قَطْرُ الْغَيْثِ
فِى
شَرْح مَسَائِلِ أبِياللَّيْثِ
تأليف
العَالِمِ الْعَلاَّمَة الحبْر البَحْرِ الْفَهَّامَةْ
مُحَمَّد نوَوِي بنعُمَر بن عَرَبِي الشَّافِعِي الجَاوِي
نَفَعَ اللهُ بِهِ الْمُسْلِمِيْنَ
شَرْح عَلَى
مَسَائِلِ أَبِي اللَّيْثِ
لِلإِمَامْ نصرْبن محمَّد بن أحمد بن إبرَاهِيم السَّمَرْقَنْدِي
الْمُلَقَّبْ
بِإِمَامِ الْهُدَى
بسمالله الر حمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام والإيمان، وخص بعض عباده بالطاعات وبعضهم بالعصيان، والصلاة والسلام على أفضل الرسل سيد ولد آدم، سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته عدد ما جرى به القلم . )أمابعد) فيقول مرتكب الذنوب"محمد نوويبن عمر بن عربي" الشافعي: هذا شرح عن مسائل الشيخ الإمام أبي الليث المحدث المفسر المعروف بإمام الهدى بصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الحنفي السمرقندي، يوضح معانيها ويشيد مبانيها. وسميته: قطرُ الغيثِ فيشرحِ مسائلِ أبي الليثِ . والله أسأل أن ينفع به كل من تلقاه بقلب سليم، وأ ن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه الرؤوف الرحيم .
)بسم الله الرحمن الرحيم) فاسم "الجلالة" ليس بمشتق ولا منقول، و"ال" فيه زائدة لازمة للتعريف، بلوضع كذلك، وهو اسم جامع لجميع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا. و"الرحمن" كثير الرحمة بالنعم العظيمة .و"الرحيم" كثير الرحمة بالنعم الصغيرة. وتخصيص التسمية بهذه الأسماء، ليعلم العارف أن المستحق بأن يستعان به في جميع الأمور هو المعبود الحقيقي معطي النعم كلها جليلها وحقيرها. وإنما افتتح المصنف كتابه هذا بالبسملة اقتداء بالكتب السماوية، وعملاً بالأحاديث المروية، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ))إذاكتب العبد بسم الله الرحمن الرحيم في لوح أو في كتاب فإنه تكتب له الملائكة الأجر، وتستغفر له ما دام ذلك الاسم في اللوح أو الكتاب(( )الحمد لله رب العالمين( أي مالك جميع المخلوقات، )والعاقبة( أي الأجر المحمود، )للمتقين( أي عقاب الله تعالى بترك المعاصي، (والصلاة( أي زيادة الرحمة من الله تعالى المقرونة بالتعظيم، )والسلام( أي التحية من الله تعالى، )على سيدنا محمد(، هو ابن عبد الله، أكمل الخلق خلقاً وخلقاً، مبعوث في مكة ومدفون في المدينة المشرفة، وآله) أي ( أعوانه من أهل الإيمان،)وأصحابه(، وهم الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم في حياته بعد نبوته مؤمنين به. والصحابة الذين توفى رسول صلى الله عليه وسلم وهم أحياء مائة ألف صحابي وأربعة وعشرون ألفاً، رضي الله عنهم أجمعين، كعدد الأنبياء وعدد أولياء كل عصر .
)مسألة(: (إذا قيل لك): يا مؤمن ) ما الإيمان)؟، أي ما متعلقات حقيقة الإيمان الذي هو التصديق ؟.
