قَطْرُ الْغَيْثِ
فِى
شَرْح مَسَائِلِ أبِياللَّيْثِ
تأليف
العَالِمِ الْعَلاَّمَة الحبْر البَحْرِ الْفَهَّامَةْ
مُحَمَّد نوَوِي بنعُمَر بن عَرَبِي الشَّافِعِي الجَاوِي
نَفَعَ اللهُ بِهِ الْمُسْلِمِيْنَ
@
شَرْح عَلَى
مَسَائِلِ أَبِي اللَّيْثِ
لِلإِمَامْ نصرْبن محمَّد بن أحمد بن إبرَاهِيم السَّمَرْقَنْدِي
الْمُلَقَّبْ
بِإِمَامِ الْهُدَى
بسم الله الر حمنالرحيم
(مسألة): )إذا قيل لك: وكيف تؤمن باليوم الآخر( ؟ أي: بوجوده، فأوّله من النفخة الثانية وهي نفخة البعث، وسمي ذلك اليوم بالآخر لأنه آخر أيام الدنيا، وسمي أيضاً بالقيامة لقيام الناس فيه من قبورهم ووقوفهم بين يدي رب العالمين .
)فالجواب) أن تقول: )إنَّ الله تعالى يميت الخلائق(أي: جميع الحيوانات منذوي الروح )كلهم( قال تعال: }كلنفْس ذائِقة الْموْتِ} و "الموت": لا يكون إلا بالأجل، وهو الوقت الذي كتب الله في الأزل انتهاء حيا ته فيه، فلا يموت أحد بدونه، مقتولاً كان أو غيره لقوله تعالى: {وما كا ن لِنفْس أنْ تموت إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مؤجَّلا {أي: وما كان لنفس أن تموت إلابقضاء الله ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه، كتب الله ذلك الموت كتاباً مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر)إلا منْ كان في الجنة والنار( ثم يحيي الله الميت بإعادة الروح إلى جميع البدن لأجل سؤال الملكين: منكر ونكير، وبعد السؤال يخرج منه الروح و يعذب من أراد تعذيبه بأن يخلق الله في الميت نوع حياة بسبب اتصال الروح بجسده، كاتصال شعاع الشمس بالأرض بقدر ما يدرك الألم ،فيتألم الروح مع الجسد، وإن كان خارجاً منه . و"الكافر" عذابه دائم إلىيوم القيامة، ويرفع عن "المؤمنِ" العذاب في يوم الجمعة وفي شهر رمضان لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن مات يوم الجمعة أو ليلته يكون العذاب ساعة واحدة ،وضغطة القبر كذلك، ثم ينقطع ولا يعود إلى يوم القيامة. )ويحييهم الله تعالى( بعد فنائهم بإعادة أرواحهم إلى أجسادهم، قال تعالى: }يحْيِي اللهالْموْتى{ ويكون الإحياء بنفخة البعث بعد إماتتهم بنفخة الصعق، وبين النفختين أربعون سنة، قال تعالى: {ونفِخ فِي الصور فصعِق منْ فِي السَّماواتِ ومنْ فِي الْأرْضِ إِلَّا منْشاء الله ثمَّ نفِخ فِيهِ أخْرى فإِذا همْ قِيام ينْظرون} )و( بعد إحيائهم يسوقهم حراة عراةغرلاً إلى أرض المحشر أرض بيضاء لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، و )يحشرهم( أي: يجمعهم للعرض والحساب، قال تعالى: }يوْميجْمعكمْ لِيوْمِ الْجمْعِ{،)ويحاسبهم( قال الله تعالى: {وكفى بِنا حاسِبِين {، فمنهم من يحاسب حساباً شديداً على رؤوس الأشهاد لفضيحته، وهو من يعطى في ذلك اليوم كتاب عمله الذي كتبته الملائكة الحفظة أيا م حياته من وراء ظهره، وهو الكافر أو المنافق ،فتغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره، فيأخذ بها كتابه. ومنهم من لا يحاسبه الله على يد أحد من الملائكة، ولا غيرهم ستراً على ذلك المحاسب، وإنما يحاسبه المولى بينه وبينه، ويعرض عمله عليه بأن يقول له:هذه أفعالك