Download kitab pdf terlengkap AswajaPedia Klik di sini

تَنْبِيْهُ الغَافِلِينَ بَابُ: هَوْلِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ || Tanbihul Ghofilin || Bab Ngerinya Kematian Dan Kegetirannya


تَنْبِيْهُ الغَافِلِينَ

تأليف
الإمام الفقيه أبى الليث نصر بن محمد الحنفى السمرقندى
(ت ٣٧٣ ه)

بَابُ: هَوْلِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ , حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ الْمَرْوَزِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ , عَنْ حُمَيْدٍ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ» أَيِ الْمَصِيرَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ عِنْدَ النَّزْعِ فِي حَالَةٍ لَا يُقْبَلُ الْإِيمَانُ فِيهَا يُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ فَيَكُونُ مَوْتُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ حَيَاتِهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ أَيْ أَفَاضَ عَلَيْهِ فَضْلَهُ وَأَكْثَرَ الْعَطَايَا لَهُ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ عَلَى مَا فَسَّرُوهَا مَيَلَانُ النَّفْسِ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَيُحْمَلُ عَلَى اللَّهِ غَايَتُهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ " فَإِنَّ الْكَافِرَ حِينَ يَرَى مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ يَبْكِي لِضَلَالِهِ وَيَكْرَهُ الْمَمَاتَ فَيَكْرَهُ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَعْنَى كَرَاهَةِ اللَّهِ لَهُ تَبْعِيدُهُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَإِرَادَةِ نِقْمَتِهِ، لَا الْكَرَاهِيَةُ الَّتِي هِيَ الْمَشَقَّةُ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ إِسْنَادُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ حُبَّهُمْ لِقَاءَ اللَّهِ سَبَبُ حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ، وَلَا أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ سَبَبٌ لِكَرَاهَتِهِ، بَلِ الْغَرَضُ بَيَانُ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ لِقَاءَ اللَّهِ حِينَ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ صِفَةٌ لِلَّهِ وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَابِعَةٌ لَهَا، وَمُنْعَكِسَةٌ مِنْهَا، كَظُهُورِ عَكْسِ الْمَاءِ عَلَى الْجِدَارِ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا شَغَلَهُ بِهِ، وَفِي تَقْدِيمِ «يُحِبُّهُمْ» عَلَى «يُحِبُّونَهُ» فِي الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ: أَذَاقَنَا اللَّهُ لِقَاءَ مَحَبَّتِهِ وَأَكْرَمَنَا بِهَا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ بِكَرَاهَةٍ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ، أَوْ قَالَ الْكَافِرَ، إِذَا احْتُضِرَ جَاءَهُ النَّذِيرُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، فَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ فَمَا ذَهَبَتْ مَرَارَةُ الْمَوْتِ مِنِّي، حَتَّى كَأَنَّهُ الْآنَ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتُ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ "

قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَرْثِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: «قَدْرُ شِدَّةِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَقَدْرِ ثَلاثِ مِائَةِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ» .
قَالَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِالِاجْتِنَابِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يَنْزِلُ بِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ الْمَوْتِ وَمَرَارَتَهُ نَصِيحَةً مِنْهُ لِأُمَّتِهِ، لِكَيْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ وَيَصْبِرُوا عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا.

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِسْوَرٍ الْهَاشِمِيِّ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ قَالَ: «مَا صَنَعْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ» قَالَ: وَمَا رَأْسُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: «هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ نَعَمْ.
قَالَ: «فَمَاذَا فَعَلْتَ فِي حَقِّهِ؟» قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ: «وَهَلْ عَرَفْتَ الْمَوْتَ» قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: «فَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهُ؟» قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ: «اذْهَبْ فَاحْكُمْ بِمَا هُنَاكَ ثُمَّ تَعَالَ حَتَّى أُعَلِّمَكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ» .
فَلَمَّا جَاءَ بَعْدَ سِنِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى قَلْبِكَ؛ فَمَا لَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ لَا تَرْضَهُ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ.
وَمَا رَضِيتَهُ لِنَفْسِكَ فَارْضَهُ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ» .
وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ مِنْ رَأْسِ