)فالجواب(: أن تقول )آمنت(، أي صدقت وأقررت (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر( بفتحالدال (خيره وشره من الله تعالى( وهذا كما رواه مسلم عن سيدنا عمر من حديث جبريل، وإن أخذت من رواية البخاري عن أبي هريرة من حديث جبريل أيضاً، فتقول: "آمنت بالله وملائكته وبلقائه ورسله وبالبعث" والمعنى: صدقت بوجود الله وبصفاته الواجبة له، وبوجود الملائكة، وأنهم عباد مكرمون، وبرؤيته تعالى في الآخرة للمؤمن، وبأن رسله صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وبالبعث من القبور . قال بعضهم: من تعلم في الصغر: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقدره خيره وشره من الله تعالى، وعلم أن ذلك إيمان إلا أنه لا يحسن تفسيره، فلا يحكم بإيمانه. وقال بعضهم: إيمان شخص حال يأس، أي: وقت سكرات الموت عند رؤية مكانه في الجنة أو في النار غير مقبول لعدم الإتيان بالمأمور به عن اختيار، فإن العبد يرى مكانه في ذلك الوقت كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ))إنالعبد لن يموت حتى يرى موضعه في الجنة أو في النار(( بخلاف توبة اليائس، فإنها مقبولة بعد صحة إيمانه لما روي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقبل توبة العبد المؤمن ما لم يغرغر(( أي: ما م تبلغ روحه الحلقوم . واعلمأن الإيمان بالله على ثلاثة أقسام: إيمان تقليدي، وإيمان تحقيقي، وإيمان استدلالي: فالتقليدي :هوأن يعتقد بوحدانية الله تعالى تقليداً بقول العلماء من غير برهان، وهذا لا يأمن من التزلزل بتشكيك مشكك . والحقيقي: هو أنيطوي قلبه على وحدانية الله تعالى، بحيث لو خالفه أهل العلم فيما طوى عليه قلبه لما وجد في قلبه زلة . والاستدلالي: هوأن يستدل من المصنوع على الصانع، ومن الأثر على المؤثر، فالأثر يدل على المؤثر، والبناء يدل على الباني، والمصنوع يدل على الصانع، والبعرة تدل على البعير مثلاً، إذ الأثر بلا مؤثر محال.
(مسألة): )إذا قيل لك وكيف تؤمن بالله)؟.
)فالجواب( أن تقول: )إن الله تعالى( أحد، أي: منفرد بالصفات لا مشارك له، (واحد)، أي:منفرد بالذات لا شريك له، )حي) بحياة قديمة قائمة بالذات، لابروح، )عالم (بعلمقديم قائم بالذات محيط بالواجب والجائز والمستحيل،)قادر (بقدرة قديمة قائمة بالذات، لابمعالجة ولا واسطة، لا يلحقها عجز، عامة التعلق للممكنات، )مريد) بإرادة قديمة قائمة بالذات، عامة التعلق للمكنات، (سميع) أي:مدرك المسموعات بسمع قديم بالذات،)بصير) أي: مدرك المبصرات حال وجودها ببصر قديم قائم بالذات،)متكلم (بكلام قديمباق قائم بالذات، ليس بحرف ولا صوت، فلا يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، متعلق :بالواجب: كقوله تعالى: {إِنَّنِيأنا الله لا إِله إِلَّا أنا فاعْبدْنِي{، وبالمستحيل: كقوله تعالى:{إِنَّ الله ثالِث ثلاثة{، وبالجائز: كقوله تعالى:{والله خلقكمْ وما تعْملون}. والصحيح أن مدلول الألفاظ التي نقرؤها متعلقات الكلام النفسي القديم، كما قاله ابن قاسم، واتفق على ذلك جميع المتأخرين. وإن سئلت عن القرآن: هل هو قديم أوحادث ؟ فينبغي لك أن تستفسر السائل، فإن قال لك مرادي: "القائم بذاته تعالى" الدال عليه ما بيننا، فقل: هو قديم بقدم الذات، لأنه من جملة صفاتها الواجبة لها . وإ ن قال لك مرادي: "ما بين الدفتين من النقوش"، فقل له: ذلك حادث بحدوث النقوش وكذلك الألفاظ . وإن قال لك مرادي: "من حيثالمدلول"، فقل له: إن ما دل على ذاته أو صفة من صفاته أو حكاية له تعالى هو قديم، وما دل على الحوادث أو صفاتها، مثل ذوات المخلوقات أو صفاتها، كجهلنا وعلمنا هو حادث، وكذلك حكايات الحوادث. و سميت تلك العبارات بكلام الله، فإنها دالة على كلام الله تعالى، فإن معناه إنما ينفهم بها، فإ ن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرنية - وهو لغة اليهود - فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل وزبور. واختلاف العبارات لا تستلزم اختلاف الكلام، كما أن الله يسمى بعبارات مختلفة مع أن ذاته تعالى واحدة.)باق( بذاته العليا، أي: دائم الوجود لا يقبل الفناء،)خلاق(، أي: كثير إظهار الموجودات بقدرته، وكثير تقدير كل واحد بمقدار معين بإرادته، (رزَّاق(،أي: خالق الأرزاق أو المرتزقة وموصلها إليهم . واسم "الرزق" لا يختص بالمأكول والمشروب، بل كل ما انتفع به الحيوان من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها . ومن أعظم الرزق التوفيق للطاعات. والرزق قسمان: ظاهر: وهو الأقوات والأطعمة وذلك للأبدان . وباطن: وهي المعارف والمكاشفات، وذلك للقلوب والأسرار .
