره لحديث ابن ماجه : "ما من حافظين يرفعان إلى الله تعالى فى يوم صحيفة فيرى فى أول الصحيفة وفى آخرها استغفارا إلا قال الله تعالى : "اشهدكم أني قد غفرت لعبدى ما بين طرفي الصحيفة" فطوبى لمن وجد فى صحيفته استغفارا كثيرا".
وعند توقف الرزق لحديث ابن حبان : "من لزم الإستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لايحتسب".
وعند وقوع الذنب لما روى الحاكم فى صحيحه : "ما من مسلم يعمل ذنبا إلا وقف عليه الملك الموكل بإحصاء ذنوبه ثلاث ساعات فإن استغفر الله تعالى فى شيء من تلك الساعة لم يوقعه عليه ولم يعذب عليه يوم القيامة".
وعند ختام جميع الأعمال، فقد أجمع العارفون على استحباب ختام جميع الأعمال بالإستغفار .
وفى الحديث : " أنه كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى عقب كل مكتوبة ثلاث مرات"، تشريعا لأمته وتنبيها لهم على نقص طاعتهم، فعلم أنه ينبغي للعبد أن يكثر من الإستغفار ليلا ونهارا سواء تذكر ذنوبا معينة أو لم يتذكر، وبذلك يأمن العبد من نزول البلاء عليه لقوله تعالى : "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
 (تنبيه)
يتأكد على العبد كثرة الإستغفار كلما اعتقد الناس فيه الخير وهو فى الباطن على خلاف ذلك، وما دام للعبد سريرة يفتضح بها فى الدنيا والآخرة فاللائق كثرة الإستغفار والخوف لتلبيسه على الناس،
وقد قالوا : أشر الناس من يظن الناس فيه الخير وهو فى الباطن على خلاف ذلك . فإذا تخلق بما ظنه الناس فيه كان له حكم آخر .
فإن من شرط الكامل أن يشهد كماله ونقصه معا ليعطين كلا منهما حقه من الشكر والإستغفار، وما دام ناقصا فهو تحت حكم ما تشهده من نقص أو كمال فى حالتين مختلفين لأنه صاحب عين واحدة، بخلاف الكامل فإنه صاحب عينين أو عين لا تزاحم عين صاحبتها، وقل من يتفقد نفسه فى ذلك، والغالب فى الناس محبتهم لكثرة اعتقاد الناس فيهم فوق ما يستحقونه ولا يكاد أحدهم  يستغفر من ذلك، فاعلم يا أخي .
 (وَالْزَمْ الْحَيَاءَ)
أى الحياء الشرعي . فإنه من الإمان،
وقد قالوا : العبادة اثنان وسبعون بابا أحد وسبعون فى الحياء من الله تعالى وواحد فى جميع أنواع البر،
وفى الحديث : "استحيوا من الله تعالى حق الحياء" . قالوا : إنا نستحي يا رسول الله والحمد لله . قال : "ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله تعالى فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحيات الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحي من الله تعالى حق الحياء".
وكان الفضيل رحمه الله يقول : خمس من علامات الشقاء : القسوة فى القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة فى الدنيا وطول الأمل .
وكان الثري رحمه الله يقول : إن الحياء والأنس يطرقان القلب، فإن وجدا فيه الزهد والورع حطا وإلا رحلا، وعلامة المستحي عدم وقوعه فى الذنب . قلت : لعل المراد بعدم الوقوع عدم الإصرار .

وقد سئل سيدى على المرصفى رحمه الله تعالى عن معنى قولهم : لا يكون المريد مستقيما فى التوبة حتى لا يكتب عليه ملك الشمال ذنبا عشرين سنة، هل المراد أنه لا يقع فى معصية أصلا أم المراد أنه لا يصر بل يتوب ويستغفر على الفور؟
فقال : "المراد الثانى، لأن المريد الصادق إذا وقع فى الذنب بادر إلى التوبة والإستغفار فانمحى عند ذلك الذنب على الأثر فلا يجد الملك شيئا يكتبه لأنه يمكث أكثر من ساعة لعل العبد يتوب ويستغفر، فإذا ندم العبد واستغفر ترك الملك كتابة الذنب" .