التيفعلتها في دار الدنيا وسترتها عليك، واليوم أغفرها، وهو من يعطى في ذلك اليوم كتاب عمله من أمامه، وهو المؤمن المطيع . وكتب الأعمال جعلت بعد موت صاحبها في خزانة تحتالعرش، فإذا كانوا في الموقف بعث الله ريحاً فتطيرها، فكل صحيفة تلتصق بعنق صاحبها لا تتجاوزه، ثم تأخذها الملائكة من الأعناق فيعطونها إليهم في أيديهم فيأخذونها. وأول من يأخذ كتابه بيمينه عمر بن الخطاب وله شعاع كشعاع الشمس، وأما أبو بكر فهو رئيس السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فهم لم يأخذوا صحائف، وبعد عمر أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأسد . ثم إذا أخذ العبد كتابه وجد حروفه نيرة أومظلمة على حسب الأعمال الحسنة أوالقبيحة . وأولخط في الصحائف: }اقْرأْ كتابك كفى بِنفْسِك الْيوْم عليْك حسِيبًا}، فإذاقرأه ابيض وجهه إن كان مؤمناً، واسود إن كان كافراً، وذلك قوله تعالى: }يوْمتبْيض وجوه وتسْود وجوه}. وقد ورد في الحديث: ))إنَّأول من يحاسب الله تعالى اللوح المحفوظ)) بحيث يركب فيه إدراكاً وعقلاً ونطقاً، فيدعى به، فترتعد فرائصه: فيقول له: هل بلغت ما فيك لإسرافيل؟ فيقول: بلغت. فيدعى بإسرافيل فترتعد فرائصه خوفاً من الله فيقول له: ما صنعت فيما روى إليك اللوح ؟ فيقول: بلغته لجبريل. فيدعى بجبريل فترتعد فرائصه فيقول له: ما صنعت فيما رواه إليك إسرافيل ؟ فيقول: بلغته إلى الرسل. فيدعى بهم فيقول لهم: ما صنعتم فيما رواه إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغناه إلى الناس، فيسألون عن عمرهم فيم أفنوه، وعن شبابهم فيم أبلوه، وعن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها، وعن علومهم ماذا عملوا بها. وذلك قوله تعالى: }فلنسْألنَّ الَّذِين أرْسِل إِليْهِمْ ولنسْألنَّ الْمرْسلِين .فلنقصَّنَّ عليْهِمْ بِعِلْم وماكنَّا غائِبِين . فوربِّك لنسْألنَّهمْ أجْمعِيْن عمَّا كانوا يعْملون{، ثم ينصب الله "الميزا ن"، وتشخص الأبصار إلى الكتب أتقع في اليمين أوفي الشمال، ثم إلى لسان الميزان أيميل إلى جانب السيئات أوإلى جانب الحسنات)ويحكم بينهم بالعدل( وأول ما يقضى في الموقف "الصلاة"، ثم بعدها "الدعاوى" من قتل نفسا بغير نفس. ثم يساقون إلى "الصراط"، وهو جسر ممدود على متن النار بين الموقف والجنة، فإن النار بينهما، أرق من الشعرة وأحدّ من السيف، فهو مثل الموسى، فالناجون يجوزونه كلمحة البصر، ثم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كالخيل، ثم يجوزونه سعياً، ثم مشياً، ثم حبواً، ثم زحفاً، فهم يتفاوتون كالهالكين، فمنهم من يكب بأول قدم، وهو الذي يكون آخر الخارجين من النار، ومنهم من يكب عند آخر قدم، فيكون أول الخارجين منها، وتفاوت المرور بحسب التفاوت في الأعمال الصالحة والإعراض عن حرمات الله تعالى إذا خطرت على القلوب. وأول من يأتي إلى النار"قابيل" الذيقتل أخاه "هابيل" بغير حق، لأنه أول من أظهر هذه الخصلة، وهذا أول من يدخلها من الإنس، و"إبليس" هو أول من يدخلها من الجن. )فمن كان( أي: فالذي وجد (من الملائكة والجن والإنس فإنهم يتلاشون(، أي: يموتون، لكن لايموت أحد من الملائكة