واعلم أنه تعالى يوصل الرزق إلى جميع مخلوقاته، وأن من أسباب سعة الرزق كثرة الصلاة، لقوله تعالى: }وأْمرْ أهْلك بِالصَّلاةِ واصْطبِرْ عليْها لا نسْألك رِزْقًا نَّحْن نرْزقك والْعاقِبة لِلتَّقْوى{، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار،)رب)، ومعناه: معبود، ومنهقولك: ربنا الله، (ومالك(، ومنه قوله تعالى: {لله ملك السموات والأرض{، )بلا شريك( أي: شبيه له ،أي: في الربوبية، ولا ضد أي: لا نظير)ولاند( أي: مماثل . والفرق بين : "الشبيه" و "النظير" و "المماثل: أن "النظير": ما يساوي ولو في وجه. و"الشبيه": ما يساوي أكثر الوجوه . و"المماثل": ما يساوي في جميع الوجوه . قال البراوي: ولا يجوز البحث عن ذات الله تعالى ولا عن صفاته، لأن ترك الإدراك إدراك والبحث في ذات الله تعالى إشراك، وكل ما خطر ببالك من صفات الحوادث فالله بخلاف ذلك .
)فائدة): من ترك أربع كلمات كمل إيمانه: أين، وكيف، ومتى، وكم : فإن قال لك قائل: أين الله ؟، فجوابه: ليس في مكان ولا يمر عليه زمان . وإن قال لك: كيف الله ؟، فقل له: ليس كمثله شيء . وإن قال لك: متى الله ؟، فقل: له أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء . وإن قال لك : كم الله ؟، فقل له: واحد لا من قلة، قل: الله أحد . انتهى.
(مسألة): )إذا قيل لك: وكيف تؤمن بالملائكة ) ؟.
)فالجواب(أنتقول: )إن الملائكة أصناف) أي: أنواع كثيرة في أحوالهم وأفعالهم وأشكالهم: )فمنهم حملة العرشِ) : وهم أعلى طبقات الملائكة، وأولهم وجوداً، وهم في الدنيا أربعة، وفي يوم القيامة ثمانية على صورة الأوعال، ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً للطائر المسرع. وأما صفة العرش: فقيل: إنه جوهرة خضراء، وهو من أعظم المخلوقات خلقاً، ويكسى كل يوم ألف لون من النور، لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة . وقيل: إن العرش قبلة أهل السماء، كما أن الكعبة قبلة أهل الأرض . )ومنهم حافون(، قال: وهب بن منبه: إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة، صف خلف صف، يطوفون بالعرش، يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم إلى أعناقهم واضعين لها على عواتقهم، فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك اللهم وبحمدك ما أعظمك وأحلمك، أنت الله لا إله غيرك، أنت الأكبر والخلق كلهم لك راجعون، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يسبح بتسبيح لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثمان مائة عام، وما بين شحمتي أذن أحدهم إلى عاتقه أربع مائة عام، واحتجب الله عن الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نور، وسبعين حجاباً من ظلمة، وسبعين حجاباً من در أبيض، وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر، وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر، وسبعين حجاباً من ثلج، وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجابا من برد، وما لا يعلمه إلا الله . )ومنهم روحانيون(، قيل : هم في أرض بيضاء كالرخام، عرضها مسيرة الشمس أربعين يوماً، طولها لا يعلمه إلا الله، ولهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من هول صوته، منتهاهم إلى حملة العرش . )ومنهم كروبيون( بفتح الكاف وتخفيف الراء، هم سادات الملائكة، وهم الذين حول العرش .)