ثم لايخفى أن الملكين لا يكتبان إلا المعاصي القولية والفعلية إذا تلفظ بها صاحبها أو قال : فعلت كذا وكذا لقوله تعالى فيهما : "كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون". والعلم غير الكتابة، فافهم .
 (وَ) الزم أيضا يا أخي (الْأَدَبَ)
فقد قالوا : لا ينبغي للرجل أن يطلب العلم والحديث حتى يعمل فى الأدب عشرين سنة،
وقالوا : كاد الأدب أن يكون ثلثي الدين،
وقالوا : من ترخص فى الأدب رجع من حيث جاء،
وقالوا : من لا أدب له فلا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد،
وقالوا : العبد يصل بعبادته إلى الجنة ولا يصل إلى حضرة الله تعالى إلا بالأدب فى العبادة ومن لم يراع الأدب فى طاعته فهو محجوب عن ربه تعالى،
وقالوا : ترك الأدب موجب للطرد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب،
وقالوا : ما وصل أولياء الله تعالى إلى ما وصلوا بكثرة الأعمال، وإنما وصلوا بالأدب وحسن الخلق, فاعلم ذلك يا أخي .
 (وَلَا تَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى)
فقد قالوا : من نسي الله تعالى فقد كفر به,
وقالوا : كل من تساهل بالغفلة ولم تكن عليه أشد من ضرب السيوف فهو كاذب لا يجيء منه شيء فى الطريق،
وقالوا : إذا ترك العارف الذكر نفسا أو نفسين قبض الله تعالى له شيطانا، فهو له قرين، وأما غير العارف فيسامح بمثل ذلك ولا يؤاخذ إلا فى مثل درجة أو درجتين أو زمن أو زمنين أو ساعة أو ساعتين على حسب المراتب .
وقد روى الشيخان : قال الله تعالى : "أنا عند ظن عبدى بي وأنا معه إن ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسي، وإن ذكرنى فى ملإ ذكرته فى ملإ خير من ملائه...".
وروى ابن حبان : "أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون".
وروى مسلم والنسائ والبزار : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها فى درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : بلى  . قال : ذكر الله عز وجل".
وروى الطبرنى : "ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها".
وروى أيضا : "من لم يذكر الله تعالى فقد برئ من الإيمان".
وروى أيضا : "مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكر مثل الحي والميت".
وروى أيضا : "يقول الله تعالى :"ياابن آدم إنك إذا ذكرتنى شكرتنى وإذا نسيتنى كفرتنى"".
قالوا : وهذاالنسيان يطلق على نسيان غفلة الجهل بالله تعالى والإشراك به، وعلى نسيان غفلة الإعراض عن الله تعالى وطريقه، وكلاهما مذموم .
وروى الترمذى : "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال : "حلق الذكر".
وروى أيضا : "من صلى الصبح فى جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة".
وروى البزار : "ذاكر الله تعالى فى الغافلين بمنزلة الصابر فى الفارين".
وروى أيضا : "ما من قوم جلسوا مجلسا وتفرقوا عنه ولم يذكروا الله تعالى فيه إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة".
وروى ابن أبى شيبة : "ما من آدمي إلا ولقلبه بيتان : فى أحدهما الملك، وفى الآخر الشيطان، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكر الله تعالى وضع الشيطان منقاره فى قلبه ووسوس له".
وروى ابن حبان : "سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم"، قيل : ومن أهل الكرم؟ قال : "أهل مجالسة الذكر".
وروى أبو داود : "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل".
وروى الإمام أحمد : "غنيمة مجالس الذكر الجنة".
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى : وهذا الحديث وأمثاله يلحق بدرجة الأمر، لأن كل فعل مدحه الشارع أو مدح فاعله لأجله أو وعد عليه بخير عاجل أو آجل فهو مأمور به، لكنه تردد بين الإيجاب والندم، والأحاديث فى فضل الذكر كثيرة، فاعلم ذلك يا أخي ولا تترك الذكر (وَلَوْ مَعَ الْغَفْلَةِ
قال الإمام سهل رحمه الله تعالى : سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة .
وقال صاحب الحكم : لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله تعالى فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره اشد من غفلتك مع وجود ذكره، وعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور وما ذلك على الله بعزيز . فاعلم ذلك يا أخى .