قبل النفخة الأولى، بل بها إلا حملة العرش والملائكة الأربعة، فإنهم يموتون بعدها ويحيون قبل النفخة الثانية، وآخر من يموت ملك الموت، كذا قال الشرقاوي. وقيل: إن حملة العرش لا يموتون لأنهم خلقوا للبقاء . )فمن كان فاسقاً( أي: خارجاً عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولم تغلب طاعاته على معاصيه (لم يبق في النار بعد الحساب) أي: بعد فراغ مقدار ذنبه، لأن ذلك لا يخرجه عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء كانت كبيرة أم صغيرة ،لأن الإيما ن عند الأشاعرة ومحققي الماتريدية تصديق بالقلب فقط، وأما الإقرار من القادر فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية التي من جملتها وجوب اعتقاد أنهم غير مخلدين في النار، وإذا كان الإيمان هو التصديق لزم أن لا يخرج العبد عن الاتصاف به إلا بما ينافيه من "الكفر"، وهو عدم التصديق بما علم ضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به، أو الامتناع من شرطه وهو النطق بالشهادتين مع القدرة . وكما أ ن العصاة من المؤمنين لا خلود لهم في النار، كذلك "الشفاعة" لا تصل للكفار، قال تعالى: }فما تنْفعهمْ شفاعة الشَّافِعِين} . وللرسل شفاعات غيرمحصورة أعظمها الشفاعة التي ردها الرسل، وهي الشفاعة لإنقاذ الخلق من خوف شديد ومن فزع. ولقبت هذه الشفاعة بالعظمى لكونها تعمّ الخلق أجمع، وبالمقام المحمود أيضاً لكونه يمده صلى الله عليه وسلم فيها الأولون والآخرون. ثم الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم كالتي قبلها. ثم الشفاعة فيمن استحقوا دخول النار فلم يدخلوها. ثم الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة ثم الشفاعة في قوم من الصلحاء، ليتجاوز الله عنهم في تقصيرهم في الطاعات. ثم الشفاعة في اخراج من أدخل النار من الموحدين، وهذه لا تختص به صلى الله عليه وسلم بل يشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون . ثم الشفاعة في تخفيف العذاب لمن استحق الخلود في النار في بعض أوقات كأبي طالب. ثم الشفاعة في أطفال المشركين ليدخلوا الجنة. ثم شفاعته صلى الله عليه وسلم لمن مات بالمدينة ولمن صبر على لأوائها ولمن زاره صلى الله عليه وسلم بعد موته ولمن أجاب المؤذن ودعا له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة ولمن صلى عليه ليلة الجمعة ويومها ولمن حفظ أربعين حديثاً في أمر الدين وعمل بها ولمن صام شعبان لحبه صلى الله عليه وسلم صيامه ولمن مدح آل البيت وأثنى عليهم . )وأما المؤمنون( أي: الذين ماتوا على دين الإسلام وإن تقدم منهم كفر (ففي الجنة خالدون( ولا يصح أن يدخلوا الجنة ثم يدخلوا النار، لأن من يدخل الجنة لا يخرج منها، قال الله تعالى: }فما تنْفعهمْ شفاعة الشَّافِعِين}، فالدخول في الجنة إما بدون دخول النار بالمرة أو بعد دخول النار بقدر الذنب . )وأما الكافرون( من الإنس والجن، أي: الذين ماتوا على الكفر وإن عاشوا طول عمرهم على الإيمان (ففي النار خالدون( فلا يزالون فيها معذبين إما بالحيات أو بالعقارب أو بالضرب أو بغير ذلك . والحاصل أن الناس على قسمين: "مؤمن" و "كافر" فالكافر