ومنهم سفرة) أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين يبلغون إليهم رسالته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه . و"السفرة" هنا جمع سفير بمعنى: رسول، وليس جمع سافر بمعنى:كاتب؛ لأن المصنف فسرها بهؤلاء الأربعة (أي: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل(بفتح العين، فجبريل نازلعلى جميع الأنبياء، وميكائيل وكيل الأمطار، وإسرافيل وكيل نفخ الصور ينفخ فيموت الخلق، وينفخ لإحياء الخلق فترجع الأرواح لأجسادها، وعزرائيل وكيل قبض الأرواح، فإذا حضر أجل العبد أمر الله تعالى ملك الموت أن يقبض روح ذلك العبد، والملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه، وخروج الروح يكون من"اليافوخ"، كما أن دخولها في البدن منه، وأما فتح المحتضر فمه عند خروجها فقيل: لشدة ما يراه من الأهوال. و"اليافوخ" هو الموضع الذي يتحرك في رأس الطفل . )ومنهم حفظة(، قال محمد الخليلي: روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم من ملك على الإنسان ؟ فقال: عشرون ملكاً، منهم ملك عن يمينك على حسناتك، وهو أمين على الذي عن يسارك، فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة، قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب ؟ فيقول: دعه سبع ساعات لعله يتوب، فإذا لم يتب قال: نعم، اكتب أراحنا الله منه. فاسم الملك الذي على اليمين"رقيب" وهو الذي يكتب الحسنات، واسم الملك الذي على الشمال "عتيد" وهوالذي يكتب السيئات، وملكان بين يديك ومن خلفك، وملك قابض على ناصيتك إذا تواضعت لله تعالى رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وملك على فيك لا يدع الحية أو الهوام تدخل في فيك، وملكان على عينيك، ويقال: إن اسمهما "شوية"، فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي، فتنزل ملائكة الليل على ملائكة النهار فهؤلاء وهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي . )ومنهم كتبة (، وهم الذين ينسخون من اللوح المحفوظ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، ومنهم أصحاب أجنحة، جناحين جناحين لكل واحد منهم، وثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم، وأربعة أربعة لصنف آخر منهم، ويزيد الله في خلق الأجنحة في غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته .
) تنبيه ( : قوله: "حملةوسفرة وحفظة وكتبة" بفتح أحرفها الثلاثة، وهي جمع حامل وسفير وحافظ وكاتب . )وكلهم مخلوقون( أي: موجودون بإيجاد الله إياهم كغيرهم، )عبيد اللهِ)، فلا يقولون شيئاً حتى يقوله كما هو شأن العبيد المؤدبين، (لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة(، فمن اعتقد أنوثة الملائكة أو خنوثتهم فهو كافر بالاتفاق، ومن اعتقد ذكورتهم فهو فاسق، )وليس لهم شهوة (أي: اشتياق النفس، ) ولا نفس ( . فالنفس سبع مراتب: أمَّارة : ومحلها الصدر، وجنودها: البخل، والحرص، والحسد، والجهل، والكبر، والشهوة، والغضب. ثم لوامة: ومحلها القلب، وهو تحت الثدي الأيسر بقدر أصبعين، وجنودها: اللوم، والهوى، والمكر، والعجب، والغيبة، والرياء، والظلم، والكذب، والغفلة. ثم ملهمة : ومحلها