ولا تترك الذكر
(فَإِنَّهُ عُمْدَةُ الطَّرِيْقِ وَأَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ)
قال الأستاذ أبو على الدقاق رحمه الله تعالى : "الذكر ركن قوي فى طريق الله تعالى" بل هو العمدة فى هذا الطريق، ولا يصل أحد إلى الله تعالى إلا بدوام الذكر .
وقال الشيخ أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى : إنما كان ذكر الله أكبر من الصلاة لأن الصلاة وإن كانت عظيمة، فقد لا تجوز فى بعض الأوقات بخلاف الذكر، فإنه مستدام فى عموم الحالات .
وقال أيضا : اختلفوا أيما أفضل الذكر سرا أو جهرا، والذى أقول به أن الذكر جهرا أفضل لمن غلبت عليه القوة من أهل البداية، والذكر سرا أفضل لمن غلبت عليه الجمعية من أهل النهاية .
وقال أيضا : أفضل صيغ الذكر للمريد قول "لا إله إلا الله" ما دام له هوى، فإذا فنيت أهويته كان ذكر الجلالة أنفع له، لأن ما تم هناك ما يغني حقيقة ، فافهم .
 (وَ) اعلم أن الذكر (مَنْسُوْبُ الْوِلَايَةِ) أي مرسوم من الله تعالى للعبد كمراسم ملوك الدنيا بالوظائف ولله المثل الأعلى فمن وفق لدوام ذكر الله تعالى فقد أعطي المرسوم بأنه ولي الله تعالى ومن سلب ذلك فقد عزل عن الولاية ، فافهم .
 (وَ) اعلم أن الذكر (أَسْرَعُ فِى الْفَتْحِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ)
قال سيدى على المرصفى رحمه الله تعالى : قد عجز الأشياخ فلم يجدوا للمريد دواء أسرع فى جلاء قلبه من مداومة الذكر، فحكم الذكر فى الجلاء للقلب كحكم الحصى فى النحاس، وحكم غير الذكر فى سائر العبادات كحكم الصابون فى النحاس، وذلك يحتاج إلى طول زمن .
وقال أيضا : السالك من طريق الذكر كالطائر المجد إلى حضرات القرب، والسالك من غير طريق الذكر كالزمن الذى يزحف تارة ويسكن أخرى مع بعد المقصد فربما قطع مثل هذا عمره كله ولم يصل إلى مقصده .
وأجمعوا على أن الفتح فى الليل أقرب منه فى النهار،
وقالوا : كل من لم يذكر الله تعالى من غروب الشمس إلى الصباح فى مجلس واحد ما عدا وقت الصلاة فلا يجيء منه شيء فى الطريق،
وقالوا : من لم يحصل له من الذكر حال قوي وحضور مع الله تعالى فليس له قطع المجلس . فافهم .
 (وَ) اعلم أنه (لَا يَصِلُ أَحَدٌ إِلَى الْحَضْرَةِ) الإلهية (إِلَّا بِهِ) أي بالذكر .
قال سيدى أبو المدين التلمسانى رحمه الله تعالى : من دامت أذكاره صفت أسراره، ومن صفت أسراره كان فى حضرة الله تعالى قراره وإيضاح ذلك أن الحق تعالى لا يقرب إلى حضرته إلا من استحيا منه حق الحياء، ولا يصح لأحد أن يستحي كذلك إلا إن حصل له الكشف ورفع الحجاب، ولا يصح له الكشف ورفع الحجاب إلا بملازمة الذكر، وهذا طريق يصل بها المريد بسرعة، والمراد بحضرة الله تعالى حيث أطلقت فى لسان القوم : شهود العبد أنه بين يدي الله تعالى فما دام هذا مشهده فهو فى حضرة الله تعالى، فإذا حجب عن هذا المشهد فقد خرج منها . فافهم .