مخلد فيالنار. و"المؤمن" علىقسمين: "طائع" و "عاص" فالطائع في الجنة . والعاصي على قسمين: "تائب" و "غير تائب" فالتائب في الجنة . وغير التائب في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بفضله وكرمه، وذلك ببركة الإيمان والطاعة أو بشفاعة بعض الأخيار، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه صغيراً كان أو كبيراً، ثم آخر أمره الجنة، فلا يخلد في النار . )ولا تفنى الجنة(، وهي سبعة: فردوس ثم عدن، ثم خلد، ثم نعيم، ثم مأوى، ثم دار السلام، ثم دار الجلال، وكلها متصلة بمقام صاحب الوسيلة صلى الله عليه وسلم ليتنعم أهل الجنة بمشاهدته صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم يظهر لهم منها، فهي مشرفة على أهل الجنة كما أن الشمس مشرقة على أهل الدنيا. )والنار) وطبقاتها سبع أعلاها: جهنم، وهي لعصاة المؤمنين، ثم لظى لليهود، ثم الحطمة للنصارى، ثم السعير للصابئين، وهم فرقة من اليهود، ثم سقر للمجوس، ثم الجحيم لعبدة الأصنام، ثم الهاوية للمنافقين . )ولا أهلهما( من الحور العين والولدان وخزنة الجنة، وملائكة العذاب، والعقارب، والحيات. وقال الشربيني نقلاً عن النسفي: سبعة لا تفنى: العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والجنة، والنار بأهلهما، والأرواح، اه . واختلف فيتفسير قوله تعالى: {كل شيْء هالِك إِلَّا وجْهه {، فإن كان معنى كون الشيء "هالكاً" كونه قابلاً للهلك في ذاته، لأن كل ما عاده تعالى ممكن الوجود قابل العدم، فهذه السبعة محمولة على هذا المعنى، وإن كان معنى كونه"هالكا" كونهخارجاً عن كونه منتفعاً به بالإماتة أو تفريق الأجزاء، فهذه مستثناة من الهلاك. )ومن شك في شيء من هذه الأشياء) المذكورة (فقد كفر( .
(مسألة): (إذا قيل لك: وكيف تؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى(؟ .
)فالجواب) أن تقول: )إنَّ الله) تعالى (خلق الخلائق وأمر) بالطاعات )ونهى) عن السيئات )وخلق اللوح( وهو لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وأصله في حجر ملك، وهو في الهواء فوق السماء. وعن ابن عباس أنه قال: إنَّ في صدر اللوح: لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل، وصدق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة . )والقلم(، وهو قلم من نور، طوله كما بين السماء والأرض. وعن ابن عباس أنه قال: "أول ماخلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، قال له: ما أكتب، قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو شر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" . وروى مجاهد الحديث: "أول ماخلق الله تعالى القلم، فقال: اكتب المقدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه"، وذلك هو المراد بقوله رحمه الله تعالى: )وأمرهما أن يكتبا أعمال العباد( قال تعالى: }إِنَّا كلَّشيْء خلقْناه بِقدر {أي: إنا كلشيء من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها خلقناه بقدر وقضاء وحكم وقياس مضبوط ،وقسمة محدودة ،وقوة بالغة ،وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود، مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه، وقال