تَنْبِيْهُ الغَافِلِينَ
تأليف
الإمام الفقيه أبى الليث نصر بن محمد الحنفى السمرقندى
(ت ٣٧٣ ه)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
(مقدمة الؤلف)
الحمد لله رب العالمين الذى هدانا لكتابه، وفضلنا على سائر الأمم بأكرم أنبيائه، حمدا يستجلب المرغوب من رضائه، ويستعطف المخزون من عطائه، ويجعلنا من الشاكرين لنعمائه، والعارفين لآلائه، وصلى الله على محمد، رسوله الصطفى، ونبيه المجتبى، وعلى آله وعترته الطيبين وعلى أصحابه وأمته أجمعين .
(قال الفقيه) الزاهد العالم نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رضي اللَّه تعالى عنهم وأرضاهم: إني لما رأيت الواجب على من رزقه اللَّه تعالى المعرفة في الأدب والحظ في العلم والنظر بما نطق به كتاب اللَّه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ} الآية، وبما وردت به السنة وهو ما روى عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال: "كان النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم يتخوّلنا بالموعظة أحياناً مخافة السآمة علينا" جمعت في كتابي هذا شيئاً من الموعظة والحكمة شافياً للناظر فيه ووصيتي له أن ينظر فيه بالتذكر والتفكر لنفسه أوّلاً ثم بالاحتساب بالتذكير لغيره ثانياً فإن اللَّه تعالى أمرنا بذلك كله والسنة وردت فيه قال اللَّه تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ} قال بعض المفسرين: معناه كونوا عاملين بما كنتم تعلمون الناس من الكتاب، وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} وقال لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ} وقال اللَّه تعالى في آية أخرى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} .
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة" ومن أعرض عن النظر في الحكم والمواعظ وسير السلف لا يعدو إحدى خصليتن إما أن يقتصر على قليل من العمل يتوهم أنه من جملة السابقين إلى الخيرات أو يجتهد بعض الجهد فيعظم ذلك في عينه ويفضل بذلك نفسه على غيره فيبطل بذلك سعيه ويحبط عمله، فإذا نظر فيها ازداد حرصاً على الطاعات وغرف قصوره عن بلوغهم في الدرجات فنسأل اللَّه التوفيق لأزكى الأعمال وأعظم البركات إنه منان قدير.
بَابُ: الْإِخْلَاصِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَخْنَفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْكَرَابِيسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» . قَالُوا: يَا رَسُوَلَ اللَّهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: " الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ يَوْمَ يُجَازِي الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ خَيْرًا ".
إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخِدَاعِ، فِيُعَامَلُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِدَاعِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: ١٤٢] ، يَعْنِي يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْخِدَاعِ فَيُبْطِلُ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ، وَيَقُولُ لَهُمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ عَمِلْتُمْ لِأَجْلِهِمْ فَإِنَّهُ لَا ثَوَابَ لِأَعْمَالِكُمْ عِنْدِي لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْعَبْدُ الثَّوَابَ إِذَا كَانَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ فِيهِ شِرْكَةٌ فَاللَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ.
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَقُولُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، أَنَا غَنِيٌّ عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ شِرْكَةٌ لِغَيْرِي؛ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ".
يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَيُقَالُ يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ الْعَامِلِ، فَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرُهُ إِلَى جَهَنَّمَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} [الإسراء: ١٨] يَعْنِي مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا وَلَا يُرِيدُ ثَوَابَ الْآخِرَةِ أَعْطَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا مِقْدَارَ مَا شِئْنَا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا لِمَنْ نُرِيدُ، يَعْنِي لِمَنْ نُرِيدُ أَنْ نُهْلِكَهُ، وَيُقَالُ لِمَنْ نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ بِإِرَادَتِنَا أَيَّ مَتَاعٍ، لَا بِإِرَادَتِهِ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَعْنِي أَوْجَبْنَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا يَعْنِي يَدْخُلُهَا مَذْمُومًا، يَسْتَوْجِبُ الْمَذَمَّةَ يَعْنِي بِذَمِّ نَفْسِهِ وَيَذُمُّهُ غَيْرُهُ، مَدْحُورًا يَعْنِي مَطْرُودًا مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ، يَعْنِي مَنْ أَرَادَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا يَعْنِي عَمِلَ لِلْآخِرَةِ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، يَعْنِي مَعَ الْعَمَلِ يَكُونُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْعَمَلُ بِغَيْرِ إِيمَانٍ، فَأُولَئِكَ، يَعْنِي الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيَطْلُبُونَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَلَا يَعْمَلُونَ لِرِيَاءِ الدُّنْيَا، كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا يَعْنِي عَمَلَهُمْ مَقْبُولًا.