الروح، وهو تحت الثدي الأيمن بقدر أصبعين، وجنودها: السخاوة، والقناعة، والحلم، والتواضع، والتوبة، والصبر، والتحمل. ثم مطمئنة: ومحلها : السر، وهو في جانب الثدي الأيسر بقدر أصبعين إلى جهة الصدر، وجنودها: الجود، والتوكل، والعبادة، والشكر، والرضا، والخشية. ثم راضية: ومحلها: سر السر، ولعل المراد بها القالب بالألف بعد القاف وبفتح اللام، وهو جميع الجسد، وجنودها: الكرم، والزهد، والإخلاص، والورع، والرياضة، والوفاء. ثم مرضية: ومحلها الخفي: وهو في جانب الثدي الأيمن بقدر أصبعين إلى أوسط الصدر، وجنودها: حسن الخلق، وترك ما سوى الله، واللطف بالخلق، وحملهم على الصلاح والصفح عن ذنوبهم وحبهم، والميل إليهم لإخراجهم من ظلمات طبائعهم وأنفسهم إلى أنوار أرواحهم. ثم كاملة: ومحلها الأخفى: وهو وسط الصدر، وجنودها: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين . )ولا أب ولا أم(، فإنهم أجسام نورانية، أي: مخلوقة من نور غالباً، وقد يكون بعضهم مخلوقاً من القطرات التي تقطر من جبريل بعد اغتساله من نهر تحت العرش، وهم قادرون على التشكل بأشكال مختلفة. )ولا يشربون ولا يأكلون(ولا ينامون، ودليل كونهم لاينامون قوله تعالى: {يسبِّحون اللَّيْل والنَّهار لا يفْترون}، فالنوم فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله، )ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(،قال تعالى: }يخافون ربَّهمْ مِنْ فوْقِهِمْ ويفْعلون ما يؤْمرون {أي: من الطاعة والتدبير، وقال تعالى: }بلْ عِباد مكْرمون . لايسْبِقونه بِالْقوْلِ وهمْ بِأمْرِهِ يعْملون {أي: بل الملائكة عبادمن عباده تعالى مكرمون بالعصمة من الزلل لا يسبقون إذنه تعالى بالقول، وهم بأمره تعالى إذا أمرهم يعملون، لأنهم في غاية المراقبة له تعالى، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة. )ومحبتهم( بالقلب )شرط) صحة )الإيمان، وبغضهم: كفر( لقوله تعالى: {كل آمن بِاللهِ وملائِكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ{ .
(مسألة):)إذا قيل لك: وكيف تؤمن بالكتب(؟
)فالجواب( أن تقول: (إن الله أنزل الكتب على أنبيائه، وهي) أي: الكتب )منزلة( على الرسل في الألواح، أوعلى لسان ملك )غير مخلوقة( أي: إن الكتب المنزلة من تأليفه تعالى لا من تأليف الخلق، )قديمة) من حيث دلالتها على المعنى القديم، )بغير تناقض) أي: اختلاف في معنى الكلام. و"التناقض" : بأن يكونبعض الكلام في محل يقتضي إبطال بعض في محل آخر، قال تعالى: }أفلا يتدبَّرون الْقرْآن ولوْ كان منْ عِنْدِ غيْرِ اللَّهِ لوجدوا فِيهِ اخْتِلافًا كثِيرًا{ أي: أفلا يتركرون في القرآن ؟ ولو كان من كلام البشر لوجدوا فيه "تناقضاً" في معانيه وتبايناً في نظمه بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع وبعض نظمه فصيحاً وبعضه ركيكاً، أي: ولو كان من عند غير الله للزم أن يكون فيه اختلاف كثير فضلاً عن القليل، لكنه من عند الله، فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل. )ومن شك فيها) أي: في الكتب المنزلة على الرسل بأن لم يؤمن بشيء منها،)من آية أو كلمة فقد كفر( .
(مسألة): (إذا قيل لك: وكم كتاباً أنزل على أنبيائه)؟ أي: المرسلين، فكم" اسم استفهام فيمحل نصب مفعول مقدم، و"كتاباً" تمييز .