 (وَ) اعلم أنه (لَا يَحْصُلُ) لأحد (الْكَشْفُ وَالْإِخْلَاصُ) الكامل (إِلَّا بِهِ)
أي بالذكر وقد تقدم أن الكشف لا يحصل إلا به,
والكشف على نوعين : حسي، وخيالي . فالخيالي : أن يغمض العبد عينيه عند رؤية شخص أو رؤية فعل، فإن بقي له الكشف فهو خيالي، وإن زال فليعلم أن الإدراك قد تعلق بما كان مخصوصا، ومن كشف له عما يفعله الناس فى قعور بيوتهم فهو كشف شيطاني يجب عليه التوبة منه فورا،
وإيضاح قولهم : الكامل لا كشف له أي لأنه مشغول بأداء أوامر ربه تعالى التى عليه فى كل نفس فلا تدعه الأوامر المتوجه إليه يتفرغ لغيرها .
وأما كون الإخلاص الكامل لا يحصل إلا بالذكر فهو كذلك وقد رووه فى رسائلهم . فقالوا : إن أول ما يتجلى للعبد إذا اشتغل بالذكر توحيد الفعل لله تعالى وتوحيد الملك لله تعالى وتوحيد الوجود لله تعالى، فإذا تجلى له توحيد الفعل لله خرج كشفا ويقينا عن شهود كون الفعل له وخرج به أيضا عن طلب الثواب عليه وعن الكبر والعجب والرياء ودخل فى قضاء الإخلاص الكامل، فافهم .
وأكثر من ذكر الله تعالى (فَإِنَّهُ بِهِ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ) لحديث الطبراني : "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله تعالى فيمن عنده".
وقالوا : أول ما تنزل الرحمة على مجالس الذكر، فافهم .
 (وَ) اعلم أن بذكر الله تعالى (يَزُوْلُ الْغَمُّ) الواقع للناس فى هذه الدار، فإن الهم والغم فيها إنما هو بقدر الغفله عن الله تعالى، فمن أراد دوام السرور فليداوم على الذكر، فلا يلومن العبد إلا نفسه إذا ترادفت عليه الهموم والغموم، فإن ذلك إنما هو جزاء بقدر إعراضه عن ربه عز وجل . فافهم .
واعلم أن بذكر الله تعالى تذهب القسوة عن القلب . قال الحكيم  أبو محمد الترمذى رحمه الله تعالى : "ذكر الله تعالى يرطب القلب ويلينه ، فإذا خلا عن الذكر أصابته حرارة النفس ونار الشهوة فقسا ويبس وامتنعت الأعضاء عن الطاعة". فافهم .
واعلم أن بمداومة ذكر الله تعالى تخمد الأمراض الباطنة من كبر وعجب ورياء وحسد وسوء ظن وحقد وغل ومكر وحب محمدة وغير ذلك . فافهم .
واعلم أن بمداومة ذكر الله تعالى تنقطع الخواطر الشيطانية .
والفرق بينها وبين الخواطر النفسانية أن خواطر الشيطان أكثره يدعو إلى المعاصي، وخاطر النفس أكثره يدعو إلى اتباع الشهوة,
وفرقوا بينهما أيضا بأن النفس إذا طالبتك بشيء ألحت فلا تزال ولا ترجع ولو بعد حين حتى تصل إلى مرادها إلا أن يدوم صدق المجاهدة . وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة فخالفته فاته ذلك ويوسوس بزلة أخرى، لأن جميع المخالفات عنده سواء .
ومعنى الخاطر خطاب يرد على الضمائر .
واعلم أن بذكر الله تعالى تدفع الآفات .
قال الإمام ذو النون المصري رحمه الله تعالى : من ذكر الله تعالى حفظه من كل شيء .
وقالوا : الذكر سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم من الجن والإنس وبه يد فعون الآفات التى تطرقهم،
وقالوا إن البلاء إذا نزل على قوم وفيهم ذاكر حاد عنه البلاء،
وقالوا : إن الذكر إذا تمكن من القلب صار الشيطان يصرع إذا دنا من الذاكر كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فتجتمع عليه الشياطين . فيقولون : ما باله؟ فيقال : إنه دنا من ذاكر فصرع .
فاعلم ذلك يا أخي وأكثر من ذكر الله تعالى فإنه يمنع الشيطان من ركوبنا .