{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: ٢٠] ، يَعْنِي يُعْطَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ رِزْقِ رَبِّكَ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: ٢٠] ، يَعْنِي مَا كَانَ رِزْقُ رَبِّكَ مَمْنُوعًا مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ فَلا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَمَنْ عَمِلَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمَلُهُ مَقْبُولٌ، وَإِذَا عَمِلَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا الْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ.
قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَالنَّصَبُ» .
يَعْنِي إِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ثَوَابَ لَهُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ مَنْ يَعْمَلُ الطَّاعَاتِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ وَمَلَأَ كِيسَهُ حَصَاةً، فَيَقُولُ النَّاسُ مَا أَمْلَأَ كِيسَ هَذَا الرَّجُلِ وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ سِوَى مَقَالَةِ النَّاسِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا لَا يُعْطَى بِهِ شَيْءٌ، كَذَلِكَ الَّذِي عَمِلَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ سِوَى مَقَالَةِ النَّاسِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: ٢٣] ، يَعْنِي الْأَعْمَالَ الَّتِي عَمِلُوهَا لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، أَبْطَلْنَا ثَوَابَهَا وَجَعَلْنَاهَا كَالَهَبَاءِ الْمَنْثُورِ، وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ
وَرَوَى وَكِيعٌ , عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , عَمَّنْ سَمِعَ مُجَاهِدًا , يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ فَأَلْتَمِسُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِيَ خَيْرٌ.
فَنَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: ١١٠] ، يَعْنِي مَنْ خَافَ الْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُقَالُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ اللَّهِ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} [الكهف: ١١٠] يَعْنِي: خَالِصًا {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] .
وَقَالَ حَكِيمٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَمِلَ سَبْعَةً دُونَ سَبْعَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا يَعْمَلْ، أَوَّلُهَا أَنْ يَعْمَلَ بِالْخَوْفِ دُونَ الْحَذَرِ، يَعْنِي يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا يَحْذَرُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ شَيْئًا.
وَالثَّانِي أَنْ يَعْمَلَ بِالرَّجَاءِ دُونَ الطَّلَبِ، يَعْنِي يَقُولُ: إِنِّي أَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَطْلُبُهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَمْ تَنْفَعْهُ مَقَالَتُهُ شَيْئًا.
وَالثَّالِثُ بِالنِّيَّةِ دُونَ الْقَصْدِ يَعْنِي يَنْوِي بِقَلْبِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَلَا يَقْصِدُ بِنَفْسِهِ، لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ شَيْئًا .
وَالرَّابِعُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْجَهْدِ، يَعْنِي يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْخَيْرِ وَلَا يَجْتَهِدُ، لَمْ يَنْفَعْهُ دُعَاؤُهُ شَيْئًا، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِيُوَفِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩] ، يَعْنِي الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي طَاعَتِنَا وَفِي دِينِنَا لَنُوَفِّقَنَّهُمْ لِذَلِكَ.
وَالْخَامِسُ بِالِاسْتِغْفَارِ دُونَ النَّدَمِ، يَعْنِي يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِغْفَارُ يَعْنِي بِغَيْرِ النَّدَامَةِ.
وَالسَّادِسُ بِالْعَلَانِيَةِ دُونَ السَّرِيرَةِ يَعْنِي يُصْلِحُ أُمُورَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَلَا يُصْلِحُهَا فِي السِّرِّ، لَمْ تَنْفَعْهُ عَلَانِيَتُهُ شَيْئًا.
وَالسَّابِعُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْكَدِّ دُونَ الْإِخْلَاصِ يَعْنِي يَجْتَهِدُ فِي الطَّاعَاتِ وَلَا تَكُونُ أَعْمَالُهُ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ تَنْفَعْهُ أَعْمَالُهُ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ اغْتِرَارًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ لِاجْتِلَابِ الدُّنْيَا مِثْلَ الْحَلْبِ» .
وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى «يَجْلِبُونَ» أَيْ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَفِي أُخْرَى «يَجْتَلِبُونَ الدُّنْيَا» يَعْنِي يَأْخُذُونَهَا فَيَلْبَسُونَ لِبَاسَ جُلُودِ الضَّأْنِ فِي اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ.
يَقُولُ اللَّهُ: «أَبِي تَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ تَجْتَرِئُونَ» الِاجْتِرَاءُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ شُجَاعًا مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ.