الْعِلْمِ، فَالْأَوْلَى: أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ. . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِسْوَرٍ الْهَاشِمِيِّ , قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: ١٢٥] ، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ نُورُ الْإِسْلَامِ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ» .
فَقِيلَ: هَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ»
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مِهْرَانَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ، شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» .
فَقَدْ جَمَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْخَمْسِ عِلْمًا كَثِيرًا، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي حَالِ شَبَابِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي حَالِ هِرَمِهِ، وَلِأَنَّ الشَّبَابَ إِذَا تَعَوَّدَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهَا فِي حَالِ هِرَمِهِ، فَيَنْبَغِي لِلشَّابِّ أَنْ يَتَعَوَّدَ فِي حَالِ شَبَابِهِ أَعْمَالَ الْخَيْرِ لِتَسْهُلَ عَلَيْهِ فِي حَالِ هِرَمِهِ.
وَقَوْلُهُ: صِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ نَافِذُ الْأَمْرِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي لِلصَّحِيحِ أَنْ يَغْتَنِمَ صِحَّتَهُ وَيَجْتَهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي مَالِهِ وَبَدَنِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا مَرِضَ ضَعُفَ بَدَنُهُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَقَصُرَتْ يَدُهُ عَنْ مَالِهِ. إِلَّا فِي مِقْدَارِ ثُلُثِهِ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ يَعْنِي فِي اللَّيْلِ يَكُونُ فَارِغًا وَبِالنَّهَارِ مَشْغُولًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ فِي حَالِ فَرَاغِهِ، وَيَصُومَ بِالنَّهَارِ فِي وَقْتِ شُغْلِهِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ.

كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ، طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «اللَّيْلُ طَوِيلٌ فَلَا تُقَصِّرْهُ بِمَنَامِكَ وَالنَّهَارُ مُضِيء فَلَا تُكَدِّرْهُ بِآثَامِكَ» .
وَقَوْلُهُ: وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، يَعْنِي إِذَا كُنْتَ رَاضِيًا بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْقُوتِ فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ وَلَا تَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ مَا دَامَ حَيًّا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ، فَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُضَيِّعَ أَيَّامَهُ الْفَانِيَةَ، وَيَغْتَنِمَ أَيَّامَهُ الْبَاقِيَةَ.
قَالَ الْحَكِيمُ بِالْفَارِسِيَّةِ: «بكودكي ازى بجوَاني مستي بيبري ستي خداراكي برستي» يَعْنِي: إِذَا كُنْتَ صَبِيًّا تَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، وَإِذَا كَنْتَ شَابًّا غَفَلْتَ بِاللَّهْوِ، وَإِذَا كُنْتَ شَيْخًا صِرْتَ ضَعِيفًا، فَمَتَى تَعْمَلُ لِلَّهِ تَعَالَى.
يَعْنِي لَا تَقْدِرُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِكَ، وَإِنَّمَا تَقْدِرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي حَالِ حَيَاتِكَ وَتَسْتَعِدُّ لِقُدُومِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَتَذْكُرُهُ فِي كُلِّ

وَقْتٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْكَ. . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ أَبْشِرْ يَا مُحَمَّدُ؛ فَإِنِّي بِكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَقْبِضُ رُوحَ ابْنِ آدَمَ فَإِذَا صَرَخَ صَارِخٌ مِنْ أَهْلِهِ قُلْتُ: مَا هَذَا الصُّرَاخُ، فَوَاللَّهِ مَا ظَلَمْنَاهُ وَلَا سَبَقْنَا أَجَلَهُ، وَلَا اسْتَعْجَلْنَا قَدَرَهُ، فَمَا لَنَا فِي قَبْضَةٍ مِنْ ذَنْبٍ، فَإِنْ تَرْضَوْا بِمَا صَنَعَ اللَّهُ تُؤْجَرُوا وَإِنْ تَسْخَطُوا أَوْ تَجْزَعُوا تَأْثَمُوا وَتُؤْزَرُوا وَمَا لَكُمْ عِنْدَنَا مِنْ عُتْبَةٍ، وَإِنَّ لَنَا عَلَيْكُمْ لَبَقِيَّةً وَعَوْدَةً، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ شَعْرٍ أَوْ مَدَرٍ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنِّي لَأَعْرِفُ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، وَأَعْرَفُ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدِرْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُوَن اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْآمِرُ بِقَبْضِهَا ".

وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أُنَاسًا يَضْحَكُونَ قَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى» . ثُمَّ قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ» ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَعْبٍ: يَا كَعْبُ حَدِّثْنَا عَنِ الْمَوْتِ قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ كَشَجَرَةِ شَوْكٍ أُدْخِلَتْ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ فَأَخَذَتْ كُلُّ شَوْكَةٍ بِعِرْقٍ مِنْهُ، ثُمَّ جَذَبَهَا رَجُلٌ شَدِيدُ الْقُوَى، فَقَطَعَ مِنْهَا مَا قَطَعَ وَأَبْقَى مَا أَبْقَى.
وَذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ عِنْدهُ الْمَوْتُ كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَيَّامًا، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا أَدْرِي لَهُ مِنْهَا.
وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرْبَعَةٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ: قَدْرُ الشَّبَابِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الشُّيُوخُ، وَقَدْرُ الْعَافِيَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْبَلَاءِ، وَقَدْرُ الصِّحَّةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمَرْضَى، وَقَدْرُ الْحَيَاةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْمَوْتَى.
هَذَا مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبِي كَثِيرًا مَا يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَمَعَهُ عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ، فَكَيْفَ لَا يَصِفُهُ، قَالَ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَمَعَهُ عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ، فَقُلْتُ يَا أَبَتِ، قَدْ كُنْتَ تَقُولُ: إِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ رَجُلٍ يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَمَعَهُ عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ كَيْفَ لَا يَصِفُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ الْمَوْتُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ، وَلَكِنْ سَأَصِفُ لَكَ مِنْهُ شَيْئًا، وَاللَّهِ كَأَنَّ عَلَى كَتِفَيَّ جَبَلَ رَضْوَى، وَكَأَنَّ رُوحِي تَخْرُجُ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ، وَكَأَنَّ فِي جَوْفِي شَوْكَةَ عَوْسَجٍ، وَكَأَنَّ السَّمَاءَ أُطْبِقَتْ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ حَالِي قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، فَكُنْتُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى قَتْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَا وَيْلَتَاهُ لَوْ مُتُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ هَدَانِي اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَوَلَّانِي عَلَى السَّرَايَا، فَيَا لَيْتَنِي مِتُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَالَ دُعَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَاتَهُ عَلَيَّ، ثُمَّ اشْتَغَلْنَا بَعْدَهُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ أَقُمْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَافَقَنِي النَّاسُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ قَوْلًا، وَخَالَفُونِي فِيهَا فِعْلًا: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّا عَبِيدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْمَلُونَ عَمَلَ الْأَحْرَارِ، وَالثَّانِي قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَفِيلٌ لِأَرْزَاقِنَا، وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا مَعَ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَالثَّالِثُ قَالُوا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَجْمَعُونَ الْمَالَ لِلدُّنْيَا، وَالرَّابِعُ قَالُوا: لَا بُدَّ لَنَا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ قَوْمٍ لَا يَمُوتُونَ..
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ , وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " ثَلَاثٌ أَعْجَبَتْنِي حَتَّى أَضْحَكَتْنِي، وَثَلَاثٌ أَحْزَنَتْنِي حَتَّى أَبْكَتْنِي، فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي أَضْحَكَتْنِي فَأَوَّلُهَا: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، يَعْنِي يُطِيلُ أَمَلَهُ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي الْمَوْتِ، وَالثَّانِي غَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، يَعْنِي يَغْفُلُ عَنِ الْمَوْتِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْقِيَامَةُ، وَالثَّالِثُ ضَاحِكٌ مِلْءَ فِيهِ، لَا يَدْرِي اللَّهُ سَاخِطٌ عَلَيْهِ أَمْ رَاضٍ عَنْهُ،
وَأَمَّا الَّتِي أَبْكَتْنِي فَفُرَاقُ الْأَحِبَّةِ يَعْنِي مَوْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالثَّانِي هَوْلُ الْمَطْلَعِ يَعْنِي نُزُولَ الْمَوْتِ، وَالثَّالِثُ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، لَا أَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَأْمُرُ بِي رَبِّي إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ إِلَى النَّارِ ".

وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُ الْحَيَوَانَاتُ» أَيِ الْبَهَائِمُ «مَا تَعْلَمُونَ مِنَ الْمَوْتِ، مَا أَكَلْتُمْ لَحْمًا سَمِينًا أَبَدًا» .
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ اللّفافِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ؛ تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقُوتِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَ الْمَوْتَ عُوقِبَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ.
وَذُكِرَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ، إِنَّكَ قَدْ أَحْيَيْتَ مَنْ كَانَ حَدِيثَ الْمَوْتِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَيِّتًا فَأَحْيِي لَنَا مَنْ مَاتَ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، فَقَالُوا أَحْيِ لَنَا سَامَ بْنَ نُوحٍ، فَجَاءَ إِلَى قَبْرِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَحْيَا اللَّهُ سَامَ بْنَ نُوحٍ، فَإِذَا رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ قَدِ ابْيَضَّتَا، فَقِيلَ: مَا هَذَا؟ فَإِنَّ الشَّيْبَ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِكَ، قَالَ: سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَظَنَنْتُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ فَشَابَ شَعْرُ رَأْسِي وَلِحْيَتِي مِنَ الْهَيْبَةِ، فَقِيلَ: مُنْذُ كَمْ أَنْتَ مَيِّتٌ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعَةِ آلافِ سَنَةٍ، وَمَا ذَهَبَتْ عَنِّي سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَيُقَالُ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا فَيَكْرَهُ لِمَا لَقِيَ مِنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، إِلَّا الشُّهَدَاءَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شِدَّةَ فَيَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ لِكَيْ يُقَاتِلُوا ثَانِيًا، فَيُقْتَلُوا ثَانِيًا. . وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى , أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لَوْ جَلَسْتَ حَتَّى نَسْمَعَ مِنْكَ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَلَوْ فَرَغْتُ مِنْهَا لَجَلَسْتُ مَعَكُمْ، قِيلَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَوَّلُهَا أَنِّي تَفَكَّرْتُ يَوْمَ الْمِيثَاقِ حِينَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ مِنْ بَنِي آدَمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْتُ أَنَا، وَالثَّانِي تَفَكَّرْتُ بِأَنَّ الْوَلَدِ إِذَا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ خَرَجَ جَوَابِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالثَّالِثُ حِينَ يَنْزِلُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحِي فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَمَعَ الْمُسْلِمينَ أَمْ مَعَ الْكَافِرِينَ، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْرُجُ جَوَابِي، وَالرَّابِعُ تَفَكَّرْتُ فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] ، فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكُونُ.
طُوبَى لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ الْفَهْمَ، وَأَيْقَظَهُ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ، وَوَفَّقَهُ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِ خَاتِمَتِهِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ خَاتِمَتَنَا فِي خَيْرٍ، وَيَجْعَلَ خَاتِمَتَنَا مَعَ الْبِشَارَةِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَهُ بِشَارَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: ٣٠] ، يَعْنِي آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَثَبَتُوا عَلَى الْإِيمَانِ. وَيُقَالُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا يَعْنِي أَدَّوُا الْفَرَائِضَ وَنَهَوْا عَنِ الْمَحَارِمِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَعْنِي اسْتَقَامُوا أَفْعَالًا كَمَا اسْتَقَامُوا أَقْوَالًا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اسْتَقَامُوا عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ. يَعْنِي عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَاسْتَقَامُوا. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا يَعْنِي يَقُولُونَ لَهُمْ لَا تَخَافُوا، مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، يَعْنِي الْجَنَّةَ الَّتِي وَعَدَكُمُ اللَّهُ بِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُقَالُ: الْبِشَارَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَوَّلُهَا: لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنينَ، يُقَالُ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا تَأْبِيدَ الْعَذَابِ، يَعْنِي لَا تَبْقُونَ فِي الْعَذَابِ أَبَدًا، وَيَشْفَعُ لَكُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى فَوَاتِ الثَّوَابِ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ، يَعْنِي مَرْجِعُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَالثَّانِي: لِلْمُخْلِصِينَ، يُقَالُ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا رَدَّ أَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ مَقْبُولَةٌ، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى فَوْتِ الثَّوَابِ، فَإِنَّ لَكُمْ ثَوَابًا مُضَاعَفًا، وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ.