قال الشيخ أفضل الدين رحمه الله تعالى : إن الشيطان يركب أحدنا كلما غفل عن ذكر الله تعالى فإنه دائما واقف بجاه قلب العبد، فكلما غفل عن ذكر الله تعالى استحوذ عليه، وكلما ذكر الله تعالى نزل عنه، فلو كشف لأحدنا لرأى إبليس يركبه كما يركب أحدنا الحمار ويصرفها كيف شاء طول الليل والنهار كلما غفل وينزل عنه كلما ذكر الله تعالى
وأجمع القوم على أن الذكر مفتاح الغيب وجاذب الخير وأنيس المستوحش وجامع لشتات صاحبه، وإذا غلب على الذاكر امتزج بروج الذاكر حب اسم المذكور حتى أن بعض الذاكرين وقع على رأسه حجر فقطر الدم على الأرض واكتتب الله الله، فلو لم يكن من شرف الذكر إلا أنه لا يوقت بوقت لكان ذلك كفاية فى شرفه . وأجمعوا على أنه لا ينبغى تركه ولو مع الغفلة . فافهم .
واعلم أن فوائد الذكر لا تنحصر لأن الذاكر يصير جليس الحق تعالى من الأسرار والعلوم كلما ذكر لأنها حضرة لا يرد عليها أحد ويفارقها بغير مدد، لكن مع الحضور،
فيقال لمن ادعى أنه حضر بقلبه فى ذكره مع ربه تعالى : ما ذا أتحفك وأعطاك فى هذا المجلس؟
فإن قال : ما أعطانى شيأ . قلنا له : وأنت الآ خر لم تحضر معه فى ذكره، فاتخذ لك شيخا يزيل عنك الموانع المانعة لك عن الحضور، فإن لم يجد له شيخا، قلنا له : أكثر من ذكر الله تعالى باللفظ حتى يصير الحق تعالى مشهودك وهناك يصح الفتح، لأن الذكر لله تعالى حقيقة هو استصحاب شهود العبد أنه بين يدي ربه تعالى, والذكر باللسان إنما هو وسيلة إليه، فإذا حصل له الشهود استغنى عن ذكر اللسان فلا يذكر باللسان إلا فى محل يقتدى به فيه لا غير، لأن حضرة شهود الحق تعالى حضرة بهت وخرس يستغنى عن الذكر إذ هو بمنزلة الدليل، فإذا حصلت الجمعية بالمدلول استغنى العبد عن الدليل . فاعلم ذلك فإنه نفيس .
ولما ذكر شيئا من فضائل الذكر أخذ يتكلم على شيء من واجباته فقال :
 (وَلَا تُشْرِكْ مَعَهُ) أي مع الذكر (غَيْرَهُ)
فقد أجمعوا على أن كل شيء أشركه المريد مع الذكر قطعه عن سرعة السير وإبطاء فتحه بقدره كثرة وقلة .
وقالوا :يجب على الشيخ أن يأمر المريد أن يذكر الله تعالى بلسانه بشدة وعزم، فإذا تمكن من ذلك يأمره أن يستوي فى الذكر بين قلبه ولسانه، ويقول له : اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك بين يدي ربك تعالى أبدا بقلبك ولا تترك الذكر حتى يحصل لك منه حال وتصير أعضاؤك كلها ذاكرة لا تقبل الغفلة عن الله تعالى، ولا تزد على الفرائض والسنن المؤكدة، ولا تشتغل بقراءة القرآن الكريم ولا بغيره فإن ذلك إنما هو ورد الكمل الذين عرفوا عظمة الحق تعالى,
ثم بعد أن يلقنه الذكر يأمره بالجوع على التدريج شيئا فشيئا لئلا يقل قواه فينقطع عن الذكر, ويأمره أيضا بقلة اللغو والنوم وباعتزال الناس فإنه لا بد مع الإشتغال بالتوحيد من ذلك، وإلا فكل شيء حصل من نور التوحيد تطفيه ظلمة الأكل واللغو كما هو مقرر فى أركان الطريق، وقد عجز الأشياخ عن أن يوصلوا مريدا مع إخلاله بالأركان فلم يقدروا،
وقوله (وَلْيَكُنْ) أي الذكر جهرا
فإن الذكر جهرا أنفع لمن غلبت عليه الجمعية،
وقد أجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر وإن ذكر السر والهويني لا يفيده رقيا، وينبغي أن يكون الجهر برفق فإنه إذا كان بغير رفق ربما يتربى له فتاق فى بطنه فيتعطل جهره،
وقوله (بِقُوَّةٍ)
أي يجب على المريد أن يذكر بقوة،