فَبِي حَلَفْتُ؟ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَكِيمَ الْعَاقِلَ فِيهَا حَيْرَانًا
وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ فَأُسِرُّهُ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَلِي فِيهِ أَجْرٌ؟ قَالَ: «لَكَ فِيهِ أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» .
مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَقْتَدِي بِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ؛ أَجْرٌ لِعَمَلِهِ وَأَجْرٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عَمَلِهِ لَا لِأَجْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَإِنَّهُ يَخَافُ ذَهَابَ أَجْرِهِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرْفَعُونَ عَمَلَ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَيُزَكُّونَهُ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، إِنَّ عَبْدِي هَذَا لَمْ يُخْلِصْ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي سِجِّينٍ، وَيَصْعَدُونَ بِعَمَلِ عَبْدٍ فَيَسْتَقِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ، فَيُوَحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي , وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ , إِنَّ عَبْدِي هَذَا أَخْلَصَ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي عِلِّيِّينَ ".
فَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الْعَمَلِ إِذَا كَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْقَلِيلَ إِذَا كَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُهُ بِفَضْلِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ٤٠] وَأَمَّا الْكَثِيرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا ثَوَابَ لَهُ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَسَانِيدِهِمْ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ سُمَيْرٍ الْأَصْبَحِيِّ , أَنَّهُ دَخَلَ الَمْدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُوَ هُرَيْرَةَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ , فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا قُلْتُ لَهُ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَفِظْتَهُ، حَدَّثَكَ بِهِ وَعُلِّمْتَهُ، فَقَالَ أَبُوَ هُرَيْرَةَ: اقْعُدْ لِأُحَدِّثَكَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرِهِ، ثُمَّ نَشَغَ نَشْغَةً , أَيْ شَهِقَ شَهْقَةً , فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَكَثَ عَلَيْهِ قَلِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ بِحَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَشَغَ أُخْرَى فَمَكَثَ طَوِيلًا ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقْضِي بَيْنَ خَلْقِهِ، فَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ: رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ , وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ , فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رُسُلِي، قَالَ: بَلَى يَا رَبُّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ! وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ: مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ بِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ؛ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ سَخِيٌّ، وَهُوَ ضِدُّ الْبَخِيلِ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ: لِمَاذَا قُتِلْتَ؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ لَكَ فُلَانٌ جَرِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ ".
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ عَلَى رُكْبَتَيَّ. فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا , وَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ {١٥} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: ١٥-١٦]
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيفٍ الْأَنْطَاكِيُّ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا الْتَمَسَ ثَوَابَ عَمَلِهِ: أَلَمْ نُعَجِّلْ لَكَ ثَوَابَكَ؟ أَلَمْ نُوَسِّعْ لَكَ فِي الْمَجَالِسِ؟ أَلَمْ تَكُنِ الْمُرَأَّسَ فِي دُنْيَاكَ؟ أَلَمْ نُرَخِّصْ بَيْعَكَ وَشِرَاءَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنِ الْمُخْلِصُ؟ قَالَ: الْمُخْلِصُ الَّذِي كَتَمَ حَسَنَاتِهِ كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ.
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا غَايَةُ الْإِخْلَاصِ؟ قَالَ: أَنْ لَا يُحِبَّ مَحْمَدَةَ النَّاسِ.
وَقِيلَ لِذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ: مَتَى يَعْلَمُ الرَّجُلُ أَنَّهُ مِنْ صَفْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ يَعْنِي مِنْ خَوَاصِّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: يَعْرِفُ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: إِذَا خَلَعَ الرَّاحَةَ، يَعْنِي تَرَكَ الرَّاحَةَ، وَأَعْطَى مِنَ الْمَوْجُودِ، يَعْنِي يُعْطِي مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَأَحَبَّ سُقُوطَ الْمَنْزِلَةِ، وَاسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْمَحْمَدَةُ وَالْمَذَمَّةُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: " يُؤْمَرُ بِأُنَاسٍ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا، وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ مَا رَجَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِ مَا أَعْدَدْتَهُ لِأَوْلِيَائِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَرَدْتُ بِكُمْ ذَلِكَ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ يَعْنِي مُتَوَاضِعِينَ تُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِكُمْ، خِلَافَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، هِبْتُم النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عِقَابِي، مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِي» . .