)فالجواب) أن تقول: في رواية: (مائة كتاب) بالإفراد (وأربعة كتب( بالجمع المكسر: ) أنزل الله منها(، أي: من المائة والأربع)عشر كتب على( صفي الله أبي البشر)آدم عليه السلام، وأنزل الله تعالى منها خمسين كتاباً على شيث عليه السلام(، فشيث – بالشين ثمالمثلثة – وقيل: بالمثناة الفوقية بينهما ياء،والأكثر صرفه وقد لا يصرف، ومعناه: هبة الله، وقيل: عطية الله، وهو ابن آدم لصلبه، كان من أجمل أولاده وأفضلهم، وأشبهه بأبيه وأحبهم إليه، وعاش سبعمائة واثنتي عشرة سنة .)وأنزل الله تعالى منها ثلاثين كتاباً على إدريس( جدّ أبي نوح )عليه السلام(، واسمه أخْنوْخ - بفتح الهمزة وسكون الخاء، أوخنوخ - بفتحالخاء مع حذف الهمزة -، قيل: سمي إدريس لكثرة درسه الكتب، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وأول من خاط الثياب ولبسها، وكانوا من قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار . )وأنزل الله تعالى منها عشر كتب على إبراهيم عليه السلام(، وقيل: إن في صحف إبراهيم هذه الكلمات: ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه . (وأنزل الله تعالى الإنجيل( جملة )على عيسى( ابن مريم (عليه السلام، وأنزل الله تعالى التوراة( جملة (على موسى( بن عمران )عليه السلام) . قال بعضهم: التوراة والإنجيل اسمان عبرانيان، وقيل: سريانيان كالزبور. وقيل: سميت التوراة بذلك لأن فيها نوراً يخرج به من الضلال إلى الهدى، كما يخرج بالنار من الظلام إلى النور، وقيل: سميت بذلك لأن أكثرها تلويحات ومعاريض. وقال بعضهم: سمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعةلم تكن في التوراة، إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة في التوراة، وقيل: سمي بذلك لاستخراجه خلاصة نور التوراة . (وأنزل الله تعالى الزبور على داود( بن إيشا (عليه السلام)، وهو من أتباع موسى وبعده بأزمان متطاولة . )وأنزل الله تعالى القرآن( منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، بعد أن كتب في صحف، وأنزل دفعة واحدة في ليلة القدر في بيت العزة، وهو محل في سماء الدنيا، وسمي القرآن فرقاناً لفرقه بين الحق والباطل، ولكونه منجماً ومفرقاً في سنين كثيرة، وسمي قرآناً لأنه قام مقام التوراة والإنجيل والزبور في كثرة القراءة، (على محمد المصطفى( أي: المختار صلى الله عليه وسلم. وهو: ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بنمعد بن عدنان، من أولاد سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام . وذلك ماروي عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ فقال: ((مائة وأربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف. وعلى شيث خمسون صحيفة. وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة. وعلى إبراهيم عشر صحائف. والتوراة والإ نجيل والزبور والفرقان))، كما ذكره الشربيني في ترسيه. والحق عدم حصر الكتب في عدد معين لكثرة اختلاف الروايات، بل الواجب أن يعتقد أن الله تعالى أنزل كتباً من السماء ويعرف الكتب الأربعة.