تعالى: {وكل صغِير وكبِير مسْتطر} أي: وكل صغير وكبير من الخلق وأعمالهم وآجالهم مكتوب في اللوح المحفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ))كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام((، وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره(( . )فالطاعة( وهي: ما يثاب به (بقضاء الله تعالى وقدره في الأزل(، أي: القدم )وإرادتهِ وأمره ورضاه) ومحبته وتوفيقه وتخليقه . قالبعضهم: "القضاء": إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء علىما هي عليه. و"القدر": إيجاده إياها على ما يطابق العلم. "فالقضاء" بمنزلة الأساس، و"القدر" بمنزلة البناء،والقضاء بمنزلة آلة الكيل، والقدر بمنزلة المكيل، والقضاء بمنزلة ما أعد اللبس، والقدر بمنزلة اللبس، والقضاء بمنزلة تصوير النقاش الصورة في ذهنه، والقدر بمنزلة رسمها . )والعصيان( وهو ما يعاقب عليه (بقضاء الله تعالى وقدره وإرادته( أي: مشيئته )في الأزل( أي: القدم وتخليقه وخذلانه (وليس بأمره ولا برضاه( ولا بمحبته ولا بتوفيقه . واعلم أن "مدلولالأمر غير مدلول الإرادة، فقد ينفك الأمر عن الإ رادة، كما إذا قتل ابن الحاكم رجلاً عمداً، فإن الحاكم يأمره بقتل ابنه، ولا يكون مريداً له، ومعنى "الرضا" قبول الشيء والإثابة عليه أو ترك التعذيب عليه. وأما "المباحات" فليست بأمره تعالى، فكلما علم الله تعالى أنه يوجد أراد وجوده سواء أمر به أو لم يأمر . ثم اعلم أن الكافر مأمور بالعمل كما هو مأمور بالإيمان، وهذا عند الشافعية ،خلافاً للحنفي حيث قال: إن الكافر لا يكون مأموراً بالعمل بل هو مأمور بالإيمان ودليله قوله تعالى: }ياأيها الناس اتقوا} بناء على أن تفسير هذه الآية عنده: ياأيها المؤمنون أطيعوا، ويا أيها الكافرون آمنوا، ويا أيها المنافقون أخلصوا، فإن الناس على ثلاثة أصناف: مؤمن مخلص في إيمانه وهو الذي يقرّ باللسان ويصدق بالجنان ويعمل بالأركان. و كافر جاحد في كفره وهو الذي لم يقر بلسانه ولم يؤمن بقلبه. ومنافق مداهن في نفاقه وهو الذي أقرّ بلسانه ولم يؤمن بقلبه وداهن مع المؤمنون)وهم يثابون( على الطاعة)ويعاقبون( على العصيان)وكل ذلك) أي الثواب والعقاب (بوعده تعالى( في الطاعة (ووعيده( في العصيان، قالتعالى: {فأمَّا منْ طغى. وآثر الْحياة الدنْيا. فإنَّ الْجحِيم هِي الْمأْوى. وأمَّا منْ خاف مقام ربِّه} أي: قيامه بين يدي ربه} ونهىالنَّفْس عنِ الْهوى. فإِنَّ الْجنَّة هِي الْمأْوى{ .
(مسألة): (إذا قيل قيل لك: آلإيمان( أي: أصله)يتجزأ( أي: يقبل القسمة بأن يجعل أجزاء )أم لا( ؟، قوله: آلإيمان - بمدالهمزة - إذأصله: الإيمان - بهمزتين- فقلبت الثانية ألفاً فتمد مداً لازماً .
)فالجواب) أن تقول: )الإيمان لا يتجزأ، لأنه( أي: الإيمان (نور في القلبِ والعقلِ والروحِ من بني آدم، إذ هو) أي: الإيمان (هداية الله تعالى عليه(،أي: المؤمن (فمن أنكر) أي: جحد )شيئاً منها) أي: من كون الإيمان هداية الله تعالى (فقد كفر( .
(مسألة): (إذا قيل لك: ما المراد بالإيمان) ؟ الذيهو نور وهداية من الله تعالى .