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ خَلَقَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَتْ: إِنِّي حَرَامٌ عَلَى كُلِّ بَخِيلٍ وَمُنَافِقٍ وَمُرَاءٍ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُرَائِي أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ: يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ بِهِ. . وَرُوِيَ عَنْ شَقِيقِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ , أَنَّهُ قَالَ: حُسْنُ الْعَمَلِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا أَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكْسِرَ بِهِ الْعُجْبَ، وَالثَّانِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ رِضَا اللَّهِ لِيَكْسِرَ بِهِ الْهَوَى، وَالثَّالِثُ أَنْ يَبْتَغِيَ ثَوَابَ الْعَمَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكْسِرَ بِهِ الطَّمَعَ وَالرِّيَاءَ، وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَخْلُصُ الْأَعْمَالُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ يَرَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، هُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ فَإِنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالشُّكْرِ وَلَا يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ يُرِيدُ بِهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ رِضَاهُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا فَلَا يَعْمَلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ عَامِلًا بِهَوَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: ٥٣] ، يَعْنِي تَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَبِهَوَاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ يَبْتَغِيَ ثَوَابَ الْعَمَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي يَعْمَلُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُبَالِي مِنْ مَقَالَةِ النَّاسِ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ , أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَدَبَ فِي عَمَلِهِ مِنْ رَاعِي الْغَنَمِ؛ قِيلَ، وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ لِأَنَّ الرَّاعِيَ إِذَا صَلَّى عَنْدَ غَنَمِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَطْلُبُ بِصَلَاتِهِ مَحْمَدَةَ غَنَمِهِ، كَذَلِكَ الْعَامِلُ يَنْبَغِي
أَنْ لَا يُبَالِيَ مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَيَعْمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ النَّاسِ وَعِنْدَ الْخَلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَطْلُبُ مَحْمَدَةَ النَّاسِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَحْتَاجُ الْعَمَلُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ حَتَّى يَسْلَمَ: أَوَّلُهَا الْعِلْمُ قَبْلَ بَدْئِهِ. لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ.
وَالثَّانِي النِّيَّةُ فِي مَبْدَئِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ فِي مَبْدَئِهَا لِيَصْلُحَ الْعَمَلُ.
وَالثَّالِثُ الصَّبْرُ فِي وَسَطِهِ، يَعْنِي يَصْبِرُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا عَلَى السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.
وَالرَّابِعُ الْإِخْلَاصُ عَنْدَ فَرَاغِهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ، فَإِذَا عَمِلْتَ بِالْإِخْلَاصِ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ وَتُقْبِلُ قُلُوبُ الْعِبَادِ إِلَيْكَ.
وَرُوِيَ عَنْ هَرَمِ بْنِ حَيَّانَ , أَنَّهُ قَالَ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِقُلُوبِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ.
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ صَالِحَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا قَالَ لِجِبْرِيلَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ رَبَّكُمْ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ فَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْدًا فَمِثْلُ ذَلِكَ ".
وَرُوِيَ عَنْ شقَيِقِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزَّاهِدِ , أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَنِي صَالِحًا فَكَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي صَالِحٌ أَوْ غَيْرُ صَالِحٍ، فَقَالَ لَهُ شَقِيقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَظْهِرْ سِرَّكَ عِنْدَ الصَّالِحِينَ فَإِنْ رَضُوا بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّكَ صَالِحٌ، وَإِلَّا فَلَا , وَالثَّانِي اعْرِضِ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِكَ فَإِنْ رَدَّهَا فَاعْلَمْ أَنَّكَ صَالِحٌ.
وَالثَّالِثُ اعْرِضِ الْمَوْتَ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنْ تَمَنَّتْهُ فَاعْلَمْ أَنَّكَ صَالِحٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيكَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْلَا يَدْخُلَ الرِّيَاءُ فِي عَمَلِكَ فَيُفْسِدَ عَلَيْكَ أَعْمَالَكَ.
وَرَوَى ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «الَّذِي لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلَأَ اللَّهُ مَسَامِعَهُ مِمَّا يُحِبُّ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَيْتٍ فِي جَوْفِ بَيْتٍ إِلَى سَبْعِينَ بَيْتًا، عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ لَأَلْبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِدَاءَ عَمَلِهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَيَزِيدُوا» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَزِيدُونَ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ مَا زَادَ فِي عَمَلِهِ» ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْفَاجِرُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «الَّذِي لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلَأَ اللَّهُ مَسَامِعَهُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَيْتٍ فِي جَوْفِ بَيْتٍ إِلَى سَبْعِينَ بَيْتًا عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ لَأَلْبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِدَاءَ عَمَلِهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَيَزِيدُوا» قِيلَ وَكَيْفَ يَزِيدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْفَاجِرَ يُحِبُّ مَا زَادَ فِي فُجُورِهِ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْخَيْرِ يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِثَلَاثِ كَلِمَاتٍ، مَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ.