(مسألة): )إذا قيل لك: وكيف تؤمن بالأنبياء(؟
)فالجواب( أن تقول: (إنَّ أول الأنبياءِ آدم عليه السلام( وهو اسمه الشريف، وكنيته أبو البشر، ولقبه صفيّ الله )وآخرهم( وأفضلهم (سيدنا محمد) فلا نبيبعده )صلوات الله عليهم أجمعين، كلهم كانوا مخبرين( عن الغيوب، كالساعة وأحوالها من البعث والنشر والحشر والحساب والجزاء والحوض والشفاعة والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك )ناصحين( أي: مصفين العمل من شوائب الفساد، ولا يغشون قومهم)صادقين( في أخبارهم وفي دعواهم )مبلغين( أي: موصلين الأحكا م التي أمروا بتبليغها إلى الأمم إليهم، إذ هم مأمورون بالتبليغ )آمرين( على الطاعات لله عز وجل )ناهين( عن المعاصي )أمناء الله تعالى) على "وحيه الخفي"،وهو الذي لم يظهر إلا على ألسنة الرسل، وهو إعلام الله تعالى أنبياءه بما شاء "بكتاب" أو بإرسال "ملك" أو "بمنام" أو "إلهام" أو "بلا واسطة"،كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من فرض الصلاة بلا واسطة )معصومين من الزلل( أي: الخطايا وهي الصغائر،"فالزِلل"- بكسر الزاي - جمع زلة . قاله محمد الجوهري في "شرح الجزائرية" وأما "الزلل" - بفتحها - فهو مصدر زل يزل من باب علم وضرب، كما في "القاموس" و "المصباح"، (والكبائر( أي أن الله تعالى حفظ بواطنهم وظواهرهم عن التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة ولو حالة الطفولية، كما قال أحمد الدردير. والذي عليه الجمهور، وهو الصحيح أنهم معصومون من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، فعصمتهم واجبة كما قاله أحمد البيلي. (ومحبتهم( بالقلب )شرط) صحة )الإيمانِ، وبغضهم كفر).
(مسألة):)إذا قيل لك: وكم من أصحاب الشرائع( ؟
)فالجواب) أن تقول: هم)ستة: آدم ونوح( وعمره ألف سنة وأربعمائة وخمسون سنة )وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين(.
) فرع (: قال ابن عباس وقتادة: وأولو العزم، أي: الثبات والجد في الأمور، خمسة ،وهم أصحاب الشرائع، وهم محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح، ونظمهم بعضهم في بيت من الطويل فقال:
محمد إبراهـيم مـوسى كليمه # وعيسى ونوح هم أولوالعزم فاعلم
وقال مقاتل: وأولوالعزم ستة:نوح: صبر علىأذى قومه . وإبراهيم:صبر على النار . وإسحاق: صبر على الذبح. ويعقوب: صبر على فقد ولده وذهاب بصره. ويوسف: صبر فيالجب والسجن. وأيوب: صبر على الضر . )وكل شريعة منسوخة ( أي: مزال حكمها )بشريعةِ (سيدنا )محمد صلى الله عليه وسلم( إذا لم تكن موافقة لشريعته صلى الله عليه وسلم، فقد كان من شريعة آدم – عليهالسلام – تزويج الأخمن أخته التي ليست توأمته، وقد اتفقوا على تحريمه بعد آدم – عليهالسلام – كماقاله محمد الجوهري، والدليل على ذلك قوله تعالى: }ومنْ يبتغ غيْر الإِسْلامِ دِيناً فلنْ يقْبل مِنْه{ .
(مسألة): )إذا قيل لك: وكم من الأنبياء) ؟ .
)فالجواب): أن تقول هم في رواية)مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي) . قال أحمد الدردير: "والأولى ترك حصرهم في عدد معين لأنه لا يؤمن في ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم لجواز أن يذكر أكثر من الواقع، أويخرج منهم من هو منهم إن كان العدد أقل". وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن عددهم فقال: ))مائةألف وأربعة وعشرون ألفاً((، وفي رواية: ))مائتا ألفوأربعة وعشرون ألفاً)) فخبرآحاد لا يفيد القطع، ولا عبرة بالظن في باب الاعتقادات .
(مسألة): )إذا قيل لك: وكم كانوا من الأنبياء والمرسلين) ؟ .
)فالجواب) أن تقول: هم في رواية: )ثلثمائة وثلاثة عشر مرسلا( كعدد أهل بدر، وفي رواية: وأربعة عشر، كعدد جيش طالوت الذين صبروا معه على قتال جيش جالوت، وفي رواية: وخمسة عشر، وروي أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس. والفرق بين الرسول و النبي: أن الرسول: هومن أمر بتبليغ الأحكام إلى المرسل إليهم، والنبي: من لم يؤمر بذلك، بل أمر بتبليغ أنه نبيّ ليحترم .
(مسألة(: (إذا قيل لك: وأسماؤهم( أي: المرسلين)وعددهم( أي: حفظهم علينا )شرط الإيمان أم لا) ؟.
(فالجواب) أنتقول: )ليس