فقد قالوا : إذا ذكر المريد ربه بشدة وعزم طويت له مقامات الطريق بسرعة من غير بطء فربما قطع فى ساعة ما لا يقطعه غيره فى شهر وأكثر،
وقالوا : يجب على المريد أن يذكر بقوة تامة بحيث لا يبقى فيه متسع ويهتز من فوق رأسه إلى أصبع قدميه، والدليل على ذلك قوله تعالى : "ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة"، فكما أن الحجر لا ينكسر إلا بقوة كذلك الذكر لا يؤثر فى جميع شتات قلب صاحبه إلا بقوة،
وقوله (فِى جَمَاعَةٍ)
اي يجب أن يكون الذكر فى جماعة، لأن الذكر فى الجماعة أكثر تأثيرا فى رفع الحجب،
وقد أجمع العلماء سلفا وخلفا على استحباب ذكر الله تعالى جماعة فى المساجد وغيرها من غير نكير بشرطه،
وقد شبه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ذكر الإنسان وحده وذكر الجماعة بأذان المنفرد وأذان الجماعة، قال : فكما أن أصوات المؤذنين جماعة تقطع جرم الهواء أكثر من صوت مؤذن واحد، كذلك ذكر الجماعة على قلب واحد أكثر تأثيرا فى رفع الحجب لكون الحق تعالى شبه القلوب بالحجارة، ومعلوم أن الحجر لا ينكسر إلا بقوة  جماعة مجتمعين على قلب واحد، لأن قوة الجماعة اشد من قوة شخص واحد .
فإن قيل : أيما أفضل ذكر "لا إله إلا الله" أو زيادة "محمد رسول الله؟" فالجواب : الأفضل فى ذكر السالكين "لا إله إلا الله" دون غيرها حتى تحصل لهم الجمعية مع الله تعالى بقلوبهم، فإذا حصلت فالأمرظاهر، وإيضاح ذلك أن محمدا رسول الله إقرار والإقرار يكفي فى العمر مرة واحدة، والمقصود من تكرار التوحيد كثرة الجلاء لحجب النفس،
قوله (مَعَ التَّعْظِيْمِ)
أي يجب على الذاكر أن يستحضر عظمة الحق تبارك وتعالى قبل الشروع فى الذكر .
قال الشيخ أبو بكر الكناني رحمه الله تعالى : من شرط الذاكر أن يصحبه الإجلال والتعظيم له وإلا لم يفلح صاحبه فى مقامات الرجال،
وكان يقول : والله لو لا أنه تعالى فرض علي ذكره لما تجارأت أن اذكره إجلالا له مثلي يذكر الحق تعالى ولم يغسل فمه بألف توبة مما سواه قبل ذكره .
وأجمعوا على أن من لم يتحقق بآداب الذكر وهي عشرون أدبا فبعيد عليه الفتح، ومن واجبات الذكر التوبة من كل ما لا يعني قبل الشروع فيه، وكثرة الشكر بعده، وعدم الشرب عقبه، وعدم الإشتغال بجميع حقوق الخلق إلا ما كان عونا على السير .
وهذا آخر ما يسره الله تعالى بجمعه على "الوصية السنية" وأسأل الله تعالى من فضله أن ينفع به كل من وقف عليه، وأن يستر فضائحنا فى الدارين ، وأن لا يعاجلنا بالعقوبة، وأن يصلى ويسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

"تم الكتاب والحمد لله أولا وآخرا"

إن تجد فى التركيب والإعراب # عـيـبا فكن مـصلحا بالتـصويب


والله أعلم


Post a Comment

Cookie Consent
We serve cookies on this site to analyze traffic, remember your preferences, and optimize your experience.
Oops!
It seems there is something wrong with your internet connection. Please connect to the internet and start browsing again.
AdBlock Detected!
We have detected that you are using adblocking plugin in your browser.
The revenue we earn by the advertisements is used to manage this website, we request you to whitelist our website in your adblocking plugin.
Site is Blocked
Sorry! This site is not available in your country.