)فالجواب) أن تقول: (الإيمان عبارة عن التوحيد) وحدّ التوحيد عند علماء الكلام: إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفات وأفعالاً، ويقال أيضاً: هو اعتقاد ما يجب لله ورسله، وما يجوز وما يستحيل. وأما عند أهل التصوف: فهو أن لا يرى إلا الله تعالى، بمعنى أن كل فعل وحركة وسكون واقع ذلك في الكون، فمن الله تعالى وحده لا شريك له، لا يرون لغيره تعالى فعلاً أصلا . وقديراد بالإيما ن علامته كقوله صلى الله عليه وسلم لقوم من العرب قدموا عليه صلى الله عليه وسلم: ))أتدرون ماالإيمان بالله تعالى وحده ((؟فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم : ))شهادة أنلا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس(( .
(مسألة): (إذا قيل لك: الصلاة) أي: الخمس (والصوم (أي: في رمضان (والزكاة (أي: للأموال والأبدان (وحب الملائكةِ وحب الكتب( أي: السماوية التي أنزلها الله على بعض الرسل)وحب الرسل( والأنبياء عليهمالصلاة والسلام (وحب القدرِ خيرِه وشرِه من اللهِ تعالى، وغير ذلك من الأمر والنهي واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم أهو( أي: المذكور )من الإيمان( أي: من حقيقته وأصله (أم لا( ؟ .
)فالجواب( أن تقول: )لا) أي: إن ذلك ليس من حقيقة الإيمان وأصله، بل هو فرع الإيمان )لأن الإيمان عبارة عن التوحيد( كما تقدم (وما سوى ذلك( أي: المذكور )شرط من شرائط الإيمان( وشعبة من شعب الإيمان، لأ ن من شرط صحة الإيمان حب الله ،وملائكته، وأنبيائه، وأوليائه، وخوف عذاب الله، ورجاء رحمة الله، وتعظيم أمر الله ونهيه، وبغض أعداء الله وهم الكفار. وأماالصلاة والصوم والزكاة والحج فهي شرط كمال على المختار عند أهل السنة، فمن تركها واعتقد وجوبها عليه أو ترك واحداً منها كذلك فهو مؤمن كامل في جريان أحكام المؤمنين في الدنيا والآخرة، لأن مرجعه إلى الجنة وإن دخل النار إن لم ينل شفاعة من أحد الشافعين أو غفراناً من الله تعالى، وهو مؤمن ناقص من جهة ضعف الإيمان لتركه لبعض المأمورات، وإن تركها معانداً للشرع، أو شاكاً في وجوبها فهو كافر إجماعاً وكذا إن ترك واحداً منها كذلك، لأنها معلومة من أدلة الدين بالضرورة . واعلم أن أمور الدين أربعة: أولها: صحة العقد بأنتعتقد اعتقاداً صحيحاً خالياً عن الترديد والشبه من ضلالات أهل الأهواء . وثانيها: صدق القصد بأن تكونصادقاً في قصدك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) . وثالثها: الوفاء بالعهد: فإذا عاهدت عهداً تفي به لئلا يكون فيك خصلة من النفاق لأن من خصال المنافق إذا عاهد غدر . ورابعها: اجتناب الحد، بأنتجتنب المعاصي كلها .
) تنبيه ): فلو قيللك: الكفر يكون بقضاء الله تعالى وقدره، والرضا بالقضاء والقدر واجب، والرضا بالكفر كفر، فكيف اجتماع الواجب والكفر. قلت: الكفر مقضي ومقدور لا قضاء وقدر، والرضا إنما يجب بالقضاء والقدر دون المقضي والمقدور. وأيضاً الشيء المخالف للشرع يكرهه العبد منحيث ذاته، وأما من حيث كونه مقضياً فيرضى به بمعنى لا يعترض على مراد الله تعالى فيه، ولا يكلف العبد بمحبته ولو من حيث أنه مقضي، وإنما هو مكلف بترك الاعتراض على الله واعتقاد الحكمة على ذلك والعدل على الله .