وَالثَّالِثُ: لِلتَّائِبِينَ يُقَالُ لَهُمْ: لَا تَخَافُوا مِنَ ذُنُوبِكُمْ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ لَكُمْ، وَلَا تَحْزَنُوا على فوت الثواب على ما فعلتم بعد التوبة، وعلى ما لم تفعلوا من العلم قبل التوبة، فإني أبدل سيئاتكم حسنات.
والرابع: للزهاد، يقال لهم: لا تحزنوا الحشر والحساب، ولا تحزنوا مِنْ نُقْصَانِ الْأَضْعَافِ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
وَالْخَامِسُ: لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَعَمِلُوا بِالْعِلْمِ يُقَالُ لَهُمْ لَا تَخَافُوا مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَحْزَنُوا فَإِنَّهُ يَجْزِيكُمْ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ لَكُمْ وَلِمَنِ اقْتَدَى بِكُمْ.
وَطُوبَى لِمَنْ كَانَ آخِرُ أَمْرِهِ الْبِشَارَةَ، فَإِنَّمَا تَكُونُ الْبِشَارَةُ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ، فَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ، يَعْنِي حَفَظَتُكُمُ الَّذِينَ كَنَّا نَكْتُبُ أَعْمَالَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَنَبَّهَ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ.
وَعَلَامَةُ مَنِ انْتَبَهَ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا أَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ الدُّنْيَا بِالْقَنَاعَةِ وَالتَّسْوِيفِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِالْحِرْص وَالتَّعْجِيلِ.
وَالثَّالِثُ أَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ الدِّينِ بِالْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ.
وَالرَّابِعُ أَنْ يُدَبِّرَ أَمْرَ الْخُلُقِ بِالنَّصِيحَةِ وَالْمُدَارَاةِ.
وَيُقَالُ: أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ كَانَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ مُقْبِلًا.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَفْعُهُ لِلْخَلْقِ ظَاهِرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ آمِنِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ آيِسًا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ مُسْتَعِدًّا.
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّا خُلِقْنَا لِلْمَوْتِ وَلَا مَهْرَبَ مِنْهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: ١٦] ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {٩٤} وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: ٩٤ - ٩٥] ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّادِقَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ، مِنْ سُوءِ عَمَلِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدِ اسْتَعَدَّ لِلْمَوْتِ فَهُوَ يَتَمَنَّاهُ اشْتِيَاقًا إِلَى رَبِّهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ , أَنَّهُ قَالَ: أُحِبُّ الْفَقْرَ تَوَاضُعًا لِرَبِّي، وَأُحِبُّ الْمَرَضَ تَكْفِيرًا لِلْخَطَايَا، وَأُحِبُّ الْمَوْتَ اشْتِيَاقًا إِلَى رَبِّي. . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ , أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ بَارَّةٍ أَوْ فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ بَارَّةً فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: ١٩٨] وَإِنْ كَانَتْ فَاجِرَةً فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: ١٧٨] .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «الْمَوْتُ رَاحَةُ الْمُؤْمِنِ» .
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» .
قِيلَ وَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا» .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْفَاجِرُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَمَانِيَّ» يَعْنِي الْمَغْفِرَةَ.


Post a Comment

Cookie Consent
We serve cookies on this site to analyze traffic, remember your preferences, and optimize your experience.
Oops!
It seems there is something wrong with your internet connection. Please connect to the internet and start browsing again.
AdBlock Detected!
We have detected that you are using adblocking plugin in your browser.
The revenue we earn by the advertisements is used to manage this website, we request you to whitelist our website in your adblocking plugin.
Site is Blocked
Sorry! This site is not available in your country.