وَقَالَ حَامِدٌ اللّفافُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَ امْرِئٍ عَاقَبَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ الْعِلْمَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ عَمَلِ الْعُلَمَاءِ، وَالثَّانِي يَرْزُقُهُ صُحْبَةَ الصَّالِحِينَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ حُقُوقِهِمْ، وَالثَّالِثُ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الطَّاعَاتِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ إِخْلَاصِ الْعَمَلِ.
إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِخُبْثِ نِيَّتِهِ وَسُوءِ سَرِيرَتِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَرَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْفَعَةَ الْعِلْمِ وَالْإِخْلَاصَ لِلْعَمَلِ وَمَعْرِفَةَ حُرْمَةِ الصَّالِحِينَ.
أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جَبَلَةَ الْيَحْصُبِيُّ، قَالَ: كُنَّا فِي غَزْوَةٍ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَصَحِبَنَا رَجُلٌ مِسْهَارٌ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، فَمَكَثْنَا أَيَّامًا لَا نَعْرِفُهُ ثُمَّ عَرَفْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا أَنَّ قَائِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَ النَّجَاةُ غَدًا؟ قَالَ: «أَنْ لَا تُخَادِعَ اللَّهَ» ، قَالَ: وَكَيْفَ نُخَادِعُ اللَّهَ؟ قَالَ: " أَنْ تَعْمَلَ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ وَتُرِيدُ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، وَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَإِنَّ الْمُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا غَادِرُ، يَا خَاسِرُ، ضَلَّ عَمَلُكَ وَبَطَلَ أَجْرُكَ، فَلَا خَلَاقَ لَكَ الْيَوْمَ، فَالْتَمِسْ أَجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ ".
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ أَكُونَ قَدْ أَخْطَأْتُ شَيْئًا لَمْ أَكُنْ أَتَعَمَّدُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: ١٤٢] .
مَنْ أَرَادَ أَنْ يَجِدَ ثَوَابَ عَمَلِهِ فِي الْآخِرَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ رِيَاءٍ ثُمَّ يَنْسَى ذَلِكَ الْعَمَلَ لِكَيْلَا يُبْطِلَهُ الْعُجْبُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ حِفْظُ الطَّاعَةِ أَشَدُّ مِنْ فِعْلِهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ: حِفْظُ الطَّاعَةِ أَشَدُّ مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ مَثَلَهَا كَمَثَلِ الزُّجَاجِ سَرِيعُ الْكَسْرِ، وَلَا يَقْبَلُ الْجَبْرَ، كَذَلِكَ الْعَمَلُ إِنْ مَسَّهُ الرِّيَاءُ كَسَرَهُ، وَإِذَا مَسَّهُ الْعُجْبُ كَسَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا وَخَافَ الرِّيَاءَ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُخْرِجَ الرِّيَاءَ مِنْ قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ وَلَا يَتْرُكَ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا فَعَلَ فِيهِ مِنَ الرِّيَاءِ فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْإِخْلَاصِ فِي عَمَلٍ آخَرَ.
وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ الدُّنْيَا خَرِبَتْ مُنْذُ مَاتَ الْمُرَاءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ، مِثْلَ الرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، فَكَانَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلرِّيَاءِ فَرُبَّمَا يَنْفَعُهُ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَنَى رِبَاطًا وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَا أَدْرِي أَكَانَ عَمَلِي هَذَا للَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ لَكَ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسُرَّ بِذَلِكَ.
وَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوْ هَلَكُوا مَا انْتَصَفْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَى الْغَزْوِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ.
وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: يُؤَيِّدُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقُوَّةِ الْمُنَافِقِينَ وَيَنْصُرُ الْمُنَافِقِينَ بِدَعْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي الْفَرَائِضِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الرِّيَاءُ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَإِذَا مَا أَدَّى مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا.
هَذَا عِنْدِي عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ كَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ رِئَاءَ النَّاسَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رِئَاءَ النَّاسِ لَكَانَ لَا يُؤَدِّيهَا فَهَذَا مُنَافِقٌ نَامٍ وَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: ١٤٥] ، يَعْنِي فِي الْهَاوِيَةِ مَعَ آلِ فِرْعَوْن، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْحِيدُهُ صَحِيحًا خَالِصًا لَكَانَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ، إِلَّا أَنَّهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ النَّاسِ أَحْسَنُ وَأَتَمُّ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يُؤَدِّيهَا نَاقِصَةً، فَلَهُ الثَّوَابُ النَّاقِصُ وَلَا ثَوَابَ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا مُحَاسَبٌ عَلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