)مسألة):)إذا قيل لك: الإيمان بصفة الطهارة أم لا( ؟
)فالجواب( أن نقول: )الإيمان (متلبس (بصفة الطهارة (فيصحبه جميع الأعمال (والكفر بصفة الحدثِ (أوبصفة النجس كما قال تعالى: }إِنَّما الْمشْرِكون نجس{أي: في اعتقادهم دون أبدانهم (وينتقض( أي: يبطل (به( أي: الكفر (جميع الجوارح( أي: الأعمال التي يعملها بأعضائه، لكن لو أسلم الكافر أثيب على ما فعله من القرب التي لا تحتاج إلى نية كصدقة، وصلة، وعتق، ونحكم بالصحة من حينئذ، كما نقله الونائي عن النووي، ودليل ذلك قوله تعالى: {ومنْ يكْفرْ بِالإيمانِ فقدْ حبِط عمله وهو فِي الْآخِرةِ مِن الْخاسِرِين {أي: ومن يرتدعن الإيمان فقد بطل عمله الصالح قبل ذلك، فلا يعتد به ولا يثاب عليه، ولوعاد إلى الإسلام، وهو في الآخرة من الخاسرين إذا مات على الكفر، والمعنى: ومن يكفر بكلمة التوحيد، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، فقد فسد عمله الصالح. أما من أسلم قبل الموت فإن ثوابه يفسد دون عمله فلا يجب عليه إعادة حج قد فعله ولا صلاة قد صلاها قبل الردة .
)مسألة): )إذا قيل لك: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق( ؟
)فالجواب( أن تقول: (الإيمان هداية من الله تعالى، والتصديق بالقلب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، والإقرار(بالشهادتين (باللسان ، فالهداية صنع الرب، وهو قديم . والتصديق والإقرار) كل منهما (فعل العبد وهو محدث) بفتح الدال، أي: موجد بعد العدم)وكل ما جاء من القديم يكون قديماً( غير مخلوق )وكل ما جاء من المحْدثِ يكون محدثاً) وقال الشيخ أبو معين النسفي: لا يقال إن الإيمان مخلوق أوغير مخلوق، بل يقال: إن الإيمان من العبد الإقرار باللسان والتصديق بالقلب ومن الله تعالى الهداية والتوفيق. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الإيمان اسماً للهداية والتوفيق، وإن كان لا يوجد إلا بهما لأن العبد مأمور به والأمر إنما يكون فيما هو داخل تحت قدرة العبد، وما كان كذلك يكون مخلوقاً ؟ وقال الباجوري: الصواب أن الإيمان مخلوق لأنه إما تصديق بالجنان أوهو مع الإقرار باللسان، وكل منهما مخلوق ،وما يقال من إنه قديم باعتبار الهداية خروج عن حقيقة الإيمان على أن الهداية حادثة، نعم إن نظرنا إلى أن الإيمان بالقضاء الأزلي صح أن يقال إنه قديم، اهـ . وقالمحمد الخليلي نقلاً عن الشمس الرملي والإيمان عند جمهور المحققين: تصديق القلب بما علم ضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به من عند الله تعالى، وأما الإقرار باللسان فإنما هو شرط لإجراء الأحكام في الدنيا. وقيل: إنه الإقرار والتصديق معاً. وقيل: إنه الإقرار والأعمال. وعلى كل قول منها هو مخلوق ،لأنه فعل العبد المخلوق لقوله تعالى: }والله خلقكمْ وما تعْملون{. وأما قول أبي الليث السمرقندي في جواب إنه مخلوق أو لا الإيمان إقرار وهداية ،فالإقرار صنع العبد، وهو مخلوق، والهداية صنع الرب، وهو غير مخلوق، ففي ذلك تسمح، لأن هداية الله تعالى للعبد سبب الإيمان لا جزء منه، والمسؤول عنه نفس الإيمان لا هو وسببه معاً، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين .
تمت
بقلم الفقير إلى ربه الخبير
شمس العارفين
م